الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويسمِّيه الفقهاء: خلوّ النازلة من قولٍ لمجتهد، أَوْ حدوث ما لا قول فيه للعلماء.
بيان أنّه لا تخلو واقعة من حكم لله:
إنَّ الإِنسان يتسم بالحيوية والنشاط، فهو كائن حي متحرك، ومن العادي أَنْ يَحْدُث له، أَوْ يُحْدِث هو أمورًا مستجدة لم تعرف فيمن قبله، فهي تحتاج إلى حكم، وأفعال العباد جميعًا محكوم عليها بالشرع أمرًا ونهيًا، وإذنًا وعفوًا (1).
يقول الشاطبي (ت: 790 هـ): "فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلَّا والشريعة عليه حاكمة إفرادًا وتركيبًا"(2).
ويقول الجويني (ت: 478 هـ): "إنَّه لا تَخْلُ واقعة عن حكم الله - تعالى - على المتعبدين"(3).
وأدلة الشرع من كتاب وسنة وما تفرع عنهما محيطةٌ بأحكام الحوادث في صغير الأمور، وكبيرها، ودقيقها، وجليلها؛ يقول - تعالى-:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فما من نازلة إلَّا في كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم حكمها، علم ذلك من علمه، وجهله من
(1) إعلام الموقعين 1/ 332، الفتاوى الكبرى لابن تيمية 3/ 263، البحر المحيط للزركشي 1/ 165.
(2)
الموافقات 1/ 78.
(3)
الغياثى 430.
جهله (1)، وسواء وجدنا ذلك مَنْصُوصًا عليه في كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم بجزئه، أَمْ استنبطه المجتهدون منهما، أَوْ مما تفرع عنهما من أصول الشريعة بالقياس، أَوْ بالتخريج على القواعد والأصول، أَوْ بردِّه إلى المقاصد العَامَّة للشريعة؛ تحصيلًا للمصالح، ودفعًا للمفاسد.
يقول الماوردي (ت: 450 هـ): "ليس من حادثة إلَّا ولله فيها حكم قد بيَّنه من تحليل أَوْ تحريم، وأمر ونهي"(2).
فالشريعة ثَرَّةٌ (3) في مصادرها، لا ينضب معينها في نُصُوصها إذا أخذت بعمومها وعللها ومقاصدها؛ يقول سهل بن عبد الله (ت: 283 هـ): "لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فَهْمٍ لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه"(4)، فالنظر في نُصُوص الشريعة يكون بمجموع اللفظ، تسوقه المقاصد اللغوية بسوابقها ولواحقها، وتحكمه المقاصد الشرعية كلية أَوْ جزئية (5)، ومن كان خبيرًا بذلك لم يعوزه حكم النازلة مهما استجدت، يقول ابن تَيْمِيّةَ (ت: 728 هـ): "ومتى قدر الإِنسان على اتباع النُّصوص لم يعدل عنها، وإلَّا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أَنْ تعوز
(1) إعلام الموقعين 1/ 333، 337.
(2)
أدب القاضي 1/ 565.
(3)
ثَرَّ الشيء: غزر وكثر، وثرت الناقة: غزر لبنها [الوسيط لمجمع اللغة 1/ 95].
(4)
البرهان في علوم القرآن 1/ 9.
(5)
الثبات والشمول 320.
النُّصُوص من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام" (1)، فمثلًا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إِلَّا خاطئ" (2) فيه تحريم الاحتكار بشروطه المقررة شرعًا، وهي دلالة خَاصَّة، وفيه نهي المالك عن التصرف في ملكه بما يضر بعَامَّة الناس، وأَنَّه إن فعل ذلك مُنِع منه، وهي دلالة عَامَّة يدخل تحتها ما لا حصر له من الصور، وهذا فيه ردٌّ على من يقول بأَنَّ نُصُوص الشريعة لا تفي بعشر معشار الحوادث، كما فيه ردٌّ على الذين يردَّدون بعض ما ذكره العلماء من أَنَّ النُّصُوصَ معدودة محدودة متناهية، والحوادثَ ممدودة غير معدودة ولا متناهية، ويريدون تَلَمُّس الأحكام من غير الشريعة.
