الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فائدة في ذكر أقسام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم:
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم لها أقسام متعددة: أولًا: ما فعله بمقتضى الطبيعة، والثاني: ما فعله بمقتضى العادة، والثالث: ما فعله تعبدًا، والرابع: ما احتمل الأمرين التعبد والعادة، والخامس: ما فعله بيانًا لمجمل، هذه خمسة أنواع.
الأول: ما فعله بمقتضى الجبلة لا حكم له؛ لأن هذا شيء تقتضيه الطبيعة مثل النوم، هل نقول للإنسان: يسن أن تنام؟ لا، إذا جاءه النوم نام، الأكل كذلك بمقتضى الطبيعة والجبلة، كون الإنسان يتدفأ إذا بد أو يطلب البراد إذا احترَّ هذا أيضًا بمقتضى الجبلة، لكن قد يؤجر الإنسان عليه لسبب آخر بحسب نيته، قد يقول: أنا أنام بمقتضى الطبيعة وأريد أن أريح بدني؛ لأن لبدني عليَّ حقًّا، أنا آكل بمقتضى الطبيعة لكن أيضًا أريد بذلك التقرب إلى الله عز وجل بامتثال أمره بالأكل والاستعانة به على طاعة الله وبحفظ بدني وما أشبه ذلك، فيؤجر من هذه الناحية، كذلك قد يؤجر الإنسان فيما يتعلق بفعل الجبلة بمقتضى هيئاته أو صفاته مثلًا النوم على الجنب الأيمن سنة يؤجر عليه الإنسان، الأكل باليمين واجب يؤجر عليه الإنسان، الشرب باليمين كذلك، لكن هذا ليس عائدًا إلى الأكل نفسه بل إلى صفة الأكل.
الثاني: ما فعله على سبيل العادة فهو مشروع لجنسه لا لعينه أو نوعه، وبعض الأصوليين أطلق كونه مباحًا، قد نقول: إنه مباح من حيث الأصل، لكن موافقة العادة التي ليست محرمة أمر مطلوب، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الشهرة الذي يشتهر به الإنسان؛ لأنه مخالف للعادة، وبناء على ذلك نقول: أيما أفضل لنا: أن نلبس القميص والغترة، أو أن نلبس الإزار والرداء والعمامة؟ الأول أفضل؛ لأن هذا مقتضى العادة، والذي يتبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لبس الإزار والرداء والعمامة؛ لأن ذلك كان العرف في عهده.
أما بالنسبة للجنس لا للنوع، يعني: مثلًا النوع إزار ورداء وعمامة، العين متعذر في الواقع؛ لأن الأعيان الموجودة في عهد الرسول ليست موجودة الآن، أما نوعها فموجود، وأما الجنس فنقول: جنس اللباس المعتاد، فلباس الرسول صلى الله عليه وسلم إزار ورداء وعمامة هذا نوع، كون هو المعتاد هذا جنس، فنحن نتبعه في الجنس.
الثالث: ما فعله على سبيل التعبد، كيف ذلك؟ قد يقول قائل: كيف نعرف أن فعله تعبدًا لله؟ نقول: نحن لا نطلع على ما في القلوب، لكن ما ظهر لنا فيه قصد التعبد بحيث لا يكون فيه منفعة للبدن فإن الظاهر أنه فعله تعبدًا، فيفعل ويكون مشروعًا، لكن هل هو على سبيل
الوجوب أو الاستحباب؟ الصحيح أنه على سبيل الاستحباب، وجه ذلك: أن فعله تعبدًا يرجح مشروعيته أو بالأصح يقتضي مشروعيته، والأصل عدم التأثيم بالترك إلا بدليل ففعله إياه يجعله مشروعًا، وعدم تأثيم التارك له يجعله من قسم المستحب لا الواجب، ولهذا كانت القاعدة عند جمهور الأصوليين: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد يدل على الاستحباب لا على الوجوب وهذا هو الصحيح.
الرابع: ما كان مترددًا محتملًا لأن يكون على سبيل الجبلة والعادة أو على سبيل التعبد فهذا تجد العلماء يختلفون فيه، فمنهم من يقول: مستحب، ومنهم من يقول: ليس بمستحب في نوعه، ومثاله: إبقاء شعر الرأس للرجل، هل اتخاذ الشعر سنة أو هو من قسم العادة؟ كذلك أيضًا لبس النعال السبتية التي لها سبتة من ظهر القدم ولها سبتة من خلف العقل هل لبسها على سبيل العادة وبيان الجواز أو على سبيل الاستحباب، لكن المثال الأول أظهر وهو الشعر، فمن العلماء من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه تعبدًا، وبناء على ذلك فإنه يسن لنا أن نتخذ الشعر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله تعبدًا ونحن مأمورون باتباعه والتأسي به، ومنهم من قال: إنه فعله لا على سبيل التعبد بل على سبيل العادة، وأن الناس في ذلك الوقت يرون اتخاذ الشعر فلم يرغب النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم، ولهذا لما قدم المدينة وجد اليهود يسدلون شعورهم، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفتهم وصار يفرقه الأيمن لليمين والأيسر لليسار، وهذا يدل على أنه كان يتبع العادة وأن هذا ليس من الأمور المشروعة، لكن المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه من الأمور المشروعة، ولهذا قال فيه: هو سنة لو نقوى عليه اتخذناه ولكن له كلفة ومؤنة، فلذلك كان الإمام أحمد يحلق رأسه؛ لأن هذا أسهل فلا يحتاج إلى ترحيل ولا دهن ولا شيء.
