الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: حكمة الشارع في أنه ينبغي للإنسان أن يكون مع نفسه عدلًا في معاملتها؛ لأنه إذا صام ثم استقاء بقي بطنه خاليًا من الطعام والشراب، والشارع أمرنا أن نتسحر ليكون في بطوننا ما يعيننا على الصوم، فإذا أخرجنا ما في البطن هذا يكون غير عدل، فمن ثمَّ صار هذا سببًا مفطرًا فيفطر به الإنسان، وهو نظير الحجامة من بعض الوجوه، ونظير الجماع أيضًا من بعض الوجوه؛ لأن الجماع يخرج من الإنسان الماء وهو موجب للفطور وضعف البدن، فكان من الحكمة أنه يفطر، انظر إلى حكمة الشرع، إن تناول الإنسان ما يغذي به بدنه وهو صائم أفطر؛ لأن ذلك يفقده حكمة الصوم، وإن أخرج ما به ما عليه اعتماد بدنه أفطر، وهذا من الحكمة، فلا تدخل على بدنك شيئًا ولا تخرج منه شيئًا، كن معتدلًا اجعل كل شيء على طبيعته.
ومن فوائد الحديث: أن ما غلب على الإنسان من المحظورات فلا أثر له، مثاله في الصلاة: رجل غلبه الكلام حتى تكلَّم، مثل سقط عليه شيء، وقال:"أح"، هذا غصب عليه، مثل: إغماض العين إذا أقبل عليها شيء، كذلك أيضًا: الظاهر أن الموسوس من هذا النوع، ويدل لهذا قوله تعالى:{لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286].
لو قال قائل: هل من الغلبة الضحك؟ فطن لشيء فقهقه، الغريب أن الضحك يقول العلماء: أنه مبطل للصلاة مطلقًا، قالوا: لأنه منافٍ للصلاة فهو كالحدث؛ لأن الإنسان لو كان بين يدي شخص مهيب من بني آدم لا يمكن أن يضحك أمامه إلا بسبب، فيرون أن هذا لا يجوز، لو فطن لشيء وتبسم بدون صوت هذا لا يبطل الصلاة؛ لأنه ليس من القول، غاية ما هنالك أنه فعل قد يغلب عليه وقد لا يغلب، إنما نصَّ العلماء على أنه إن كان للتبسم فلا يبطل الصلاة، وأن الضحك يبطلها مطلقًا، وعللوا ذلك بأنه نوع استخفاف بالله عز وجل الذي وقف بين يديه، ولكن قد يقول قائل: إن الضحك إذا كان غصب على الإنسان- يعني: رجل حاضر بين يدي الله- لكن سمع شيئًا لا بد أن يضحكه وضحك، فظاهر كلام الفقهاء- رحمة الله عليهم- أنه يبطل الصلاة، وهذا عندي أنه وإن كان من حيث النظر فيه شيء، لكن من حيث التربية يكون أحسن للناس، فيقال له: أعد صلاتك، حتى لا يعوَّد في المستقبل ألَّا يقهقه أبدًا.
حكم الصيام في السفر:
640 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكَّة في رمضان، فصام حتَّى بلغ كراع الغميم، فصام النَّاس، ثمَّ دعا بقدح من ماءٍ فرفعه، حتَّى نظر النَّاس إليه، فشرب، ثمَّ قيل له بعد ذلك: إنَّ بعض النَّاس قد صام. فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة".
- وفي لفظ: "فقيل له: إنَّ النَّاس قد شقَّ عليهم الصِّيام، وإنَّما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدحٍ من ماءٍ بعد العصر، فشرب". رواه مسلمٌ.
قوله: "عام الفتح" منصوب على الظرفية لأنه مفعول فيه؛ أي: أن الفعل واقع فيه، فكل اسم زمان أو مكان بدل على أن الفعل واقع فيه فإنه يسمَّى مفعولا فيه وينصب على الظرفية.
وقوله: "في رمضان" ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، و"كراع الغميم": واد أمام عسفان، سمِّي بذلك لأنه يشبه الكراع.
