الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القتر، أبدًا لا تقلق، إذا لم تر الهلال لكونه غٌم عليك أكمل العدة ثلاثين بدون قلق، وهكذا لا ينبغي للإنسان أن يجعل في نفسه قلقًا من الأحكام الشرعية حتى في مسائل الفتاوى فلا ينبغي لك أن تضع المستفتي في قلق وحيرة، فتقول: يمكن كذا، يمكن كذا، يحتمل كذا، يحتمل كذا، إما أن يكون عندك علم يقيني أو ظني؛ لأنه على القول الصحيح يجوز الحكم بغلية الظن عند تعارض الأدلة:{لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: ? ? ? ]. وتجزم بالفتوى وإلا فدعها، أما أن تبقى في حيرة وتوقع غيرك في حيرة فهذا لا ينبغي.
ومن فوائد الحديث: اعتبار البناء على الأصل؛ لقوله: "فاقدروا له"، أو "فأكملوا العدة ثلاثين"؛ لأن الأصل بقاء الشهر، فإن اليوم الثلاثين يعدُّ من الشهر في الأصل، فتعمل على هذا الأصل حتى نتيقن أنه دخل الشهر الثاني، وهذا فرد من أفراد عظيمة دلت عليها أحاديث كثيرة وهي أن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يتبين زواله.
يقبل خبر الواحد في إثبات الهلال:
(623)
- وعن ابن عمر أيضًا رضي الله عنه قال: "تراءى النَّاس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِّي رأيته، فصام وأمر النَّاس بصيامه". رواه أبو داود، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم.
(62)
4 - وعن ابن عباس رضي الله عنه: "أنَّ أعرابيًّا جاء إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذِّن في النَّاس يا بلال أن يصوموا غدًا". رواه الخمسة، وصحَّحه ابن خزيمةً، وابن حبَّان، ورجَّح النَّسائي إرساله.
ففي هذين الحديثين دليل على أنه يعمل بشهادة واحد في دخول رمضان، وعلى هذا فيكون الجمع في قوله:"إذا رأيتموه فصوموا" باعتبار الجنس؛ لأنه قال: "إذا رآه أحد منكم".
الحديث الأول يقول: "تراءى الناس الهلال"، أي: طلبوا رؤيته، هذا هو معنى تراءى، كأن
كل واحد يقول للثاني: انظر الهلال وما أشبه ذلك، فيدل هذا على أن ترائي الهلال في الليلة التي يتحرى فيها من عمل الصحابة الذي أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فيكون من السُّنة التقريرية.
ويستفاد من هذا الحديث: أنه لا يعمل إلا برؤية من يوثق بنظره، بل من يوثق بقوله لكونه أمينا بصيرًا، فلو جاء الأعمى إلى القاضي وقال: إني رأيت الهلال وهو ثقة مأمون عند الناس ماذا نقول؟ نقول: هذا لا يمكن وهذا مما يخل بأمانته، وما القول فيما إذا جاءنا رجل ليس بأعمى لكن ضعيف البصر وقال: إنى رأيت الهلال يقينًا وقال: اتجاهه إلى الجنوب الشرقي- اتجاه القوس- المنزلة صحيحة لكنه ضعيف البصر هل نأخذ بقوله؟ لا، وإن كان ثقة؛ لأنه ضعيف البصر، ولهذا ذكر العلماء أن رجلًا كبير السن كان مع الناس الذين يتراءون الهلال وأبصارهم قوية هم قالوا: لم نره، وهو أصر على أنه رآه وجاءوا عند القاضي والقاضي ردده قال: لا، أنا أشهد أني رأيته فقال: أذهب معك تريني إياه، قال: نعم، ذهب وقال: أنظر إليه. القاضي نظر وما رأى شيئًا وكان القاضي ذكيًّا فمسح على حاجبه- حاجب عينه- ثم قال: انظر، قال: الآن ما أرى شيئا، لماذا؟ شعرة بيضاء يحسب أنها الهلال وهى متقوسة كالهلال فشهد أنه رأى الهلال! لكن متى يأتينا قاضٍ مثل هذا القاضي الذكي، لكن على كل حال أقول: لا بد أن يكون الرائي ممن يوثق بقوله لأمانته في النقل ولكون بصره حديدًا يمكن أن يرى الهلال.
ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أنه لا تشترط الشهادة في الإعلام بدخول الشهر؛ لقوله: وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام"، وأمر الناس بالصيام، فلو قال للقاضي: لقد رأيت الهلال ولم يقل: أشهد، وجب الحكم بخبره، وهل هذا خاص برؤية هلال رمضان أو عام في كل الشهادات؟ يعني: هل يشترط في الشهادة سواء في المال أو في غير المال أن يقول الشاهد: أشهد أو لا يشترط، بل يكفي أن يقول: إني أقول كذا أو أخبر بكذا؟ الصحيح: أنه لا تشترط الشهادة إلا ما دل الدليل على اشتراطها لقوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} [النور: 6]. وإلا فإن الخبر يكفي عن الشهادة ولهذا قيل للإمام أحمد رحمه الله: إن فلانا يقول: "العشرة في الجنة ولا أشهد"، فقال الإمام أحمد: إذا قال: إنهم في الجنة فقد شهد، وهذا هو الحق، أي: أن الشهادة لا يعتبر فيها لفظ (أشهد)، بل إذا أخبر خبرًا جازمًا به فإنه يعتبر شاهدًا ويدل عليه هذا الحديث.
أما الحديث الثاني: ففيه دليل على أنه يشترط في الشاهد أن يكون مسلمًا، لقوله:"أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدًا"، وهذا واضح على أن الحكم بني على ما سبق من كون الرجل يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
هل يدل الحديث على أنه يكفي أن يكون مسلمًا وإن لم يكن عدلًا؟ قد يقال: لا يدل، وقد يقال: يدل، أمّا قد يقال: إنه يدل؛ فلأن هذا الرجل لم يبد لنا منه إلا أن شهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمدًا رسول الله فقط، وهذا لا يحصل به إلا الإسلام فقط، وأما كونه لا يمنع اشتراط العدالة؛ فلأن الصحابة كلهم عدول، فإذا ثبت إسلام الصحابي ثبتت عدالته.
ومن فوائد حديث ابن عمر: أن من السُّنة ترائي الناس الهلال. والدليل: قول ابن عمر "تراءى الناس
…
إلخ" ومن أي أنواع السُّنة هذه؟ الإقرارية.
هل من السُّنة أن يؤمر الناس بترائي الهلال ويقال لهم: تراءوا الهلال الليلة الفلانية فمن رآه منكم فليشهد عند القاضي؟
الجواب: أننا نأمرهم لنذكرهم بالسُّنة، ولهذا الأفضل ألا يقال: تراءوا الهلال، وإنما يقال: كان الصحابة يتراءون الهلال فمن أراد منكم أن يتراءه فليتراءه في الليلة الفلانية، هذا أقرب إلى إصابة السُّنة.
ومن فوائد الحديث أيضًا: وجوب العمل برؤية الشاهد الواحد مع الجماعة، يؤخذ من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالصيام؛ لأنه صام وأمر الناس بالصيام، وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم، والمسألة فيها ثلاثة أقوال: هذا القول.
والقول الثاني: أنه لا بد من شاهدين اثنين أو شاهد مبرِّزٌ في العدالة بحيث تقوم شهادته مقام شهادة اثنين عند القاضي.
والقول الثالث: أنه إن كانت السماء غيمًا قبلت شهادة الواحد، وإن كانت صحوًا لم تقبل، هذا مذهب أبى حنيفة، لماذا؟ يقولون: لأنه إذا كانت السماء صحوًا ولم يره الناس دل على كذبه، فتكون شهادة هذا الواحد مخالفة لشهادة الآخرين فلا تقبل، أما إذا كانت السماء غيمًا فيمكن أن يراه بدون الناس لقوة بصره مثلًا أو لكونه دقيق الملاحظة بحيث انفتح الغيم لمدة وجيزة ورآه أو ما أشبه ذلك، فلهذا يفرق هؤلاء بين أن تكون السماء صحوا أو أن تكون غيمًا، ولا شك أن مقتضى العقل أن يكون الأمر بالعكس، فيقال: إذا كانت السماء صحوا فإنه يمكن أن يراه ولا يراه الآخرون، حتى وإن كانت السماء صحًوا فالناس يختلفون في قوة النظر بخلاف ما إذا كانت غيمًا فإنه يبعد أن يراه.
