الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما الذي يحرم فيه الإيثار؟ مثل لو كان معي ماء يكفيني للوضوء فلو آثرت به غيري وتوضأ به بقيت بلا ماء، فهنا يحرم الإيثار؛ لأنني قادر على استعمال الماء وهو في ملكي فلا يجوز لي أن أوثر به غيري، إذا كانت القرية مستحبة مثل الصف الأول فيه مكان رجل وسبقت إليه أنا وواحد معي فهل أوثره؟ قال العلماء: إنه يكره أن يؤثر غيره بمكانه الفاضل، وهو كذلك، لكن القول بالكراهة يتوقف فيه الإنسان، إنما يقال: لا ينبغي أن تؤثر؛ لأن هذا يدل على زهد في الخير والسبق إليه، لكن إذا اقتضت المصلحة أن تؤثره مثل أن يكون أباك أو أخاك الكبير أو صاحب فضل عليك وعلى الناس فهنا يكون الإيثار لا بأس به، بل قد تربو المصلحة ونقول: أن الإيثار هنا مستحب، أما الإيثار في الأمور العادية فهذا لا بأس به، والأصل فيه الحل والجواز، قلنا: تبدأ بنفسك، ينبني على هذا مسألة إهداء القرب للأموات، فنقول: الأفضل إلا تهدي القرب للأموات، الأفضل أن تجعل القرب لك وللأموات الدعاء؛ لأن هذا هو الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(). ولم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة إلى عمل يعملونه للميت مع أن الحديث في سياق العمل، فاجعل الأعمال الصالحة لنفسك ومن سواك ادع الله له.
فرض الحج في العمر مرة واحدة:
686 -
وعنه رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنَّ الله كتب عليكم الحجَّ، فقام الأقرع بن حابسٍ فقال: أفي كلِّ عامٍ يا رسول الله؟ قال: لو قلتها لوجبت، الحجُّ مرَّة، فما راد فهو تطوُّعٌ"(). رواه الخمسة، غير التَّرمذيِّ.
- وأصله في مسلمٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
"وعنه" أي: عن ابن عباس يقول: "خطبنا"، وهذه الخطبة يحتمل أن تكون من الخطب الراتبة ويحتمل أن تكون من الخطب العارضة، وسبق لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب أصحابه خطبا راتبه كخطبة يوم الجمعة والعيدين والاستسقاء، وأحيانًا خطبة عارضة يكون لها سبب فيقوم ويخطب.
فقال: "إن الله كتب عليكم الحج""كتب" بمعنى: أوجب، كقوله تعالى:{يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصِّيام} [البقرة: 183]. وقوله: {إن الصلوة كانت على المؤمنين كتبًا موقوتًا} [النساء: 103]. وسمي الفرض كتابة؛ لأنه كلما أريد أن يوثق الشيء فإنه يكتب كما قال الله تعالى: {يأيها
الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282]. فالمفروض مكتوب كأنه وثق بهذه الكتابة، وقوله:"الحج" قال العلماء: أن الحج لغة: القصد، وشرعًا: قصد مكة للتعبد لله سبحانه بأداء المناسك.
"فقام الأقرع بن حابس" وهو من زعماء بني تميم ومن المؤلفة قلوبهم، فقال:"أفي كل عام يا رسول الله؟ " وهذا السؤال من الأسئلة التي لا تنبغي؛ ولهذا كان الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه لما قال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"().
فقوله صلى الله عليه وسلم: "ذروني ما تركتكم" تفيد أنه كان لا ينبغي أن يسأل هذا السؤال، ولكن على كل حال قد يكون في هذا السؤال خير لئلا يشتبه على من يأتي من بعده من الأمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو قلتها لوجبت"، يعني: لو قلت في كل عام لوجبت، يعني: لثبتت وصار الحج فريضة كل عام، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين فيما رواه مسلم:"ولما استطعتم"، فإنه لو وجب على الناس كل عام ما استطاعوا. أولًا: ما استطاعوا أن يأتوا كل عام إلا بمشقة شديدة.