وقوله: "قدح" أي: إناء يشرب به، و"أولاء" اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، و"العصاة" خبره، وكرر ذلك تأكيدًا لفظيًا، وقوله:"إنما" هذه أداة حصر، يعني: لا ينظرون إلا في فعلك فيما فعلت، "ما" هذه يجوز أن تكون موصولة وعائدها محذوف تقديره: فيما فعلته، ويجوز أن تكون مصدرية، فيؤول ما بعدها بمصدر، فتكون:"في فعلك".
وقوله: "فدعا بقدح من ماء بعد العصر" أي: في آخر النهار، وقول جابر:"خرج عام الفتح"؛ أي: عام فتح مكة، وذلك في رمضان بعد مضي أيام منه خرج لقتال قريش؛ لأنهم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه في صلح الحديبية، حيث أعانوا حلفاءهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن إعانة حلفائهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم نقض للعهد.
يقول: "خرج إلى مكة" ذلك في السَّنة الثامنة من الهجرة، "فصام" أي: في سفره؛ وذلك لأن الأفضل الصوم في السفر إلا أن يشق على الإنسان، فإن الأفضل الفطر، وقوله:"حتى بلغ""حتى": هذه غائبة، أي: إلى أن بلغ هذا المحل، فلما بلغه وكان الناس قد صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل المراد أكثرهم؛ لأنهم كانوا يسافرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم منهم المفطر ومنهم الصائم، ولكن شق الصوم على الناس، ولم يفطروا اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، فجيء إليه فقيل: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنهم ينظرون ماذا يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم أسوتهم، يقول:"ثم دعا بقدح من ماء فرفعه"، يعني: طلب ماء فرفعه على بعيره، حتى رآه الناس فشرب والناس ينظرون تحقيقًا لفطره، وليحملهم على التأسي به صلى الله عليه وسلم، من الناس من أفطر كما أفطر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الناس من بقي متعللًا بأن ذلك كان بعد صلاة العصر، والزمن قريب، ولكن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الناس قد صام، بمعنى: استمر على صيامه، فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هؤلاء؟
قال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة"، "العصاة" هنا هل جمع مؤنث سالم، أو هي جمع تكسير؟ جمع تكسير، ما الذي يمنع أن تكون جمعًا مؤنثًا سالمًا؛ لأن الألف أصلية، وابن مالك
يقول:
وما بتا وألفٍ قد جمعا
وهذه ما جمعت بالألف والتاء وإنما جمعت بالصيغة؛ لأن "عصاة" على وزن "فعلة"، ومفردها عاصٍ. إذن نقول: العصاة ليست جمعًا مؤنثًا سالمًا، ومن ذلك كتبت التاء بالهاء، ولو كانت جمعًا مؤنثًا سالمًا لكانت مفتوحة، فما هي المعصية؟ المعصية مخالفة الأمر، وتارة تكون بترك الواجب، وتارة تكون بفعل المحرم، هذا إذا ذكرت وحدها، أما إذا قيل: طاعة ومعصية فالطاعة في الأمر والمعصية في فعل المنهي عنه، فإن أفردتَّ إحداهما شملت الأخرى، وفي اللفظ الثاني فيه بيان سبب فطر النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه إنما أفطر من أجل مشقة الصوم على الناس.
ففي هذا الحديث فوائد كثيرة، منها: عدم جواز قتال أهل مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد خرج لقتالهم؛ إلَّا أن هذا الحكم- قتالهم- قد نسخه النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من الفتح، فإنه قام خطيبًا في الناس، وأخبر بأن مكة حرام بحرمة الله منذ خلق السموات والأرض، وأنها لم تحل لأحد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها لم تحل للرسول صلى الله عليه وسلم دائمًا، وإنما أحلت له ساعة من نهار للضرورة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها عادت حرمتها منذ ذاك اليوم الذي خطب فيه كحرمتها بالأمس، يعني: كانت حرامًا ثم أحلت، ثم حرمت، فيكون النسخ وقع عليها مرتين.
ثم قال: إن أحدًا ترخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوله: "إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم"، جواب لأمر مفروض، إذن قولنا: إنه يستفاد منها عدم جواز القتال في مكة صحيح؛ لأن هذا خاصٌّ بالرسول صلى الله عليه وسلم للضرورة، وكان في هذا الإذن من المصالح العظيمة ما لا يربو على مفسدته وإلا فقتال أهل مكة في البلد الآمن ليس بالأمر الهين، لكن فيه من المصالح العظيمة ما يربو على هذه المفسدة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حرر مكة من الشرك ومن حكم أهل الشرك وصارت البلد بلدًا إسلاميًّا بعد أن كانت بلد كفر.
