الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى المخرج إنعام النظر في القواعد الإِجماعية والمذهبية، وملاحظة ما فيها من الفروق ومناط الاجتماع للحكم، وما يتطلبه من إضافة قيد أَوْ حذفه (1).
القسم الثالث: تخريج الفروع من الفروع المذهبية
.
والمراد به: استخراج حكم من الأحكام الكلية العملية من فرع فقهي (2).
فالقاضي هنا وهو بصدد تقرير الحكم الكلي الفقهي الملاقي للنازلة يستنبطه من فرع فقهي سبق تقريره، ويلحق النظير بنظيره، إما لاتحادهما في الأصل، أَوْ لعدم الفارق، أَوْ غير ذلك (3).
قال في الإِنْصَاف: "وإن نَصَّ -يعني الإِمام أحمد- في مسألة على حكم وعلله بعلة فوجدت تلك العلة في مسائل فمذهبه في تلك المسائل كالمسألة المعللة، قدمه في الرعاية والفروع
…
وقيل: لا" (4).
(1) الإِحكام للقرافي 120 - 121، الفروق 1/ 107، الموافقات 4/ 98 - 99.
(2)
المسودة لآل تيمية 475، الإِنصاف 1/ 6، 12/ 257، المدخل المفصل 1/ 281، تخريج الفروع على الأصول لشوشان 1/ 65.
(3)
المجموع 1/ 79، شرح مختصر الروضة 3/ 641، شرح الكوكب المنير 4/ 499، أدب المفتي لابن الصلاح 96، 97، تحرير المقال 44.
(4)
12/ 252.
وأَجْمَعُ طرق تخريج الفروع من الفروع هو رد المسألة المُخَرَّج عليها إلى أصلها (علتها)، ومن ثَمَّ تُخرَّج النازلة على ذلك الأصل إذا اتحدا فيه ولم يثبت ما يوجب الفرق بينهما أَوْ الاستثناء والعدول عن ذلك الأصل (1).
فإنَّ الفقيه ليس الذي يكثر من حفظ الفروع، بل هو الذي يستطيع رد الفروع إلى أصولها، ويخرِّج على الأصول فروعًا جديدة، ولقد كان منهج السلف وغرضهم في المناظرات العلمية فهم الأحكام، والوقوف على صوابها، وأصلها، وعللها؛ لتجرى على نظائرها.
وفي ذلك يقول ابن عبد البر (ت: 463 هـ): "واعلم أَنّه لم تكن مناظرة بين اثنين أَوْ جماعة من السلف إلَّا لتفهم وجه الصواب، فيصار إليه، ويعرف أصل القول وعلته، فيُجْرِي عليه أمثلته ونظائره"(2).
ولقد كشف بعض العلماء عن غرضه من التأليف في العلم، وأنَّه معرفة أصول المسائل وإتقانها؛ ليرتاض بذلك المطلع عليها،
(1) الإنصاف 12/ 252، وانظر تفصيلًا لمصادر تخريج الفروع على الفروع، وطرق التخريج في كتاب: التخريج للباحسين 189، 246، المدخل المفصل 2/ 1137.
(2)
جامع بيان العلم وفضله 2/ 1137.
فيسهل عليه الرد إليها والتخريج عليها، وأَنَّ الفقيه لا يكون فقيهًا إلَّا بذلك لا بكثرة حفظ الجزئيات والفروع الفقهية.
يقول ابن رشد (ت: 595 هـ) - بصدد غرضه من تأليف كتابه "بداية المجتهد"-: "لكن لما كان قصدنا إنَّما هو ذكر المسائل التي هي منطوق بها في الشرع، أَوْ قريب من المنطوق بها
…
فإنَّ هذا الكتاب إنَّما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حَصَّل ما يجب له أَنْ يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو، واللغة، وصناعة أصول الفقه، ويكفي من ذلك ما هو مساوٍ لجرم هذا الكتاب أَوْ أقل، وبهذه الرتبة يسمى فقيهًا، لا بحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أَنْ يحفظه إنسان، كما نجد متفقهة زماننا يظنون أَنَّ الفقيه هو الذي حفظ مسائل أكثر، وهؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أَنَّ الخَفَّاف هو الَّذي عنده خِفَاف كثيرة، لا الَّذي يقدر على عملها، وهو بَيِّنٌ أَنَّ الَّذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقَدَمٍ لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الَّذي يصنع لكل قَدَمٍ خُفًّا يوافقه، فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت" (1).
والقاضي والمفتي لا يخرج فرعًا على آخر إلَّا إذا كان ذا معرفة بقواعد مذهبه، ومواطن الإِجماع فيه وموجبات الافتراق؛ حتَّى
(1) بداية المجتهد 2/ 195.
يستطيع رد الفرع لأصله والتخريج عليه مع عدم تناقضه مع إجماع، أَوْ أصل، أَوْ قاعدة أخرى، يقول القرافي (ت: 684 هـ): "لا يجوز لمفت أَنْ يخرِّج غير المَنْصُوص على المَنْصُوص إِلَّا إذا كان شديد الاستحضار لقواعد مذهبه، ومواطن الإِجماع، وبقدر ضعفه في ذلك يتجه منعه من التخريج"(1).
ومن أمثلة تخريج الفروع على الفروع: ما كثر وقوعه في عصرنا من اشتراط البائع على المشتري بثمن مؤجل على أقساط بأَنَّه متى تأخر عن تسديد قسط حَلَّ جميع الثمن المؤجل.
