الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الحاجة إلى المقاصد عند تفسير نُصُوص الأحكام الكلية
إنَّ مقاصد الشريعة تأتي عاضدة لتعدية حكم أصل لفرع لكونها مناطًا له، فتكون وسيلة لتوسيع الاجتهاد وتمكينه وإنضاجه وتقويمه، غير أَنّها لا تقتصر على ذلك فحسب، بل تكون وسيلة لفهم النُّصُوص وتفسيرها.
فالألفاظ هي معرفات ودلائل على المعاني، وقد يشتبه في معناها عند تفسيرها، أَوْ تتعارض الدلالات والمعاني، فيستعان على ذلك بما عهد عن قائلها مراعاته من أمور كلية يهتدى بها إلى مراده، وهكذا شأن نُصُوص الشريعة، قد يغمض تفسيرها، ويستغلق فهمها، أَوْ تتعارض الدلالات والمعاني، فتأتي مقاصد الشريعة أَوْ حكمة الشرعية كاشفة وهادية لذلك المعنى، أَوْ مرجحة دلالة على أخرى، أَوْ معنى على آخر.
فمعرفة مقاصد الشرع العَامَّة أَوْ حكمة التشريع في حكم خَاصّ
مما يعين على فهم النَّصّ، كما يرجح احتمالًا في التفسير على آخر، أَوْ قولًا في الترجيح على آخر، فالألفاظ لا تراد لذاتها، وإنَّما لما تحمله من معنى ربما دَلَّت عليه تلك المقاصد، فكشفت مغلق اللفظ وبيَّنَتْه.
فالواجب أَنْ يعطى اللفظ حقه، والمقصد حقه؛ لكشف المعنى وتقريره، ولا يستقيم لمن رام تفسيرًا لنَصٍّ شرعي مشكل أَنْ يهمل مراعاة المقاصد الشرعية لإيضاح النَّصّ وبيانه، ولا يتبع المقاصد في ظنه مهدرًا دلالة الألفاظ (1)، "فالمقصود أَنَّ الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني: ألَّا يُتَجَاوَز بألفاظها ومعانيها، ولا يقصر بها، ويعطى اللفظ حقه، والمعنى حقه" (2)؛ "لأَنَّه ليس عندنا عقلٌ محضٌ نتبعه، ولا لفظٌ مجردٌ نحتكم إليه، وإنَّما العبرة بمجموع اللفظ والمعنى، تسوقه المقاصد اللغوية وتحكمه المقاصد الشرعية" (3).
(1) الموافقات 2/ 95، 393، 3/ 409، 413، الاعتصام 1/ 241 - 245، الإِبهاج 1/ 8، مقاصد الشريعة 15، 27، الثبات والشمول 252، 259، التشريع الجنائي 1/ 207، المناهج الأصولية 60، 71، 85، نظرية المصلحة لحسان صفحة: م، الإِثراء على حساب الغير بلا سبب 119، نظرية المقاصد للريسوني 258، 271، 331، 332، 335، مقاصد الشريعة لليوبي 469، 478، 512، 632.
(2)
إعلام الموقعين 1/ 225.
(3)
الثبات والشمول 320، وانظر الموافقات 3/ 409، 7 - 15.
فالعبرة عند تفسير النصُوص بالألفاظ مقرونة بسوابقها ولواحقها (1)، ومقاصد الشريعة كلية أَوْ جزئية مما يساعد على كشف المعنى وإظهاره.
ولقد اشترط بعض العلماء في الفقيه مجتهدا أَوْ مقلدًا، وفي مُنَزِّل الأحكام على الوقائع قاضيًا أَوْ مفتيًا- معرفةَ مقاصد الشريعة (2)، وما ذاك إلا لأهميتها ومكانتها في الاستدلال وتفسير النُّصُوص والأحكام.
يقول الشاطبي (ت: 790 هـ): "إنَّما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين؛ أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها
…
فإذا بلغ الإِنسان مبلغًا فَهِمَ عن الشارع فيه قَصْدَه في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصفٌ هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله" (3).
ومتى انكشفت دلالة اللفظ بذاته أَوْ بغيره من الأدلة على المراد فلا مساغ للاجتهاد في مورد النَّصّ؛ لأَنَّ اتباع
(1) الموافقات 3/ 413.
(2)
الفروق 2/ 107، الموافقات 4/ 106، الثبات والشمول 252، نظرية المقاصد 330.
(3)
الموافقات 4/ 105.
المصالح مع مناقضة النَّصّ باطل (1).
فلا تجعل المقاصد وسائلَ لِإهدار النُّصُوص الواضحة المفسرة، ولا تهمل مراعاتها في تفسير المجمل، وتوضيح المشكل، وتأويل الظاهر عند القرينة، وتعدية الحكم من النظير إلى نظيره.
* * *
(1) شفاء العليل 220.
فائدة: الرأي ليس مستندًا للأحكام ابتداءً، وإنما وظيقه الاستنباط وتعدية الحكم من النَّصّ لنظيره، يقول السرخسي: والرأي لا يصلح لنصب الحكم ابتداءً، وإنما هو لتعدية حكم النَّصّ إلى نظيره مما لا نص فيه. [أصول السرخسي 2/ 62].
ويقول أبو زهرة: "والرأي قد فهم كثيرون من علماء الأصول أنه القياس
…
والحقيقة أن الرأي الذي كان معروفًا عند الصَّحَابة يشمل هذا، ويشمل الاجتهاد بالمصلحة فيما لا نص فيه- ثم قال-: والحق أن الاجتهاد بالرأي تأمل وتفكر في تعرف ما هو الأقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أكان يتعرف ذلك الأقرب من نص معين، وذلك هو القياس، أم الأقرب للمقاصد العامة للشريعة، وذلك هو المصلحة". [تاريخ المذاهب الإِسلامية 2/ 16].