الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموضوع الثالث مشروعية تَوْصِيف الأَقْضِيَة
إنَّ تَوْصِيف الأَقْضِيَة بتحلية الواقعة القضائية بالأوصاف الشرعية المقررة في الحكم الكلي عمل لا بُدَّ منه لكل قاض، فهو من الاجتهاد المأمور به في القضاء، ويَدُلُّ على مشروعيته: السُّنَّة، والإِجماع، والمعنى، والمعقول، وبيان ذلك فيما يلي:
أوَّلًا: السُّنَّة:
1 -
عن أنس بن مالك- رضي الله عنه قال: "أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم، فقيل: تُصُدِّق به على بريرة، قال: هو لها صدقة ولنا هدية"(1).
فهنا نجد أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وَصَّفَ بذل اللحم لبريرة بأَنَّه صدقة؛ لأَنَّها مستحقة، ولها أخذ الصدقة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل من الصدقات، ومع ذلك همَّ بالأكل منه؛ لأَنَّ بذله من بريرة للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، وهو
(1) متفق عليه، فقد رواه البخاري (الفتح 5/ 203، 9/ 404)، وهو برقم 2577، 5279، ومسلم (2/ 755)، وهو برقم 1074.
يأكل الهدية، فجهة الصدقة عليها غير جهة الهدية منها، والتحريم الكلي على الصفة لا على العين (1)، وقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم تَوْصِيف الواقعة بنفسه، فدَلَّ على مشروعية تَوْصيف الواقعة في الإِفتاء والقضاء.
2 -
عن عمرو بن العاص- رضي الله عنه أَنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمَّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمَّ أخطأ فله أجر"(2).
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم القاضي بالاجتهاد إذا أراد الحكم، وأخبر بما له من الأجر (3)، ومن اجتهاد القاضي تَوْصِيف القضية بتحلية الواقعة بالأوصاف الشرعية المقررة في الحكم الكلي.
يقول ابن سعدي (ت: 1376 هـ): في شرح هذا الحديث: "ودَلَّ على أَنَّه لا بُدَّ للحاكم من الاجتهاد، وهو نوعان: اجتهاد في إدخال القضية التي وقع فيها التحاكم بالأحكام الشرعية، واجتهاد في تنفيذ ذلك الحق على القريب والصديق وضدهما
…
" (4)، فإدخال الواقعة في الحكم الشرعي هو التَّوصيف للقضية، وهو اجتهاد لا بُدَّ منه.
(1) فتح الباري 5/ 204، 9/ 414، بدائع الفوائد 4/ 1342.
(2)
متفق عليه، واللفظ لمسلم، فقد رواه البخاري (الفتح 13/ 718)، وهو برقم 7352، ومسلم (3/ 1342)، وهو برقم 1716.
(3)
تفسير القرطبي 11/ 310.
(4)
بهجة قلوب الأبرار 148.
3 -
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة أَنَّه قد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان"(1).
وإنَّما وقع النهي من النبي صلى الله عليه وسلم للقاضي عن القضاء وهو غضبان حتى لا يخل باجتهاده في تنزيل الحكم الكلي على الواقعة القضائية، فدَلَّ على مشروعية التَّوْصِيف.
يقول ابن سعدي: "إنَّ النهي عن الحكم في حال الغضب ونحوه مقصود لغيره، وهو أَنَّه ينبغي للحاكم ألَّا يحكم حتى يحيط علمًا بالحكم الشرعي الكلي، وبالقضية الجزئية من جميع أطرافها، ويحسن كيف يطبقها على الحكم الشرعي، فإنَّ الحاكم محتاج إلى هذه الأمور الثلاثة:
الأول: العلم بالطرق الشرعية التي وضعها الشارع لفصل الخصومات والحكم بين الناس.
الثاني: أَنْ يفهم ما بين الخصمين من الخصومة، ويتصورها تصورًا تَامًّا، ويدع كل واحد منهما يدلي بحجته، ويشرح قضيته شرحًا تَامًّا، ثم إذا تحقق ذلك وأحاط به علمًا احتاج إلى الأمر الثالث.
الثالث: هو صفة تطبيقها وإدخالها في الأحكام الشرعية.
فمتى وفق لهذه الأمور الثلاثة وقصد العدل وُفِّق له وهدي إليه،
(1) متفق عليه، واللفظ لمسلم، فقد رواه البخاري (الفتح 13/ 136)، وهو برقم 7185، ومسلم (3/ 1342)، وهو برقم 1717.
ومتى فاته واحد منها حصل له الغلط واختل الحكم" (1).
فإدخال الواقعة في الحكم الكلي هو التَّوْصِيف المطلوب، وهو اجتهاد لا بُدَّ منه للقاضي، فدَلَّ على مشروعيته.
4 -
وفَعَلَه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزَّل الأحكام الكلية على الوقائع الجزئية؛ فلما كسرت الرُّبيِّع عمة أنس بن النضر ثنية جارية اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوا إلَّا القصاص، فقضى بكسر ثنية الربيع قصاصًا؛ تطبيقًا لقوله- تعالى-:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45](2).
فعن أنس: "أَنَّ الرُّبَيِّع- عمته- كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش (3)، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلَّا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ ! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها (4)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس، كتاب الله القصاص، فرضي
(1) بهجة قلوب الأبرار 240.
(2)
شرح مسلم للنووي 11/ 162 - 163، فتح الباري 8/ 177.
(3)
الأرش: ما يأخذه المجني عليه عما أصابه من الجنايات والجراحات جبرًا لما حصل فيها من النقص. [النهاية في غريب الحديث: 1/ 39].
(4)
قوله: "لا تكسر ثنيتها" المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص بالعفو، لا رد الحكم الشرعي [شرح مسلم للنووي 11/ 163].