الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا تقع فيه الفرقة إذا عُثِرَ عليه بعد الدخول؛ مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التَّصْحِيح" (1).
ثالثًا: المذهب الشافعي:
يقول السبكي (ت: 756 هـ): "إذا قصد المفتي الأخذ بالقول المرجوح مصلحةً دينية جاز"(2).
رابعًا: المذهب الحنبلي:
(أ) يقول الرحيباني (ت: 1240 هـ) بعد أن ذكر جواز التقليد لبعض العلماء فيما قالوا به مثل تقليد داود الظاهري (ت: 270 هـ) في حِلِّ شحم الخنزير، وتقليد ابن حزم (ت: 456 هـ) في جواز اللبث في المسجد للجنب، وتقليد ابن تَيْمِيَّةَ (ت: 728 هـ) في إمضاء الطلاق الثلاث إذا كان دفعة واحدة طلقة واحدة، قال:"فمن وقف على هذه الأقوال، وثبت عنده نسبتها لهؤلاء الرجال، يجوز له العمل بمقتضاها عند الاحتياج إليه خصوصًا ما دعته الضرورة إليه، وهو متجه"(3).
(ب) كما يقول ابن بدران (ت: 1346 هـ): "إنَّ المفتي المقلد لمذهب له أَنْ يفتي عند الحاجة بقول مرجوح في مذهبه"(4).
(1) الموافقات 4/ 203، 205.
(2)
الفوائد المدنية 236.
(3)
مطالب أولي النهى 6/ 446، 447.
(4)
العقود الياقوتية 143.
(ج) وقرر الشيخ محمد بن إبراهيم - من معاصري الحنابلة - (ت: 1389 هـ) ذلك في مواضع من فتاواه (1)، من ذلك قوله: "المسألة الخلافية إذا وقعت فيها الضرورة
…
جاز للمفتي أَنْ يأخذ بالقول الآخر من أقوال أهل العلم الذي فيه الرخصة" (2)، وقال في موضع آخر: "
…
وهذا من شيخ الإِسلام -يعني ابن تَيْمِيَّةَ- رحمه الله بناءً على قاعدة ذكرها في بعض كتبه، وهو أَنّه إذا ثبتت الضرورة جاز العمل بالقول المرجوح نظرًا للمصلحة، ولا يتخذ عامًّا في كل قضية، بل الضرورة تقدر بقدرها، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا" (3).
(د) وجاء في القرار ذي الرقم 3 والتاريخ 7/ 1/ 1347 هـ للهيئة القضائية السعودية ما نَصُّ المقصود منه: "فقرة (أ): أَنْ يكون
(1) فتاوى ورسائل 2/ 16، 19، 21، 8/ 64، 152 - 153، 11/ 12، 14، 272، 12/ 61 - 62.
(2)
فتاوى ورسائل 11/ 272.
(3)
فتاوى ورسائل 11/ 72، وفي مجموع الفتاوى لابن تيمية 24/ 195: "ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يَدَعَ الإمام -يعني إمام الصلاة- ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين
…
ولو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أو الجهر بها، وكان المأموم على خلاف رأيه ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزًا حسنًا"، وقال في موضع آخر: "
…
وعلى هذا الأصل يبنى جواز العدول أحيانًا عن بعض سنة الخلفاء" [مجموع الفتاوى 35/ 29].
مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقًا على المفتى به من مذهب الإِمام أحمد بن حنبل نظرًا لسهولة مراجعة كتبه، والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله" (1).
كما جاء فيه: "فقرة (ب): إذا صار جريان المحاكم الشرعية عند التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور، ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقةً ومخالفة لمصلحة العموم- يجوز النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة، ويقرر السير على ذلك المذهب؛ مراعاة لما ذكر"(2).