وفي هذا دليل على جواز الخروج للقتال في رمضان. لا يقول قائل: سنبقى حتى نفطر، بل نقول: متى دعت الحاجة إلى الخروج فاخرج ولو في رمضان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان.
وفيه دليل على جواز الصوم في السفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام والناس معه، وهذه المسألة
اختلف فيها أهل العلم- رحمهم الله فقال بعض العلماء: إن الصوم الواجب في السفر لا يجزئ عن الصوم المفروض، وإن الإنسان يحرم عليه أن يصوم في رمضان في السفر، ولو فعل كان آثمًا ولا يجزئه، وهذا مذهب الظاهرية، واستدلوا بقوله تعالى:{ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدةٌ من أيَّامٍ أخر} [البقرة: 185]. أي: فعليه عدة، وعليه فيكون صومه قبل أن يرجع من سفره، كالصوم في شعبان؛ لأنه صام في غير الوقت الذي يلزمه الصوم فيه، ولكن جمهور أهل العلم على خلاف قولهم، بل قالوا: إن الصوم جائز والفطر جائز، ولا ريب أن هذا القول هو المتعين؛ لأن السُّنة دلَّت عليه، والآية الكريمة فيها تقدير: من كان مريضًا، أو على سفر فأفطر، فعدة من أيام أخر هذا يتعين؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في أسفاره وصومه يفسر الآية الكريمة، ثم القائلون بالجواز اختلفوا، فمنهم من قال: الأفضل الصوم، ومنهم من قال: الأفضل الفطر، ومنهم من قال: هما سواء؛ فالذين قالوا: إن الأفضل الصوم عللوا قولهم هذا بوجوه:
الوجه الأول: أن هذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه صام، ولكنه لما شق على الناس الصيام أفطر مراعاة لهم، بدليل أنه- صلوات الله وسلامه عليه- دعا بالقدح من الماء ورفعه والناس ينظرون؛ لأنه لولا أنه يريد أن يفطر الناس لكان بإمكانه أن يفطر بدون أن يرفع الإناء؛ ولأن أبا الدرداء رضي الله عنه قال:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر في رمضان، حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة"، الحر شديد، الإنسان من شدة الحر يضع يده على رأسه، لكن كان الناس مفطرين، ولم يفطر النبي صلى الله عليه وسلم بل كان صائمًا؛ لأنه لا داعي للفطر في هذه الحال؛ لأنه أفطر هنا كما في حديث جابر من أجل الناس، لكن لما كان الناس مفطرين في حديث أبي الدرداء لم يفطر بقي على صومه- صلوات الله وسلامه عليه- مع شدة الحر، إذن هذه علة.
العلة الثانية: أنه أسرع في إبراء الذمة؛ لأنك إذا صمت في الشهر برئت ذمتك من الصوم، فإذا لم تصم بقي الصوم عليك دينًا، ثم قد تتكاسل وتتهاون حتى يأتي رمضان الثاني، كما هو الواقع الآن، أتصدقون أن بعض الناس يسألون في آخر يوم من شعبان، يقول: عليَّ صوم يوم من رمضان أصوم [غدًا]. وهو يوم الثلاثين من شعبان؟ ! مضى عليه إحدى عشر شهرًا، وشتاء قصر نهار وبرودة، وأخَّره إلى يوم الشك ربما يكون من رمضان، انظر كيف يسول الشيطان للإنسان، فإذا صام الإنسان الشهر في وقته صار ذلك أسرع في إبراء ذمته.
ثالثًا: أنه أيسر له، لأن هذا مشاهد، وهو أن الإنسان إذا صام مع الناس صار أيسر له.
