الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كالشيخ الكبير.
ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، لا أن يطعم طعام ثلاثين مسكينًا، الواجب أن يطعم عن كل يوم مسكينًا لا أن يطعم طعام ثلاثين مسكينًا، والفرق بينهما واضح، وعلى هذا فلا بد أن يطعم بعدد الأيام، فلو قال: أنا سأخرج طعامًا يكفي ثلاثين مسكينًا لستة فقراء أطعمهم خمسة أيام، فالجواب أن نقول: إنه لا يجزئ، لا بد أن يطعم كل يوم مسكينًا.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجمع بين البدل والمبدل منه لقوله: "ولا قضاء عليه" وقد يقول قائل: إن هذا ليس بفائدة؛ لأن هذا الرجل لا يستطيع القضاء، لكن يقال: بل له فائدة وهي ما إذا شفي هذا الرجل من مرضه، الكبير لا يزول كبره، لكن من مرض مرضًا لا يرجى برؤه ثم شفاه الله فإنه في هذه الحال لا يلزمه القضاء؛ لأن ذمته برئت ولم يبق مطالبًا بشيء.
حكم من جامع في رمضان:
643 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجلٌ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فقال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تطعم ستِّين مسكينًا؟ قال: لا، ثم جلس، فأتى النبي رضي الله عنه بعرقٍ فيه تمرٌ. فقال: تصدَّق بهذا، فقال: أعلى أفقر منَّا؟ فما بين لابتيها أهل بيتٍ أحوج إليه منَّا، فضحك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتَّى بدت أنيابه، ثمَّ قال: اذهب فأطعمه أهلك" رواه السَّبعة، واللَّفظ لمسلمٍ.
قوله: "جاء رجل" نحن نقول: إنه لا يهمنا أن نعرف عين الرجل، المهم ما في القصة من الأحكام.
قال: "هلكت" والمراد بالهلاك هنا: الهلاك المعنوي لا الحسي، هلاك معنوي بماذا؟ قال:"وما أهلكك؟ " في بعض الروايات.
"وقعت على امرأتي وأنا صائم" وقوله: "وقعت" كناية عن الجماع؛ لأن هذا مما يستحيا منه، وقد جرت عادة العرب أن ما يستحيا عنه يكنى عنه بما يدل عليه، فمثلًا "الغائط" اسم للمطمئن من الأرض المنخفض، كانوا يقضون الحاجة فيه قبل بناء الكتف في البيوت فكنُّوا بهذا الغائط بلفظ "غائط" عما يخرج مما يستقدر كراهة للكره باسمه الخاص، هنا أيضا يكنَّى عن الجماع بما يدل عليه، وهذا موجود في القرآن بكثرة وكذلك في السُّنة.
قال: "هل تجد ما تعتق فيه رقبة؟ قال: لا".
قوله: "تعتق رقبة" الإعتاق بمعنى: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق، هذا الإعتاق، ويحصل الإعتاق إما باللفظ وإما بالفعل وإما بالملك، إما باللفظ بأن يقول:"أنت عتيق" وإما بالفعل كالتمثيل به وإما بالملك كشراء من يعتق عليه مثل أن يشتري ابنه أو أباه أو أخاه أو عمه أو خاله أو من بينه وبينه رحم محرم فإنه بمجرد شرائه يكون عتيقًا.
وقوله: "رقبة" المراد بها: النفس كاملة، والرقبة نفسها لا تعتق، لكنه عبر بالبعض عن الكل للدلالة عليه، والتعبير بالبعض عن الكل لا يستساغ إلا إذا كان هذا البعض إذا فقد فقد الكل، ولهذا لا نقول: أعتق أصبعًا، لماذا؟ لأنه إذا فقد لا يفقد الكل بل نقول: أعتق رقبة، ومن هذه القاعدة ما مر علينا من أن الشارع إذا عبَّر عن العبادة ببعضها دلَّ على أن ذلك البعض ركن فيها لا تصح بدونه فمثلًا التعبير عن الصلاة بالقرآن يدل على أن القرآن ركن فيها، قال الله تعالى:{وقرآن الفجر} [الإسراء: 78]. والتعبير عنها بالتسبيح يدل على أن التسبيح واجب فيها، والتعبير عنها بالركوع يدل على أن الركوع واجب فيها، وكذلك التعبير عنها بالسجود يدل على أن السجود واجب، قوله:"رقبة" نكرة في سياق الإثبات.
قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال لا. قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا. قال: لا"، كم خصلة ذكرت؟ ثلاث: الإعتاق وبدأ به أولًا، ثم الصيام، ثم الإطعام، ثم جلس الرجل عند النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، العرق: هو المكتل- الزنبيل الذي تحمل به الحوائج- فقال: "تصدَّق بهذا" قال: الفاعل النبي صلى الله عليه وسلم والمخاطب الرجل، قال:"أعلى أفقر منا؟ " الهمزة هنا للاستفهام، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أتصدق على أفقر منا، ولهذا قال:"فما بين لابيتها أهل بيت أحوج إليه منا" قوله: "لابتيها" تثنية لابة، واللابة: الحرَّة، وللمدينة حرتان: شرقية وغربية، والحرَّة هي: أرض تركبها حجارة سوداء.
"فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه" مم ضحك؟ ضحك من حال هذا الرجل، فإن هذا الرجل جاء خائفًا مشفقًا يقول: إنه هلك، وقبل أن يفارق المكان صار طماعًا يجبي لنفسه، فلما قال:"تصدَّق به" قال: " على أفقر مني؟ " طمع في النبي صلى الله عليه وسلم وقوله "أنيابه" جمع ناب، وهي: الأسنان التي تلي الرُّباعية؛ لأنه يوجد الثنايا والرباعيات والأنياب والأضراس والنواجذ. الثنايا هما السنان المتجانيان في وسط الفم متواليان بعضهما يلي بعضًا، والرُّباعيات بعدهما، لأن الثنية مع الرباعية، والثنية الأخرى مع الرباعية صارت أربعة، والأنياب هي التي وراء الرباعيات، وسميِّت أنيابًا لأنها تشبه الناب؛ فإنها مستديرة قليلًا، بينما الرُّباعيات والثنايا مفلطحة، وما وراء ذلك فهي أضراس، والنواجذ قالوا: إنها أقصى الأضراس، وبعضهم قال إن
النواجذ تطلق على الأنياب، ثم قال:"اذهب فأطعمه هلك" أي: التمر، الرجل ذهب ورجع إلى أهله بتمر وكان قد خرج منهم وهو يخشى على نفسه، ولكنه رجع غانمًا.
ففي هذا الحديث فوائد كثيرة: حتى إن بعضهم جمع فيه ألف فائدة وواحدة، يعني:(1001).
أولًا: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته لشرع الله، وجه ذلك: أنه لم يعنَّف هذا الرجل ولم يوبخه على ما صنع مع أن الذي صنعه من كبائر الذنوب؛ لأنه انتهاك لحرمة رمضان وفرضية الصوم، ولكن لم ينتهره النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن الرجل جاء تائبًا، وهناك فرق بين [إنسان] يجيء تائبًا يريد الخلاص، وبين إنسان غير مبال بما يصنع من الذنوب.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للرجل أن يخبر عن ذنبه عند الاستفتاء، ولا يقال: إن هذا من باب كشف ستر الله عز وجل وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه، لم يقل: اجعل هذا بيني وبينك.
ومن فوائد الحديث: أن الرجل إذا أفطر بالجماع وجبت عليه الكفارة وإن لم يعلم أنها واجبة عليه؛ لأن هذا الرجل لم يدر ماذا يجب عليه لكن يدري أن الجماع حرام؛ لأنه قال: هلكت. وإن كان فيه احتمال أنه أخبر بعد أن فعل بأن ذلك حرام، لكن هذا الاحتمال وارد، وقد مرَّ علينا أن الأصل عدم الوارد، بمعنى: أن هذا الاحتمال يرد على القضية ورودًا ليس هو من لوازم القضية، بل هو وارد عليها، والأصل عدم الورود.