شروط العمل بالقول المرجوح في القضاء:
لقد اشترط الفقهاء المجيزون للأخذ بالقول المرجوح عند الاقتضاء شروطًا تعود في جملتها إلى الشروط الآتية:
1 -
ألَّا يخالف القول المعدول إليه دليلًا صريحًا من الكتاب والسنة لا يمكن الجمع بينه وبين أدلة القول الراجح أَوْ المشهور، بل إنَّ أدلة القول المعدول إليه هي الراجحة في هذه الواقعة؛ إذ إنَّ أوصاف النازلة تنطبق على القول المعدول إليه، فكأَنَّ الاختلاف بين القولين اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد؛ لأَنَّ القول الراجح ليس هو
(1) التنظيم القضائي للزحيلي 170، 171، وفي المعنى نفسه: التنظيم القضائي لابن دريب 313.
(2)
المرجع السابق.
عين القول المعدول إليه في هذه النازلة؛ إذ إنَّ النازلة قد زادت، أَوْ نقصت وصفًا أَوْ قيدًا مؤثرًا سَوَّغ العدول عن هذا القول للقول الآخر (1).
يقول الشاطبي (ت: 795 هـ): "فيرجع الأمر إلى أَنَّ النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع؛ لما اقترن به من القرائن المرجحة"(2).
2 -
أَنْ يثبت القول المعدول إليه بطريق صَحِيح لقائله (3)، وعلى القاضي ذكر هذا القول ومستنده عند تسبيب حكمه؛ يقول الشيخ محمد ابن إبراهيم (ت: 1389 هـ): "إنَّه ينبغي لفضيلة القاضي أَنْ يلاحظ
…
عندما يظهر له الحكم في مسألة بخلاف الراجح في المذهب أَنْ يذكر في الصك مستنده في الحكم" (4).
3 -
أَنْ يكون العدول للقول الآخر لضرورة أَوْ حاجة مما هو في رتبة الضروريات والحاجيات لا التحسينيات؛ لأَنَّ ما كان في هذه
(1) نشر البنود 2/ 276، الموافقات 4/ 168 - 173، الفكر السامي 2/ 406، الأشباه والنظائر لابن السبكي 1/ 112، المنثور 2/ 129، 131، الجامع لاختيارات ابن تيمية لموافي 3/ 1389، 1390، فتاوى ورسائل 11، 12.
(2)
الموافقات 4/ 204.
(3)
نشر البنود 2/ 276، فتاوى ورسائل 2/ 16، مطالب أولي النهى 6/ 446.
(4)
فتاوى ورسائل 2/ 16.
الرتبة لا يكون موجبًا للإِعراض عن المشهور (1).
4 -
أَنْ يكون العمل بالقول المعدول إليه مقتصرًا على النازلة المنظورة عند القاضي، ولا يكون ذلك عامًّا في كل قضية، بل إذا زال الموجب عاد للأصل (2)؛ فإنَّ من القواعد المقررة في هذا الباب أَنه:(إذا وجبت مخالفة أصل أَوْ قاعدة وجب تقليل المخالفة ما أمكن)(3)، وبأَنَّه (ما جاز لعذر يبطل بزواله)(4)، و (أَنَّ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا)(5).
5 -
أَنْ يكون الناظر في ذلك متمكنًا من تقدير الضرورات والحاجات (6)، ويبين القاضي هذه الحاجة أَوْ الضرورة في أسباب حكمه على وجه يحمل على القناعة بها، فيبين في حكمه سبب الأخذ بهذا القول من ضرورة أَوْ حاجة، ووجهَ انطباقه على هذه الواقعة.
وليحذر القاضي كل الحذر من أَنْ يحمله على ذلك تشهٍّ، أَوْ
(1) نشر البنود 2/ 276، الفكر السامي 2/ 407، 421، شرح رسم المفتي 26،
مطالب أولي النهى 6/ 147، العقود الياقوتية 143، مقاصد الشريعة 183،
فتاوى ورسائل 2/ 21، 11/ 12، 272.
(2)
فتاوى ورسائل 11/ 472، الفكر السامي 2/ 406.
(3)
قواعد المقري 2/ 502، القاعدة 262.
(4)
الأشباه والنظائر لابن نجيم 86.