على كل حال: هذا قول ذكرناه لأجل إتمام سياق الأقوال، والصحيح: أنه يعمل بشهادة الواحد ولو كان معه جماعة لهذا الحديث.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يتقدم بالحق ولو كان من أصغر الناس؛ لأن ابن عمر كان صغير السن ومع ذلك تقدم، وقال:"إني رأيت الهلال"، فصام النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، ولهذا لما وقع في قلبه حل اللغز الذي ألغز به النبي صلى الله عليه وسلم هاب أن يتكلم به؛ لأنه كان أصغر القوم، ولكن أباه عمر تمنى أن يكون تكلَّم به، واللغز الذي أورده الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة أن
من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن فذهب الناس يتكلمون في شجر البوادي هي كذا هي كذا ولم يعرفوها، فوقع في نفس ابن عمر أنها النخلة، لكنه لم يتكلم لصغر سنَّه، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"هي النخلة".
وفية من الفوائد أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أن الحاكم هو الذي يوجه الأمر إلى الناس بالصيام؛ لقوله: "صام وأمر الناس بصيامه"، وهو كذلك، فإن هذه الأمور ترجع إلى الحكام وليست راجعة إلى عامة الناس من شاء صام ومن شاء أفطر بشهادة غيره، ولكتها راجعة إلى الحاكم الشرعي.
وفيه أيضًا: أن من كان معلوم العدالة فإنه لا يناقش ولا يحقق معه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ابن عمر أنه رآه صام وأمر الناس بالصيام بخلاف الحديث الثاني.
ويستفاد منه أيضًا: أنه لا تشترط الشهادة في رؤية الهلال، يعني: لا يشترط أن يقول: أشهد؛ لأنه قال: "فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته"، وقد يقال: بل فيه دليل على أن الخبر شهادة؛ لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بإخباره شاهدًا، وقد مر علينا أن الإمام أحمد لما قيل له: أن يحيى بن معين أو علي بن المديني- نسيت أيهما هو- يقول: العشرة في الجنة، ولكن لا أشهد، قال: إذا قال فقد شهد.
أما حديث ابن عباس ففيه: أولًا: قبول شهادة الأعرابي، والأعرابي- كما مر علينا- هو ساكن البادية، وهو كذللك إذا ثبتت عدالته.
وفيه أيضًا: وجوب التحري في مجهول الحال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل هذا الأعرابي: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ " قال: نعم، فأما من ظاهره العدالة فلا يبحث عنه، لكن لما كان الأعراب غالبهم لا يعرف الأحكام الشرعية سال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأعرابي: هل هو مسلم أم لا.
وفيه: أن الناس مؤتمنون على ديانتهم؛ لأنه لما قال: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، لم يقل: من يشهد له، وبناء عليه فإذا قيل للرجل:"صلِّ"، فقال: قد صليت ندعه ودينه، الا أن يقول: صليت في المسجد الفلاني، وشهد أهل المسجد أنه لم يصلِّ فيه، فحينئذ لا نقبل قوله، كذلك إذا قلنا:"زكِّ مالك"، فقال: قد زكيت، فإنه يقبل وهو فيما بينه وبين الله، اللهم إلا إذا كان شاهد الحال يكذبه، كما لو كان غنيًا عنده أموال كثيرة وقال:"إني زكيت" ونحن ما رأينا أحدًا انتفع بزكاته، وزكاته لو أخرجت لكان لها أثر في المجتمع لقلته مثلًا، فهذا قد نقول بعدم قبول قوله، لماذا؟ لأن شاهد الحال يكذبه، وشاهد