ثانيًا: لو استطاعوا ما استطاعوا أن يؤدوا المناسك؛ لأننا لو فرضنا أن المسلمين في مثل هذا العصر يمثلون ألف مليون، ولنقل: أن القادر منهم على الحج نصف هذا العدد لو جاءوا إلى مكة مثلًا هل يستطيعون أن يقوموا بشيء؟ لا يستطيعون، لهذا هم لا يستطيعون لا باعتبار أفرادهم أنهم يشق على كل فرد منهم أن يأتي كل عام إلى مكة لاسيما من البلاد البعيدة، ولا باعتبار اجتماعهم حول الكعبة فإن هذه مشقة شديدة أيضًا، وهذا من نعمة الله عز وجل أنه لم يجب إلا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"الحج مرة فما زاد فهو تطوع"؛ يعني: الحج واجب مرة واحدة فما زاد على المرة الواحدة فهو تطوع، أن شاء الإنسان أتى به وإن شاء لم يأت به.
في هذا الحديث فوائد: منها: إعلان الأحكام الشرعية عن طريق الخطابة، والخطابة أحد المجالات التي بها تنشر الدعوة، فإن الدعوة تنشر بطرق متعددة منها: الخطابة، والكتابة والمشافهة، وغير ذلك من الأشياء التي تكون مجالًا للدعوة، ومنها: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمته، فإنه كان لا يخفي تبليغ الأحكام، بل جعلها إعلانًا بواسطة الخطابة.
ومنها: فرضية الحج لقو له: "كتب عليكم الحج"، وفرضه بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين إجماعًا قطعيًا، ففي القرآن:{ولله على الناس حج البيت .... } [آل عمران: 97]. وفي السُّنة كما
في هذا الحديث، وكما في قوله:"بني الإسلام على خمس"، وذكر منها حج البيت، أما الإجماع فالعلماء مجمعون () على ذلك؛ ولهذا قالوا: من أنكر فرضية الحج فهو كافر مرتد، إلا إذا كان حديث عهد بكفر ولم يعرف فرائض الإسلام فإنه لا يكفَّر إلا بعد أن يعرَّف، فإذا عرِّف وذكرت له الدلائل وأصر على إنكار الفرضية صار كافرًا، أما من تركه - أي: الحج - بدون إنكار فرضيته، ولكن تهاونًا وكسلًا فأكثر أهل العلم على أنه لا يكفر؛ لأنه لا كفر بترك شيء من الأعمال إلا واحدة فقط وهو الصلاة، وقال بعض أهل العلم - وهو رواية عن الإمام أحمد -: إن من تركه تهاونًا فهو كافر لقوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97). وهذا يدل على أن ترك الحج مع القدرة عليه كفر، وكذلك ما أثر عن عمر رضي الله عنه أنه همّ أن يبعث عمالًا إلى البلاد، فمن وجدوه ذا غنًى فلم يحج قال: فليأخذوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، لكن الجمهور على أن ترك الحج تهاونا يكفِّر ()، ولكن هل يقضى عنه؟ الجمهور على أنه يقضى عنه؛ لأنه كالديون التي يتهاون بوفائها، فإذا مات قضيت عنه، وكلام ابن القيم رحمه الله في تهذيب سنن أبي داود يدل على أنه لا يقضى عنه، قال: لأن هذا الرجل تركه تركًا وهو معرض عن فعله، أما لو أنه يقول: سأحج العام القادم ويمني نفسه، ولكن بغته الأجل فلم يحج فهذا يحج عنه بلا شك، والراجح: أنه إذا تركه على أنه ليس معرضا عنه فهذا يحج عنه، وكلام ابن القيم جيد لكن أتوقف في ترجيحه.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه يجوز أن يقاطع الخاطب فيسأل؛ لأن الأقرع بن حابس قاطع النبي صلى الله عليه وسلم فسأله في أثناء الخطبة ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: أن في المسائل ما لا ينبغي أن يسأل عنه كما في هذا الحديث، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه أبو هريرة:"ذروني ما تركتكم"(). وفي قصة عويمر العجلاني مع امرأته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله على الذي وصاه عويمر كره المسائل وعابها فيما لو وجد الإنسان مع امرأته رجلًا ().
ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بغير وحي لقوله: "لو قلتها لوجبت"، وهذا محل خلاف بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحكم من عند نفسه، وإنما يحكم