الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت"، وهذا صريح، وأما ما يرويه بعض الناس من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في مكة: "إنها أحبُّ البقاع إلى الله"، وفي المدينة: "إنها أحبَّا البقاع إليَّ"، فهذا ليس بصحيح، وقال بعض أهل العلم: إن المجاورة في المدينة أفضل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حثّ على السُّكنى فيها، وقال: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".
وقال بعض أهل العلم: المجاورة في مكان يقوى فيه إيمانه وتكثر فيه تقواه أفضل من أي مكان، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إذا فرضنا أن الإنسان في مكة يضعف إيمانه وتقواه ويقل نفعه فليخرج كما فعل الصحابة، ذهبوا إلى الشام والكوفة والبصرة وإلى مصر يلتمسون ما هو أنفع وأفضل، وسكنوا وصاروا يعلَّمون الناس ويدرسونهم العلم، وتركوا المدينة ومكة، وهذا القول أصحّ، لكن لو فرضنا أن الإنسان يتساوى عنده البقاء في مكان ما، وفي مكة والمدينة، قلنا: في مكة والمدينة أفضل من غيرهما بلا شك، أما المفاضلة بين مكة والمدينة فهي عندي محل توقف بالنسبة للمجاورة، أما بالنسبة لفضل مكة فلا شك أن مكة أفضل.
يتفرع على تفاضل العمل في مكة والمدينة: هل تتضاعف السيئات في مكة والمدينة؟ الجواب: أما بالكمية فلا، وأما بالكيفية فنعم، العقوبات على السيئات في مكة أعظم من العقوبات على السيئات في غيرها، وفي المدينة أعظم أيضًا، ودليل ذلك قوله تعالى:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} [الأنعام: 160]. وهذه الآية في الأنعام مكية، وبهذا نعرف بطلان ما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"لا أسكن في بلد حسناته وسيئاته سواء"، لما قيل له: ألا تسكن في مكة؟ فقال هذا القول، فإن هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن عباس أفقه وأعلم من أن يقول مثل هذا الكلام.
* * * *
6 - باب الفوات والإحصار
"الفوات: مصدر أو اسم مصدر لفات يفوت، والمصدر: فوزتًا، واسم المصدر فوات، والفوت: هو السَّبق الذي لا يدرك، فإذا سبقك إنسان ولم تدركه تقول: فاتني، هذا هو الفوات أما في الاصطلاح فالوات: طلوع فجر يوم النحّر قبل أن يقف الحاج بعرفة، هذا الفوات في الاصطلاح، ومعناه: لو أن أحدًا أحرم بالحج واتجه إلى المشاعر وطلع الفجر عليه قبل أن يصل
إلى عرفة فهذا هو "الفوات"، نقول: هذا الرجل فاته الحج، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الحج عرفة"، فإنه يدل على أن من فاته الوقوف فاته الحج هذا الفوات.
"الإحصار" في اللغة: المنع، يقال: حصر، ويقال: أحصره، وفي القرآن" {فإن أحصرتم
…
} [البقرة: 196]. وفيه أيضًا: {الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} [البقرة: 273]. أي: منعوا فالإحصار في اللغة: المنع، وفي الاصطلاح: منع الناسك من إتمام نسكه، وهل يشترط أن يكون بعدو أو بأي مانع يكون؟ فيه خلاف بين أهل العلم؛ منهم من قال: إنه يشترط أن يكون الإحصار بعدو وأنه لا إحصار بغير عدو، ومنهم من قال: إنه عام في العدو؛ لأن الإنسان قد يحصر بعدو وقد يحصر بمرض أو كسر أو ضياع أو ما أشبه ذلك، فصار عندنا الآن تعريف الفوات وتعريف الإحصار.
745 -
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق وجامع نساءه، ونحر هديه، حتَّى اعتمر عامًا قابلًا". رواه البخاريُّ.