إذن تيسير العبادة على الإنسان لا شك أنه مراد للشارع، ولاسيما وأن قوله تعالى {يريد
الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. جاءت في آيات الصيام من أجل هذه الأمور الثلاثة، قالوا: إن صوم الإنسان في رمضان أفضل من الفطر في السفر، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، والذين قالوا: إن الفطر أفضل ويكره الصوم وهذا مذهب الحنابلة- رحمهم الله، وعللوا ذلك بأن هذا رخصة من الله وكرم، والإنسان لا ينبغي له أن يرد الرُّخصة والكرم؛ لأن ردَّ كرم الكريم غير محبوب إلى النفوس، وغير لائق من حيث الأدب، ولهذا لما سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى:{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلوة إن خفتم أن يفتنكم الَّذين كفروا} [النساء: 101]. قال: يا رسول الله، كيف نقصر ونحن آمنون؟ قال:"صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". معناه: أننا مأمورون بأخذ الرُّخص وألا نشدد على أنفسنا، فقالوا: ما دامت رخصة فإن الأولى الأخذ بها وألا نرد فضل الله وكرمه وإحسانه بل نقبله، والله عز وجل إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى نعمته عليه، وأيضًا فإننا نتحاشى بذلك قول بعض علماء المسلمين، وهو: أن الإنسان إذا صام لا يقبل منه صومه ولا تبرأ به ذمته، فنحن نؤخره لنصومه قضاء، وإذا صمناه قضاء أجزأ عنا ذلك بإجماع المسلمين ظاهريَّهم وقياسيَّهم، وإذا صمنا في رمضان قال لنا بعض علماء المسلمين: إن صومكم غير صحيح، فإذن نراعي هذا الخلاف ونؤخر الصوم ونجعله قضاء.
وأما الذين قالوا بالتخيير على السواء، فاستدلوا بحديث أنس رضي الله عنه:"كنا نسافر مع النبي"؛ فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم". إذن المسألة ما فيها لوم على من صام ولا على من أفطر، وهذا يدل على التخيير، ولكننا إذا رجعنا إلى النظر بين هذه الأقوال الثلاثة وجدنا أن القول الأخير ضعيف، وهو أن الصوم والفطر على حد سواء، يبقى النظر بين مذهب الشافعي في المشهور منه، ومذهب الحنابلة في المشهور عنهم، مذهب الشافعي مؤيد بنص، ومذهب الحنابلة مؤيد بالقياس، والمؤيد بالنص أقوى؛ لأننا نقول: كل هذه النظريات والأقيسة تبطل بكون أتقى الناس وأعلمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في السفر، وما دام يصوم فلا ريب أن الأفضل الصوم، نعم، نحن نوافقكم على أن الإنسان إذا وجد في الصوم أدنى مشقة فإننا نقول له: لا تصم، بل الصوم لك مكروه؛ فإن تضررت فهو حرام عليك، وهذا القول هو الراجح عندي، بمعنى: أن الأفضل الصوم إلا لمن يجد مشقة ولو يسيرة فالأفضل الفطر، ومن خاف ضررًا أو مشقة غير محتملة فإن الصوم فيه حقه حرام؛ لأن عدوله فن الفطر مع وجود المشقة الشديدة يدل على تنطع في الدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون"، وبهذا نعرف خطأ بعض العامة وأشباه العامة الذين يذهبون إلى
العمرة في رمضان ثم يعلمون أنهم سيقدمون في النهار، وأنه سيلحقهم مشقة في الطواف والسعي وطلب المنزل وما أشبه ذلك، وتراهم يصومون! تجد الواحد منهم يتعب في الطواف والسعي وغيره وهو مصرٌّ على الصوم، لماذا؟ خطأ هذا إذا قال: هل ترون أن أبقى صائمًا وأؤجل أداء مناسك العمرة، أو أن أفطر وأؤدي مناسك العمرة فور وصولي؟ الأخير لا شك أنه أفضل، لماذا؟ لأن لدينا قاعدة شرعية أن الشيء المقصود ينبغي المبادرة به، دليل هذه القاعدة فعل أحزم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، المبادرة بالشيء؛ لأن انتهاز الفرص أمر مطلوب للشرع، ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن الحزم؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، هذه القاعدة أخذناها من عدة وقائع:
منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي في المسجد أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ولم يتأخر مع أنه من الممكن أن يتأخر، وتطهر الأرض بالشمس والهواء.