فإذا قال قائل: يحتمل أنه أخبر بعد أن فعل، قلنا: أين الدليل؟ الأصل عدم ذلك وحينئذٍ يبقى الاستدلال بهذا الحديث واضحًا بأن الرجل كان عالمًا بأنه حرام ولكنه جاهل بماذا يجب عليه، هل يقاس على ذلك ما لو زنا رجل وهو يعلم أن الزنا حرام، لكنه يجهل الحد الواجب فيه؟ يقاس عليه لا شك؛ لأن العلم بالعقوبة ليس بشرط؛ الشرط العلم بالحكم الشرعي فإذا علم الإنسان الحكم الشرعي وأقدم على انتهاكه عوقب بما يقتضيه ذلك الانتهاك والعلم بالحد ليس بشرط، وقد مرَّ علينا في (كتاب الحدود) أن الشرط أن يكون عالمًا بالتحريم.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الكفارة المغلَّظة في الجماع في نهار رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عليه الكفارة، فإن قلت: هل يقاس على ذلك إذا كان صائمًا في قضاء رمضان أو لا يقاس؟
يقال: لا يقاس، والفرق بينهما حرمة الزمن، وعليه فلو أن الرجل جامع زوجته وهو يصوم رمضان قضاء فلا كفارة عليه؛ وذلك لأن وجوب الكفارة من أجل انتهاك الصوم في زمن محترم وهو نهار رمضان، ويدلكم على هذا لو أن رجلًا أفطر في قضاء رمضان عامدًا فالفطر حرام ويلزمه الإمساك، وإذا كان الجماع في نهار رمضان يمتاز عن غيره بهذه العلة فإنه لا يمكن
إلحاق غيره به، من جامع زوجته في كفارة هل عليه كفارة؟ ليس عليه كفارة لكن صومه يبطل بلا شك، لكنه ليس عليه كفارة ككفارة المجامع في نهار رمضان.
وهل من فوائد الحديث: أن الرجل لو جامع غير زوجته في نهار رمضان فليس عليه شيء؟ إذا قيل من باب أولى قد يقول قائل: إن هذا سيحد ويكتفى بحده عن الكفارة فلا يجمع عليه كفارتان، فالجواب عن ذلك: أن يقال: أما قوله: "على امرأتي" فهذا وصف طردي لا أثر له، الوصف الطردي الذي يسميه بعض الأصوليين مفهوم اللقب هذا لا أثر له، والأثر الحقيقي للمعنى وهو الفعل الذي هو الجماع هذا وجه، وجه آخر لا يمكن أن نقول هذا؛ لأنه الأغلب، لأنك لو قلت: إنه الأغلب معناه: في غير الأغلب يطأ غير زوجته، لكن نقول: هذا وصف طردي ليس قيدًا فلا يؤثر في الحكم، إذن نقول: إذا جامع امرأته في نهار رمضان فإن انطبقت عليه شروط الحد وجب عليه شيئان: كفارة الجماع، والثاني: الحد، وإن وقع على غير امرأته على وجه يعذر فيه كالوطء بشبهة فعليه الكفارة فقط، وإذا وقع على أمنه ففيه الكفارة فقط.
ويستفاد من هذا الحديث: أنه لو جامع زوجته في رمضان وهو صائم والصوم غير واجب عليه فلا كفارة عليه، يؤخذ ذلك من قوله:"هلكت"؛ لأن المسافر لو أفطر في نهار رمضان وهو صائم لا يهلك فمباح له ذلك، وعلى هذا فلو أن رجلًا كان مع امرأته في نهار رمضان صائمين وهما مسافران فجامعها فلا شيء عليه.
ويستفاد من هذا الحديث: جواز الفتوى بدون السؤال عن الموانع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله لم يقل: هل أنت مسافر؟ ولكن أفلا يحتاج هذا إلى نقاش؟ نعم، كيف؟ لأن قوله:"هلكت" يدل على أن الصوم واجب عليه وحينئذٍ لا يستقيم هذا الاستدلال، ولكن المسألة من حيث هي صحيحة، يعني: أنه يجوز للمفتي أن يفتي ولا يسأل عن الموانع، فلو جاءه رجل وقال: إني طلقت زوجتي طلقة فهل لي أن أراجعها، هل يلزم أن يقول: طلقتها في الحيض، طلقتها في طهر لم تجامعها فيه أو طهر جامعتها فيه، طلقتها حاملًا؟ لا، لو جاءه يسأل: هلك هالك عن ابن وعم هل يلزمه أن يسأل هل الابن قاصر، هل هو رقيق، هل هو مخالف لدين أبيه؟ لا، فذكر الموانع لا تتوقف عليه الفتوى، أما التفصيل في أمر وجودي فلا بد منه، كما لو قال السائل: هلك هالك عن أخ وبنت وعم شقيق، فهنا البنت لا نحتاج أن نستفصل فيها، لها النصف، والعم الشقيق والأخ يحتاج إلى أن يستفصل، يقول: ما الأخ؟ إن كان أخًا من أمٍّ فالباقي بعد فرض البنت للعم، وإن كان أخًا لغير أم فالباقي بعد فرض البنت للأخ، وحينئذٍ نحتاج إلى استفصال بخلاف ذكر الموانع، فليست بشرط إنما لو ذكر المانع في الاستفتاء يجب أن يفتي على حسب المانع.