فهذه المسألة قد نَصَّ عليها فقهاء الحنفية (2)، وابن القَيِّمِ من الحنابلة (3)، والمجمع الفقهي بجدة (4)، وقرروا صِحَّة شرط حلول بقية الثمن المؤجل.
لكن الَّذي يبتغي تقرير مذهب الحنابلة في هذه المسألة لا تسعفه النُّصُوص الفقهية الصريحة في ذلك.
لكن يمكن تخريجها على بعض الفروع المقررة عند فقهاء المذهب، فقد ذكر في الإِنْصَاف في صورة بيع الرهن بإذن المرتهن
(1) الإِحكام 121.
(2)
جامع الفصولين 2/ 40.
(3)
إعلام الموقعين 4/ 39.
(4)
قرار المجمع المذكور رقم 531/ 2/ 6.
بشرط تعجيل دينه من ثمن الرهن، وقَرَّرَ صِحَّة البيع ويلغو الشرط قولًا واحدًا (1)، قال في الإِنْصَاف (2):"قاله في المحرر (3) وغيره".
وعلل في الكشاف لعدم صِحَّة الشرط: بأَنَّ التأجيل أخذ قسطًا من الثمن، فإذا سقط بعض مدة الأجل لأجل مقابلة الإِذن فقد أذن بعوض، وهو يقابل الباقي من مدة الأجل من الثمن، وهذا لا يجوز أخذ العوض عليه (4).
وأطلق في المغني، فقال:"وإن إذن فيه - أي في بيع الرهن - بشرط أَنْ يجعل ثمنه مكانه رهنًا أَوْ يعجل له دينه من ثمنه جاز ولزم"(5).
قال في الإِنْصَاف: "وقال في الهداية، والمذهب، والخلاصة، وغيرهم: يَصِحُّ الشرط، وجزم به الشارح"(6).
ولم أقف على تعليل لهذا القول عند من ذكره.
وفي قول: لا يَصِحُّ البيع مطلقًا (7).
(1) الإِنصاف 5/ 175، 158.
(2)
المرجع السابق.
(3)
المحرر 1/ 336.
(4)
الكشاف 3/ 338.
(5)
4/ 451.
(6)
5/ 158
(7)
الإنصاف 5/ 157.
وفي صورة أخرى ذكر في المغني (1): عدم لزوم ضمان الدين المؤجل حالًّا، بل يلزمه مؤجلًا على صفة وجوبه على المدين.
وعلل: بأَنَّ المدين لو التزم بالدين المؤجل حالًّا لم يحل لذلك.
وذكر في المغني - احتمالًا - صِحَّةَ ضمان الدين المؤجل حالًّا؛ فقال: "وقيل: يحتمل أَنْ يَصِحَّ ضمان الدين المؤجل حالًّا، كما يَصِحُّ ضمان الحالّ مؤجلًا؛ قياسًا لإِحداهما على الأخرى"(2).
وعلى هذا يتخرج عند الحنابلة في هذه المسألة - وهي شرط تعجيل الثمن المؤجل قبل حلوله إذا تأخر في تسليمه - قولان، هما:
الأول: بطلان الشرط مع صِحَّة العقد.
إعمالًا لعلة عدم صِحَّة شرط تعجيل المؤجل من ثمن المبيع المرهون، وهي عدم المعاوضة على الأجل.
ولعلة عدم صِحَّة ضمان الدين المؤجل حالًّا؛ لأَنَّ الدين المؤجل لا يحلُّ بالتزام تعجيله.
(1) 7/ 83 (ط: هجر).
(2)
المرجع السابق.
الثاني: صِحَّة الشرط والعقد.
ولم يصرح قائلوه بما استدلوا به، ولعلهم استندوا إلى أَنَّ الأصل صِحَّة العقود والشروط.
والقول الأول أظهر؛ لأَنَّ تَصْحِيح هذا الشرط يفضي إلى أَنْ يأخذ رب الحق دينه كاملًا بما في ذلك ما كان من زيادة مقابل الأجل، الَّذي لم يحلّ، وهذا أكل لأموال الناس بالباطل، وهو منهي عنه، يقول - تعالى -:{وَلَا تَأْكُلُمُوَاْ أَمْواَلَكُم بَيْنَكَمُ بالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
فالمتعاقدان قد دخلا في العقد على المعاوضة على أَنْ يكون الثمن مؤجلًا، وجرى زيادة الثمن مراعي فيه التأجيل، فاشتراط ما يعارض ذلك من حلول الثمن عند التأخر في تسليم بعض الأقساط وإسقاط التأجيل الَّذي أخذ قسطًا من الثمن مخالفٌ لما تعاقد عليه الطرفان؛ لأَنَّهما دخلا في العقد على المعاوضة واشْتُرِط فيه ما يخالف المعاوضة، فبعض الثمن الحالّ بالشرط قد أخذ من غير عوض فيكون الشرط باطلًا؛ لأَنَّه من أكل أموال الناس بالباطل (1).
ولا يعارض ما رجحته أصلَ صِحَّة العقود والشروط، لأَنَّ هذا الأصل مراعى ما لم يحل حرامًا، أَوْ يحرم حلالًا، وقد بيّنَّا أَنَّ هذا
(1) انظر في تقرير منع اشتراط ما يعارض المعاوضة في العقد بدون مقابل [القبس 2/ 787]، ثم إنه بعد تقرير ذلك وقفت على فتوى للجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية، ووجدت ما قررته موافقًا لها، وهي الفتوى ذات الرقم 18796 [انظر: 13/ 181 من هذه الفتاوى].