ثانيًا: لما بال الصبي في حجره ما قال: إذا قمت إلى الصلاة أنضح الثوب، بل دعا بماء وأتبعه إياه، ولمَّا دعاه عتبان بن مالك إلى بيته لمكان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم يتخذه عتبان مصلَّى قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى عتبان في بيته، وكان قد جهز لهم طعامًا، فمن حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم قال: أين تريد أن أصلي؟ ما جلس يأكل الطعام ثم بعد ذلك يقول: أين المكان، فور وصوله قال: أين تريد أن أصلي؟ فدل هذا على المبادرة: إذن فأنا ما قدمت إلى مكة إلَّا للعمرة كيف أؤخرها إلى الليل مراعاة للصوم الذي يحل لي أن أفطر منه، هذا واحد.
ثانيًا: دليل خاص بهذه المسألة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم مكة للنسك لا يبدأ بشيء قبله، حتى إنه لا ينيخ راحلته إلا عند المسجد للمبادرة بقضاء النسك، فنقول لإخواننا الذين يقدمون مكة للعمرة في رمضان: الأولى بكم والأوفق للسُّنة أن تفطروا، ما دمتم ستجدون مشقة فأفطروا وأدوا المناسك بسهولة، جماعة لم يفطروا ودخلوا مكة صائمين وطافوا، ولما طافوا عطشوا شق عليهم العطش، نقول: أفطروا ولا بأس، وهل يشربون والناس ينظرون؟ في مكة الآفاقيون فيها كثيرون، يمكن في بلدك التي ما يرد عليها آفاقيون يمكن أن نقول: لا تفطر علنًا، لكن في مكة في ظني أن هذا لا بأس به ولو أمام الناس، وقد فعلت ذلك أنا في العام الماضي وتعمدته، جلست إلى إحدى الترامس وجعلت أشرب فوقف واحد عليَّ، وقال: كيف تشرب في رمضان؟ فقلت: هذا يا أخي جائز نحن مسافرون، لكن على كل حال القصد إن مثل هذه المسائل إظهارها للناس من أجل ألا يشدد عليهم.
إذن نأخذ من هذا: أن الأفضل لمن يشق عليه الصوم أن يفطر، هل هناك دليل لهذه المسألة؟ نقول: الدليل هذا الحديث الذي معنا، ودليل آخر نص في الموضوع في قصة الرجل الذي كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى النبي صلى الله عليه وسلم زحامًا ورجلًا قد ظلل عليه قال:"وما هذا؟ " قالوا: صائم. فقال: "ليس من البر الصيام في السفر". فنفى أن يكون برًّا، وهذا مما استدل به أيضًا من يقول: إن الأفضل الفطر، أخذوا بالعموم، ولكن نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من البر الصيام في السفر" في حالة خاصة، وهي المشقة التي بلغ بصاحبها أن يظلل عليه، وأن يزدحم الناس عليه كأنه في مرض الموت.
ويستفاد من هذا الحديث: جواز الفطر في أثناء النهار للمسافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعد العصر.
زد على ذلك أنه يستفاد منه: جواز الفطر لمن رخص له فيه، ولو في آخر النهار.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإمام المتبوع والمسئول أن يراعي أحوال الناس، ويعدل عن الأفضل إلى المفضول مراعاة لأحوال الناس؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة لأحوال الناس، ويدل على أنه أكثر مراعاة لأحوالهم ما سبق بحديث أبي الدرداء، ويدل ذلك أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء كان يستحب أن يؤخر من العشاء، ولكن إذا اجتمع الناس عجَّل لئلا يشق عليهم في الانتظار، فيدع الفاضل إلى المفضول مراعاة لأحوال الناس، بل يدل على ذلك أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك بنيان الكعبة على قواعد إبراهيم خوفًا من تغير الناس ونفورهم، قال لعائشة:"لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين: باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه". ولكنه تركها خوفًا من نفور الناس، والحكمة فيما قدر الله عز وجل لما تولى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الخلافة في الحجاز هدمها وبناها على قواعد إبراهيم، وجعل لها بابين، باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه، ولما قضي عليه رضي الله عنه أعيدت الكعبة على ما هي عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحكمة فيما أراد الله سبحانه وتعالى الآن، يعني: ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم من انتفاع الناس بدخول الكعبة، وجعل بابين لها حصل، أين البابان؟ الحجر الآن من الكعبة له باب يدخل منه الناس وباب يخرجون، مع أن في هذا راحة الناس أكثر مما لو كانت قد سقفت، لو كان الناس على جهلهم اليوم لقتل بعضهم بعضًا، يمكن أن يكون الذي يدخل لا يخرج، لكن من نعمة الله عز وجل أنه تعالى أعادها على ما كانت عليه، والذي قدره النبي صلى الله عليه وسلم وأراده حصل- ولله الحمد- الآن باب يدخل منه
الناس، وباب منه يخرجون مع الانشراح والهواء وعدم المشقة.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يؤكد قوله بفعله ليطمئن الناس إليه؛ لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا بقدح فشرب والناس ينظرون.