ومن فوائد الحديث: السؤال عن المجمل سؤال المفتي عن المجمل لقوله: "ما أهلكك؟ ".
ومن فوائده أيضًا: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "يا رسول الله"، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائده: أنه تنبغي الكناية عما يستحيا منه لقوله: "وقعت على امرأتي"، ولم يقل: جامعت.
ومن فوائده: الاستفهام عن الشيء مرتبة مرتبة إذا كان له مراتب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: هل تجد كذا؟ هل تجد كذا؟
ومن فوائده: أنه لا يجزئ الجمع بين خصلتين من خصال الكفارة، كما لو أعتق نصف عبد وأطعم ثلاثين مسكينًا أو صام شهرًا؛ لقوله:"رقبة"، وقوله:"شهرين"، وقوله:"ستين مسكينًا".
ومن فوائده: أن كفارة الجماع في نهار رمضان على الترتيب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينتقل عن خصلة إلَّا حين قال الرجل: إنه لا يجد.
ومنها: فضيلة العتق؛ لأنه بدأ به أولًا؛ ولأنه كفارة عن هذا الذنب العظيم.
ومنها إثبات الرِّق شرعًا لقوله: "هل تجد ما تعتق؟ "، فإذن الرق ثابت.
ومنها: جواز قول الإنسان لذي الشرف والمنزلة العظيمة: لا، دون أن يلجأ إلى قوله: سلامتك.
ومنها أيضًا: صحة الاكتفاء بالجواب بما يدل عليه لقوله: لا، فإن كلمة "لا" تتضمن جملة السؤال، ولهذا يقال: إن السؤال معاد في الجواب.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان مؤتمن على عباداته، يؤخذ من اكتفاء الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب الرجل بقوله:"لا"، لم يقل: هات بينة أنك لم تجد، ولم يقل له حين قال: لا أستطيع الصوم: إنك امرؤ شاب تستطيع، فالإنسان مؤتمن على عباداته، ولهذا قال العلماء: إن الرجل يُصدَّق إذا قال: إني صليت، أو قال: إني أديت الزكاة، أو قال: إني صمت، أو قال: إني كفَّرت، أو ما أشبه ذلك، ويصدَّق بلا يمين؛ لأنه مؤتمن على عباداته، اللهم إلا فيما كان فيه حق لآدمي كالزكاة فإنه قد يتوجه إلزامه باليمين أحيانًا إذا اتهمه القاضي أو شكَّ في أمره، أما الحق الخاص المحض لله تعالى فهذا لا يحلف عليه الإنسان؛ لأنه مؤتمن على دينه فيما بينه وبين ربه.
ومن فوائد الحديث: اشتراط التتابع في صيام الشهرين؛ لقوله: "متتابعين" فلو أفطر بينهما يومًا واحدًا أعاد من جديد، حتى وإن لم يبق إلا آخر يوم فإنه يعيد من جديد، ولكن لو أفطر لعذرٍ كمرض وسفر وما أشبه ذلك فهل يقطع التتابع؟ لا، ولماذا؟ لعموم قوله تعالى: {فاتَّقوا الله ما
استطعتم} [التغابن: 16]. وهذا ملتزم بتقوى الله وأن يصوم شهرين متتابعين لكن حصل له مانع، ماذا تقولون لو سافر ليفطر هل ينقطع التتابع؟ نعم؛ لأن هذا حيلة على إسقاط ما أوجب الله عليه.