"قد أحصر" أي: منع من الوصول إلى البيت، وذلك في عام الحديبية حين منعه المشركون من أن يتمم عمرته صلى الله عليه وسلم؛ لماذا منعوه؟ قالوا: لا يتحدث العرب أننا أخذنا ضغطة، يعني: أنك دخلت قهرًا علينا، فصار هذا المنع حمية الجاهلية كما قال تعالى:{إذ جعلنا الذين كفروا في قلوبهم الحميَّة حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التَّقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليمًا} [الفتح: 26]. منعوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤدي العمرة وهم -والله -أحق أن يمنعوا من البيت من رسول الله؛ لأن الله يقول: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتَّقون} [الأنفال: 34]. لكن الله تعالى في قضائه وقدره حكم عظيمة، فهم منعوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فحلق رأسه وجامع نساءه ونحر هديه حتى اعتمر عامًا قابلًا"، ابن عباس رضي الله عنهما أتى بهذه الأفعال مرتبة بالواو، والمراد بها مطلق الجمع، فمثلًا حلق رأسه وجامع نساءه ونحر هناك، اختلاف في الترتيب بحسب الواقع؛ لأن الواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نحر أولًا، ثم حلق ثانيًا، ثم تحلل تحللًا كاملًا، وجامع أهله، ولو نظرنا إلى الحديث لكان مقلوبًا تمامًا أوفيه اختلاف: "حلق رأسه"، ثم بعد ذلك "جامع نساءه ونحر"، والواقع أنه نحر، ثم حلق، ثم جامع، لكن الواو لا تقتضي الترتيب، ومراد ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم تحلل بعد هذا الإحصار تحللًا كاملًا، والدليل على أنه تحلُّل كامل قال: "وجامع أهله".
قال: وحتى اعتمر عامًا قابلًا" من العام الثاني اعتمر عمرة تسمى عمرة القضاء؛ بمعنى: القضية،
يعني: عمرة المقاضاة، وليس قضاء للعمرة التي أحصر منها؛ لأن العمرة التي أحصر منها كتبت تامة؛ ولهذا يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر؛ منها العمرة التي صدَّ عنها فهو اعتمر كاملًا، لكن الثانية عمرة جاءت بحسب المقاضاة التي صارت بينه وبين قريش.
وفي هذا الحديث: دليل على أن الحصر يكون في العمرة وهو كذلك، ويدل عليه أيضًا القرآن:{وأتموا الحجَّ والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196].
وفيه أيضًا: أنه يشرع الحلق لقوله: "وحلق رأسه"، ولكنه هل يجب؟ الصحيح: أنه يجب فقد مرَّ علينا في حديث المسور بن مخرمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حلق رأسه وأمر أصحابه، ولما تأخروا قليلًا غضب صلى الله عليه وسلم، فيجب الحلق عند الإحصار، و"نحر" هل يجب النحر؟ نعم يجب النحر، لكن إن كان قد ساق الهدي نحر هديه كله الذي ساقه، وإن لم يسقه فالواجب عليه أدنى ما يسمى هديًا لقوله تعالى:{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} .
ومن فوائده: أن المحصر يعتمر من السنة القابلة أو من الشهر القادم، المهم: إذا زال الإحصار اعتمر، وهل هذه العمرة قضاء للعمرة السابقة أو لا؟ فيه خلاف بين أهل العلم؛ فمن العلماء من قال: إن المحصر يجب عليه القضاء إذا زال إحصاره، وهل يقضي من مكان الإحصار أو يستأنف نسكًا جديدًا؟ نقول: يستأنف نسكًا جديدًا؛ لأن النُّسك لا يتجدد، فإن هذا الرجل حل وجامع وفعل جميع المحظورات، فكيف يبني على ما سبق، فهو يجب عليه أن يقضي سواء كان الذي أحصر عنه هو الفريضة أو كان تطوعًا، حجتهم في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى العمرة التي أحصر عنها، وهذا استدلال بالأثر، قالوا: والأصل أنه صلى الله عليه وسلم أسوة أمته: {لَّقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. وقد قضى ما أحصر عنه فلنقض، وقالوا أيضًا: لنا دليل نظري، وهو أن النُّسك من حج أو عمرة إذا شرع الإنسان فيه وجب عليه إتمامه ولو كان نفلًا، فإذا كان يجب عليه إتمامه وجب عليه قضاؤه إذا أحصر عنه وصار فائت الحصر أنه يتحلل ويترخَّص ويذهب، هذا فائدة الحصر، أما براءة ذمته به فلا لابد أن يقضي، واستدلوا أيضًا بأن العمرة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم تسمى عمرة القضاء، والأصل أن القضاء لما فات كما نقول: إذا خرجت الصلاة وصليت بعد الوقت قضاء، وكما نقول: إذا أفطر الإنسان في رمضان فإنه يقضي كما قالت عائشة: "فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان"، وقال بعض أهل العلم: إنه إذا أحصر عن النسك لا يلزمه القضاء إلا إذا كان هذا النُّسك واجبًا مثل أن يكون في فريضة الإسلام أو يكون واجبًا بنذر فإنه يلزمه قضاؤه إذا أحصر عنه؛ لأن ذمته لم تزل مشغولة بهذا الواجب حتى يتمه، أما إذا كان تطوعًا فإنه لا يلزمه القضاء، واستدلوا بأثر ونظر، أما الأثر