الخامس: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا لمجمل أولًا: الذي يترجح عندي أن الأصل في المتردد فيه أنه يلحق بما كان عاديًا أو جبليًا، هذا هو القسم الخامس من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو فعله بيانًا لمجمل مثل أمر الله بأمر على سبيل الإجمال ففعله النبي صلى الله عليه وسلم فهذا له حكم المجمل، إن كان هذا المجمل واجبًا كان ذلك واجبًا، وإن كان مستحبًا كان ذلك مستحبًا، قد نمثل له بقوله تعالى:{وإن كنتم جنبًا فاطَّهَّروا} [المائدة: 6]. وبقوله تعالى: {وأقيموا الصَّلوة} [البقرة: 43]. فالرسول صلى الله عليه وسلم أقام الصلاة وتطهر اغتسل على صفة معينة فله حكم المجمل، لكننا نقول: إن قوله: {فاطَّهروا} الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله ظاهر السُّنة يقتضي أن فعله؛ يعني: كيفية الغسل ليست بواجبة، ففي حديث عمران بن الحصين الطويل الذي رواه البخاري في قصة
الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم معتزلًا لم يصلِّ في القوم فقال له: "مالك؟ " قال" أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد"؛ لأن الرجل ظن أن الإنسان لو كان عليه جنابة وليس عنده ماء لا يصلي، فجيء بالماء وبقي منه بقية فأعطاه الرجل وقال: خذ هذا فأفرغه على نفسك، وهذا بعد نزول الآية بلا شك، فذهب الرجل واغتسل، هذا الحديث يدل على أن كيفية الغسل التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بها ليست واجبة؛ لأنها لو كانت واجبة لبينها لهذا الرجل؛ إذ إن هذا الرجل لا يعرف.
المثال الثاني: {وأقيموا الصَّلوة} قلنا: هذا مجمل، ولكن الرسول بيَّنها، لكن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة الصلاة كان بالقول أحيانًا وبالفعل أحيانًا.
نرجع إلى الاعتكاف "كان يعتكف العشر الأواخر" هذا فعل بيان لمجمل أم لا؟ لا، ليس بيانًا لأمر مجمل، وهل هو على سبيل التعبد؟ نعم، ما الدليل؟ أنه في المسجد والمسجد مكان للعبادة وليس للبدن مصلحة في ذلك، إذن فهو عبادة، فيؤخذ منه: مشروعية الاعتكاف وقد دلّ عليها أيضًا القرآن لقوله تعالى: {ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187]. إذا قال قائل: كيف نعرف من هذه الآية أن الاعتكاف مشروع؟ فنقول: لأن الشارع رتب له أحكامًا، وترتيب الأحكام عليه يدل على مشروعيته والرضا به، فقال:{ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد} ، إذن الاعتكاف له حرمة، وهو أن الرجل يمنع من مباشرة أهله فيكون عبادة، وسبق لنا في أول الباب أن الاعتكاف مشروع بالإجماع، نقل ذلك الإمام أحمد، ولا يجب إلا بالنذر لحديث عمر بن الخطاب.
مسألة: وهل يصح في كل مسجد أو في مساجد مخصوصة؟ من العلماء من يقول: لا يصح إلا في مسجد المدينة فقط، ومن العلماء من قال: لا يصح إلا في مسجدي مكة والمدينة، ومنهم من يقول: لا يصح إلا في المساجد الثلاثة، ومنهم من يقول: لا يصح إلا في المسجد الجامع، ومنهم من يقول: لا يصح إلا في مسجد الجماعة، ومنهم من يقول: يصح في كل مصلى حتى مصلى المرأة في بيتها لما أن تعتكف فيه، لكن الراجح من هذه الأقوال بلا شك أنه يصح في كل مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأنه إذا كان المسجد لا تقام فيه الجماعة فإن هذا الرجل الذي اعتكف إما أن يتردد إلى الجماعة، والتردد الكثير كخمس مرات في اليوم والليلة ينافي الاعتكاف، وإما أن يدع الجماعة فيترك واجبًا لمسنون وهذا لا يجوز، فالصحيح: أنه يصح في كل مسجد تقام فيه الجماعة، أما الجمعة فهي في الأسبوع مرة يخرج إليها، ومع هذا نقول: الأفضل أن يكون في المسجد الجامع إن تخلل