ومن فوائد الحديث: أن المعتبر الشهور لا الأيام؛ لقوله: "شهرين"، والشهر- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون هكذا وهكذا، وهكذا وهكذا، وقبض الإبهام يعني: يكون تسعة وعشرين، وعلى هذا فإذا ابتدأ الصوم في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول ينتهي في اليوم السادس عشر من شهر جمادي الأولى حتى وإن كان شهر ربيع الأول ناقصًا وشهر ربيع الثاني أيضًا ناقصًا، فإذا كانا ناقصين سيصوم ثمانية وخمسين يومًا.
ومن فوائد الحديث: أنه لا بد من إطعام ستين مسكينًا، لا إطعام طعام ستين مسكينًا وبينهما فرق، إذا قلنا: إطعام طعام ستين مسكينًا صار معناه: أن يجمع ما يكفي ستين مسكينًا ويعطيه ولو مسكينًا واحًدا وهذا لا يجوز، بل لا بد من إطعام ستين مسكينًا؛ لقوله:"فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا".
ومنها: أننا إذا رجعنا إلى البدل أخذنا بكمال المبدل منه من قوله: "ستين مسكينًا"، ولم يقل: إطعام ما يقابل صيام شهرين متتابعين؛ لأنا نقول الصيام: أن تواصل وما يكون شهران، لكن في الإطعام تطعم ستين مسكينًا عن ستين يومًا؛ لأن الله جعل على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين.
ومن فوائد الحديث: عظم الجماع في نهار رمضان؛ لقوله: "هلكت"، ولإيجاب الكفارة المغلظة؛ لأن أغلظ الكفارات هذه، وكفارة الظهار، وكفارة القتل، فهذا يدل على أن الجماع في نهار رمضان من أعظم الذنوب.
فإن قلت: هل تجب الكفارة بغير الجماع، كما لو أكل أو شرب أو أنزل بتقبيل أو ما أشبه ذلك؟
فالجواب: لا؛ لأن الإنسان لا ينال من الشهوة بهذه الأمور كما ينال بشهوة الجماع، ولأن شهوة الجماع شهوة تمتع وتلذذ، وشهوة الأكل في الغالب شهوة حاجة، فلهذا خففت، يعني: لو أن الإنسان أكل أو شرب عامدًا فلا كفارة عليه بخلاف الجماع.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان قد يرزق من حيث لا يحتسب؛ لأن الله ساق صاحب هذا التمر إلى أن جاء به إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان فيه الفقير لقوله: "ثم جلس فأتي النبي .. " الخ.
ومن فوائد الحديث: سقوط كفارة الوطء في نهار رمضان عند العجز عنها؛ لأنه كما قال: لا أستطيع إطعام ستين مسكينًا، لم يقل: تبقى في ذمتك، لكن يعكر على هذه الفائدة أنه لما
جيء بالتمر قال: "خذ هذا وتصدَّق به" فإن هذا يدل على أنها لم تسقط، وسيأتي- إن شاء الله- البحث فيه قريبًا.
ومن فوائد الحديث: أ، الإنسان ينبغي له إذا استفتي مفتيًا في حلقة علم أن يجلس لينال فضل العلم؛ لقوله:"ثم جلس".
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز دفع الصدقات للإمام ليقوم بدفعها لأهلها لقوله: "فأتي النبي .. " إلخ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإمام والناس يأتون إليه أحيانًا بمثل هذا ليصرفه في أهله.
ومن فوائد لحديث: أن الإمام مخيَّر في صرف ما يأتيه من الأموال، بمعنى: أن له أن يخص به من شاء، فلا يقال: يجب أن يوزعه على الناس بالسوية.
يؤخذ ذلك: من إعطائه للرجل وقال: "تصدق به" مع أن الرجل في الواقع لم يأخذه إلا لدفعه الكفارة وليس لحاجته الخاصة، إذن لو أن أحدًا من الناس أرسل إليك دراهم من الزكاة لتنفقها ورأيت رجلًا طال علة صاحب دين محتاجًا للزواج يحتاج إلى عشرين ألفًا للزواج والدراهم التي أتتك عشرون ألفًا هل يجوز أن تعطيها لهذا الرجل وحده؟ نعم؛ لأنه من أهل الزكاة.
ومن فوائد الحديث: جواز مساعدة الإنسان في الكفارة لقوله: "خذ هذا فتصدَّق به".
ومن فوائده: أن الكفارة تسمَّى صدقة لقوله: "تصدَّق به"، والجامع بينهما: أن الصدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"، والكفارة أيضًا تذهب خطيئة هذه المعصية التي كفر عنها.