(5)
مغني ذوي الأفهام 244.
(6)
الفكر السامي 2/ 407.
هوى (1)؛ فالنظر في ذلك يحتاج من القاضي إلى: "يقظة وافرة، وقريحة باهرة، ودربة مساعدة، وإعانة من الله عاضدة"(2)؛ يقول ابن القَيِّمِ (ت: 751 هـ): "وبالجملة فلا يجوز العمل والإِفتاء في دين الله بالتشهي، والتخيير، وموافقة الغرض؛ فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه، فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه، ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر"(3).
الترجيح:
وبتأمل الأقوال وأدلتها وما اشترطه الفريق الثالث من شروط ظهر لي رجحان القول الثالث؛ لما يلي:
1 -
قوَّة ما استدَلَّ به قائلوه.
2 -
ما قرَّره أَصْحَاب هذا القول من شروط يدفع ما ذكره أَصْحَاب القول الأول من أدلة ومحاذير، ويؤيده ما ذكره الشاطبي من الأخذ بالرأي المرجوح بعد وقوع الفعل إذا كان في إزالته ضرر يوازي مفسدة النهي أَوْ يزيد (4).
(1) العقد المنظم للحكام 2/ 216، إعلام الموقعين 2/ 192، فتاوى ورسائل 2/ 21.
(2)
مقتبس من الإِحكام للقرافي 28.
(3)
إعلام الموقعين 4/ 411.
(4)
الموافقات 4/ 203.
أَمَّا ما ذكره أَصحَاب القول الثاني من اختصاص الأخذ بالمرجوح بالمفتي في خَاصَّة نفسه فغير مسلم؛ لأَنَّ القاضي والمفتي الذي عنده أهلية تقدير الضرورات والحاجات الدافعة إلى العدول عن القول المشهور إلى غيره يستطيع تحقق الضرورة والحاجة أكثر من العَامِّيّ الذي لا يدرك مبناها الشرعي ومسوغات الأخذ بها، فساغ للمفتي والقاضي العمل بغير المشهور عند الاقتضاء بشروطه آنفة الذكر، سواء في خَاصَّة نفسه في الإِفتاء أَمْ لغيره في الحكم والفتوى.
وعلى هذا فإنَّ الأخذ بالقول المرجوح يُعَدُّ استثناءً وعدولًا عن القول الآخر لا يصار إليه إلَّا إذا كان ثَمَّ ضرورة أَوْ حاجة، فهو عندي استحسان فقهي يحصل به العدول من قول لآخر لمقتضٍ شرعي في القضاء والفتيا.
تنبيه: في عدم اشتراط الاجتهاد في الفتيا والقضاء بالقول المرجوح:
يرى بعض الحنفية (1)، والشاطبي من المالكية (2) أَنَّ مراعاة القول الضعيف والعمل به في الفتيا والقضاء إنَّما يكون للمجتهد من الفقهاء دون المقلد؛ لأَنَّ فيه مراعاة دليل المخالف، ولا يكون ذلك إلَّا من مجتهد لا مقلد، ولأَنَّ التهمة تلحقه بالقصد غير الجميل (3).
(1) حاشية ابن عابدين 4/ 335.
(2)
فتاوى الإِمام الشاطبي 119.
(3)
حاشية ابن عابدين 4/ 335، فتاوى الشاطبي 119.
لكن ظاهر ما ذكره سائر الفقهاء مما مَرَّ ذكره قريبًا جواز ذلك للمقلد الذي عنده القدرة على تقدير الحاجات والضرورات، وهذا يتأتى من المقلد الذي عنده القدرة على الترجيح والاختيار بين الأقوال، وهو كثير بين الفقهاء والقضاة ممن لم يبلغوا رتبة الاجتهاد، وسبق أن قلنا بأَنَّ على القاضي أَنْ يذكر في أسباب حكمه وجهَ الأخذ بالقول المرجوح، وهذا يظهر وجه الاجتهاد في الواقعة.
* * *