فإنَّ قائلي ذلك من العلماء أرادوا حَثَّ إخوانهم العلماء على الاستنباطِ، وإعمالِ القياس ومصادر الشريعة الأخرى في مواجهة النوازل المستجدة، ولم يريدوا بذلك الانصرافَ عن الشريعة ومصادرها، وتَلَمُّسَ سبل الحكم في غيرها (3).
فحاجة الناس لأحكام الشرع ضرورية وناجزة، يقول ابن القَيِّمِ (ت: 175 هـ): "حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق
(1) الاستقامة 2/ 217، الحسبة 65، مجموع الفتاوى 28/ 129.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
مجموع الفتاوى 19/ 280، الفتاوى الكبرى 1/ 442، الثبات والشمول 437.
حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها" (1).
والواقع العملي لمسيرة أمتنا الفقهية خير شاهد على تفوقها في جانب التشريع؛ إذ إنَّها في مسيرتها الخيرة منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاعِ نزول الوحي وهي تجتهد وتستنبط من الوحيين وأصولهما، وقد اتسعت فتوحاتها، وشرَّقت وغرَّبت، ولم تقف أمامها معضلة فقهية، بل كلما فتحوا بلادًا، وعرضت لهم بعض المشكلات الفقهية التي لم تكن فيمن قبلهم انفتح لهم أُفُقٌ من الاجتهاد والاستنباط عالجوا به ما وجدوه في البلاد المفتوحة من أنماط المعاملات المستجدة والأعراف المختلفة (2).
بل لقد ذكر ابن تَيْمِيَّةَ أَنَّ ملوك النصارى في زمن مضى يردون الناس من سائر رعيتهم للتحاكم في الدماء والأموال إلى حاكم الأقلية المسلمة لديهم ليحكم بينهم بشرع المسلمين؛
(1) مفتاح دار السعادة 2/ 2.
(2)
وهذا لا يعني تطويعَ الشريعة بحسب الأهواء وتبديلَها على تمادي الزمن لاعتبارات طارئة خضوعًا للأهواء والرغبات، فذلك لا نجد له موطئ قدم في الفقه الإِسلامي؛ لأنه تشريع سماوي ليس للفقهاء فيه إلا استنباط الأحكام من دلالة النُّصُوص، أو القياس على عللها، ولئن كانت بعض المسائل متأخرة الاستنباط بحسب التوقيت الزمني للحاجة إليها فتلك مرونة في الفقه وسعة فيه، وليس تبديلًا لأحكامه بحسب الهوى، والرغبات [الخيار لأبو غدة 1/ 248 بتصرف].
لما وجدوه في هذه الشريعة من العدل والإِنْصَاف لأَصْحَاب الحقوق (1).
إنَّنا أمة ذات حضارة لها من الزاد العلمي المعصوم بالوحي ما لا تملكه أمة سواها، وقد كانت أمم الغرب تستضيء بهذا الزاد، ولا زالت؛ فقد كانت الحملات الصليبية تفتش في التراث الفقهي للمسلمين، ونقلت من ذخائره الشيء الكثير (2)، كما كانت تفعل مثل ذلك عند تواصلها مع المسلمين في الأندلس (3)، واستمرت أمم الغرب في إفادتها من التراث الفقهي للمسلمين حتَّى العصر الحاضر؛ فقد حدث الشيخ علي حيدر (والذي كان حيًّا سنة 1327 هـ) عن إجابة علماء المسلمين في عصره عن المعضلات الفقهية لدى أمم الغرب؛ فقال - وهو يتحدث عن مهام دار الإِفتاء في آخر الدولة التركية -:"وقد استُفتِيَتْ دار الاستفتاء هذه في بعض الأحوال من قبل دول أوربا في بعض المسائل الغامضة الحقوقية"(4).
(1) الجواب الصحيح لابن تيمية 3/ 253.
(2)
أصول المرافعات الشرعية للعمروسي 61، القضاء الإِداري للرفاعي 347 - 350، النظرية العامة للقضاء والإِثبات للتجكاني 157، نحو أدب إسلامي معاصر لأسامة شهاب 163.
(3)
ديوان المظالم لحمدي عبد المنعم 304، 306، الفقه الإِسلامي بين النظرية والتطبيق 225 - 249، وانظر المقارنة بين القانون الفرنسي والفقه المالكي في كتاب: المقارنات التشريعية للشيخ سيد عبد الله حسين.
(4)
درر الحكام 4/ 566.