ومنها: أن نقل بعض مخالفات الناس للمصلحة لا يعد من النميمة أو الغيبة، والدليل قولهم:"إن بعض الناس قد صام"، ووجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الذين بلغوا وإنما أنكر على الذين خالفوا.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز وصف الإنسان بما يكره على سبيل العموم إذا كان واقعًا فيه؛ لقوله: "أولئك العصاة"، هذا على سبيل العموم، ولا شك أن المعصية وصف ذميم مكروه للنفوس، ولكن إذا كان الإنسان مستحقًّا له فلا بأس أن يوصف به، أما أن نقول لشخص معين: أنت عاصٍ فهذا محل تفصيل، إن اقتضت المصلحة ذلك بأن يكون فيه ردع له ولغيره فلنقل له هذا، وإلا فإن الأولى ألا نقول ذلك له مواجهة ومباشرة؛ لأن هذا ربما يثيره فتأخذه العزة بالإثم فيزداد تعنتًا في معصيته وربما ازداد معصية أخرى.
ومنها: أن النفوس مجبولة على تقليد الكبير؛ لقوله: "وإنما ينظرون فيما فعل"، ولا شك في هذا.
ومن فوائد الحديث: جواز الإخبار عما يحصل في العبادات من المشقة لقولهم: "إن الناس قد شق عليهم الصيام"، لا يقال: إن هذه شكوى من مشقة العبادة، بل يقال: إن هذا خبر، وفرق بين الخبر المجرد وبين الخبر الذي يراد به الشكوى؛ ولهذا يجوز للمريض أن يخبر بما يجد، لكن من غير شكوى، مثلًا يقول: كيف أنت؟ يقول: والله البارحة سهلت وتعبت وآلمني كذا، وآلمني كذا، لكن إخبار لا شكوى، ولهذا بعض المرضى يقول: إخبار لا شكوى، وهناك فرق بينهما؛ فإذا أخبرت بأن العبادة شقت عليك لا تشكيًا منها فهذا لا بأس به.
ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه مع أصحابه؛ لأنه شرب هذا بعد العصر والناس ينظرون، كل هذا من أجل التسهيل والتيسير عليهم.
ومنها أيضًا: جواز سؤال الغير حيث لا يكون في ذلك منة على السائل؛ لقوله: "فدعا بقدح"، فإن الإنسان لا حرج عليه إذا كان لا يرى منّة عليه في السؤال أن يسأل، ومثل الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سأل أحدًا قال: هات قدحًا هل يعتذر المسئول؟ لا، هذه منّة من الرسول عليه، لكن لو تدعو إنسانًا مساويًا لك تقول: أعطني قدحًا، تجده يغيب ساعتين ويتمهل، هذا الأحسن ألَّا تسأله؛ لأن فيه منّة وفيه إحراجًا، لكن بعض الناس تسأله قبل أن ينتهي الكلام تجده يأتي لك بما تريد، هذا ما يقال: إن سؤاله يعتبر من الذُّل أمام الناس، بل هذا من الأمر المباح الذي سنه
الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته.
ومنها: جواز الإخبار بالكل عن البعض من قولهم: "إن الناس قد شق عليهم الصيام"؛ لأن الظاهر- والله أعلم- أنه ليس كل الناس يشقُّ عليهم ذلك، فإن الناس يختلفون في التحمل، ويختلفون أيضًا في الجوع وفي العطش، بعض الناس يجوع سريعًا ويعطش سريعًا، وهذا فرد من أفراد كبيرة وهي جواز إخبار الإنسان بما يغلب على ظنه بل جواز إقسامه على ذلك، كما سيأتينا في حديث أبي هريرة.