ومن فوائده: جواز ذكر الإنسان حاله من غنى أو فقر أو مرض أو حاجة لا على وجه الشَّكاية إلى الخلق لقول الرجل: "أعلى أفقر منَّا؟ "، وهل يجوز على سبيل السؤال أن تطلب من شخص أمين لعله يعطيك؟ نعم؛ لأنه حين قال:"أعلى أفقر منَّا" فإن لسان الحال يقول: أعطني إيَّاه، وعلى هذا فيجوز للإنسان أن يذكر حاله للشخص تعريضًا لإعطائه، وإن كان هذا الرجل جاء يستفتي، لكن نقول: إذا جاز لهذا- وهو إنما جاء ليستفتي- فالذي جاء للغرض نفسه من باب أولى ما دام الشرع أباح له وإلا لكنا نقول: أنت ما جئت لهذا، أنت جئت لتنقد نفسك مما وقعت فيه، ولا ينبغي لك إذا جئت لهذا الغرض أن تدخل أمور الدنيا في هذا.
ومن فوائد الحديث: جواز إخبار الإنسان عما لا يحيط به علما بحسب ظنه؛ لقوله: "فما بين لابتيها
…
" إلخ؛ لأن هذا لو أردنا أن نصل إلى العلم اليقين فيه لكان لا بد أن نبحث كل بيت وحده، وهذا الرجل ما بحث إلا بيته وحده قطعًا. إذن يجوز أن تخبر عما يغلب على ظنك ولا يعد هذا رجمًا بالغيب، ولهذا قال الله تعالى:{إن بعض الظن إثمٌ} [الحجرات: 12]. ولم يقل: إن الظن
إثم؛ لأن الظن المبني على القرائن ليس بإثم، كذلك الظن الذي لا يحقق بمعنى: أن الإنسان اتهم أحدًا بشخص ثم ذهب يبحث ويتجسس هذا لا يجوز.
ومن فوائد الحديث: جواز ضحك الإمام بحضور رعيته، والنبي صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وهو أشد الناس حياء، لو كان هذا مما يستحيا منه ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه تدل على طيب النفس وسعة الخلق. بعض الناس إذا كان له منزلة أو جاه يأنف أن يضحك حتى لو ضحك الناس فنقول: ضحك من هو خير منك الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيه أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما أنه يتبسم كثيرًا فإنه يضحك أحيانًا.
هل يستفاد منه أيضًا: جواز الضحك على ما يتعجب منه؟ نعم، مطلقًا حتى غير الإمام لأنه إذا جاز للإمام الذي هو محل الوقار فجوازه لغيره من باب أولى لكن لا بد أن يكون لها سبب، ولكن من غير سبب من قلة الأدب، لكن بسبب فهذا يعتبر أن الإنسان على فطرته وليس عنده تزمت ولا انزواء ولا كبرياء؛ لأن ما تدعو الفطرة إلى الضحك فيه هذا لا بأس به.
ومن فوائد الحديث: أن الأمر قد يراد به الإباحة، الشاهد:"أطعمه أهلك"، هذا أمر لكنه يراد به الإباحة، وهكذا نأخذ قاعدة أن الأمر بعد الاستئذان للإباحة؛ لأن الاستئذان يفيد المنع، فإذا جاء الأمر بعد المنع فهو للإباحة كما قال العلماء- رحمهم الله: إن الأمر بعد النهي للإباحة، واستدلوا بقوله تعالى:{وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 3].
وهل من فوائد الحديث: جواز كون الإنسان مصرفًا لكفارته؟ قال: "أطعمه أهلك" هل هو على سبيل الكفارة أو على سبيل أنك في حاجة والكفارة ما تجب إلا لغني قادر عليها، أيهما؟ ستقولون: يحتمل الرجل الآن هو غني حين أعطى لكن بيته في حاجة، الآن هو يقول: نحن محتاجون كل من في المدينة أغنى منا، الذي ليس في البلد أحوج منه، معناه: أنه هو المسكين وحينئذٍ لا تجب عليه الكفارة، بعض العلماء استنبط هذه الفائدة: أنه يجوز أن يكون الإنسان مصرفًا لكفارته بشرط أن يقوم بها غيره، أما أن يقوم بها هو فغير صحيح، واحد عليه إطعام ستين ويذهب يشتري ما يكفي طعام مسكين ويعطيه عياله ليأكلوها، هذا لا يصلح، لكن إذا أعطاها إياه غيره فهذا يدل على جواز ذلك، لكن علماء آخرين قالوا: هذا ليس بصحيح، ولا يستفاد هذا من الحديث لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أعطه أهلك" إنما أعطاه إياه لا على أنه كفارة ولكن على أنه لدفع حاجته، بدليل أنه لا بد من إطعام كم؟ ستون مسكينًا، ومن يقل: إن هؤلاء- أهل الرجل- ستون نفرًا، فإن قلت: يمكن ذلك، لكن نقول: حتى وإن كان ممكنًا كان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: هل أهلك يبلغون ستين مسكينًا؟ حتى يتبين أن ذلك من أجل الكفارة، ولهذا الصواب في هذه المسألة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"أطعمه أهلك" من باب دفع الحاجة لا من
باب الكفارة.
يبقى النظر في الفائدة التي أشرنا إليها وهي: هل تسقط الكفارة عن الفقير أو تبقى دينًا في ذمته؟ فيه خلاف؛ بعضهم قال: إنها لا تسقط؛ لأن هذا دين، والدَّين لا يسقط بالإعسار بل يبقى في ذمة المدين إلى أن يغنيه الله، ويدل لذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن قال الرجل: إنه لا يستطيع، قال:"خذ هذا فتصدَّق به"، ولو كانت ساقطة بعدم الاستطاعة لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: سقطت عنك، ويعطيه هذا إما لدفع حاجته، وإما يعطيه غيره من الناس، وهذا في الحقيقة إيراد جيد، هذا القول بأنها لا تسقط بالعجز، ولكن الصحيح: أنها تسقط بالعجز، ويدل لذلك:
أولًا: عموم قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وقوله: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]. هذا واحد.
ثانيًا: تدبرنا جميع موارد ومصادر الشريعة ووجدنا أنها لا توجب على الإنسان ما لا يستطيع، فالزكاة لا تجب على الفقير، والحج لا يجب على الفقير، والصوم لا يجب على العاجز عنه، وهكذا أيضًا هذه الكفارة لا تجب على العاجز عنها.
ثالثًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: "أطعمه أهلك" لم يقل: وإذا اغتنيت فكفر، وهذا يدل على سقوطها، وأما قول الرسول:"خذ هذا فتصدَّق به"، فيمكن أن يجاب عنه بأن الرجل إذا اغتنى في الحال فإنه تلزمه الكفارة مثل لو كان حين الجماع في نهار رمضان فقيرًا وفي هذا اليوم أو بعده بيوم مات له مورث غني فاغتنى، حينئذ نقول: تجب عليك الكفارة؛ لأن الوقت قريب فيمكن أن يفرق بين شخص اغتنى قريبًا وشخص آخر لم يغتن، فإن هذا لا تلحقه، وهذا أقرب شيء، أي: أنها تسقط بالعجز لشهود الأدلة بذلك.
في هذا الحديث اختلاف في الألفاظ فهل هذا الاختلاف يقتضي أن يكون الحديث مضطربًا، وإذا اقتضى أن يكون مضطربًا صار الحديث ضعيفًا؛ لأن المضطرب من قسم الضعيف؟ فالجواب: لا؛ لأن الاختلاف في الألفاظ إذا كان لا يعود إلى أصل الحديث فإنه لا يضر؛ لأن الأصل المقصود من الحديث هو وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، والروايات كلها متَّفقٌة في ذلك، أما اختلاف الألفاظ في كونه أقسم أن ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منه، وأطعمه أهلك، وما أشبه ذلك فهذا لا يضر، وهذه القاعدة ذكرها المحدثون، وممن ذكرها ابن حجر عند اختلاف الرواة في حديث فضالة بن عبيد حين اشترى قلادة من ذهب باثني عشر دينارًا ففصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فالرواة اختلفوا في الثمن فقال ابن حجر: إن هذا لا يضرٌّ؛ لأن هذا في أصل الحديث، واختلاف الرواة في مقدار الثمن هذا أمر قد يقع، إذ إن الإنسان قد ينسى الثمن، هذه أيضًا اختلاف الألفاظ ولكنها لا تعود إلى أصل