والحديث يدل على أنه ليس كل مجتهد مصيبًا من جهة، ومن جهة أخرى أن من أخطأ في اجتهاده فيجب الإنكار عليه وبيان خطئه، وحينئذٍ نقول: إن العبارة المشهورة عند العلماء: أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد مقيدة بما إذا لم يكن ذلك اجتهادًا مخالفًا للنص، فإن كان مخالفًا للنص فإنه ينكر عليه، لكن ما دامت المسألة محتملة الاجتهاد فإنه لا ينكر؛ إذ ليس اجتهادك أولى بالصواب من اجتهاد الآخر.
641 -
وعن حمزة بن عمرو الأسلميِّ رضي الله عنه أنَّه قال: "يا رسول الله، إنِّي أجد فيَّ قوةً على الصِّيام في السَّفر، فهل عليَّ جناحٌ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي رخصةٌ من الله، فمن أخذ بها فحسنٌ، ومن أحبَّ أن يصوم فلا جناح عليه". رواه مسلمٌ. وأصله في المتَّفقٌ عليه من حديث عائشة أنَّ حمزة بن عمرو سأل.
"حمزة بن عمرو" كان كثير الأسفار كما في رواية أخرى: "وكان له ظهر يكريه"؛ معنى "ظهر": إبل يكريها ويذهب بها فهو كثير الأسفار، فيصادفه هذا الشهر رمضان- وهو في السفر-، يقول:"فهل علي جناح" أي: في الصوم؛ لقوله: "قوة على الصيام"، وكأنه رضي الله عنه استفهم هذا الاستفهام لقوله تعالى:{ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدَّةٌ من أيَّامٍ أخر} [البقرة: 185]. فجعل الله تعالى فريضة هذا المسافر عدة من أيام أخر، فقال:"هل علي جناح" يعني: إذا صمت هذا هو الأقرب، ويحتمل إذا أفطرت لكنه بعيد؛ لأن هذا معلوم من الآية، والجناح معناه: الإثم، وهو مبتدأ مؤخر، والجار والمجرور خبره مقدم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هي رخصة من الله"، الرخصة في اللغة: السهولة والنعومة، ومنه قولهم:"بنان الرُّخص" يعني: ناعم، والبنان طرف الأصبع فهي في اللغة: السهولة، وفي الشرع قالوا: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، هذا التعريف فيه شيء من الصعوبة، ولو قلنا: إن الشرع واللغة هنا متَّفقٌان لم يكن بعيدًا، وإن الرخصة في الشرع هي: التسهيل بإسقاط الواجب أو إباحة المحرم، إسقاط الواجب مثل:
الصوم يفطر الإنسان في السفر، المسح على الخفين رخصة، فيه إسقاط واجب، وهو غسل الرجل، الأكل- أكل الحرام- للمفطر كالميتة هذا أيضًا رخصة وإن كان بعضهم يسميها عزيمة، وبعضهم يقول: هي رخصة واجبة، والخلف قريب من اللفظي، هذه رخصة لأنها استباحة محظور بسبب، فلو قيل: إن الرخصة في الشريعة هي الرخصة في اللغة فهي كلها تسهيل لكان هذا أولى، أولًا: لأن هذا أقرب من الفهم من التعريف الذي عرفه به الأصوليون، الثاني: أنه أقرب إلى موافقة اللغة، والأصل في لغة الشارع أنها لغة العرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عربي، فالأصل أن اللغة الشرعية هي اللغة العربية إلا إذا وجد دليل يخص المعنى الشرعي بمعنى لا تقتضيه اللغة، مع أني أقول: إن المعنى الشرعي وإن كان أخص غالبًا من المعنى اللغوي فإنه لا بد أن يكون بينه وبين المعنى اللغوي ارتباط، ونحن نقول: إن المعنى اللغوي قد يكون أخص، وقد يكون أعمُّ. الغالب: أن المعنى اللغوي أعمُّ من المعنى الشرعي، وقد يكون المعنى اللغوي أخصُّ، مثل: الإيمان في اللغة: التصديق، أو التصديق المتضمن للإقرار، لكن في الشرع: الإيمان يشمل الاعتقاد، وهو التصديق والقول والعمل.
المهم: أن الأولى أن تفسر الرخصة بأنها السهولة لغة وشرعًا، وأنها في الشرع: التسهيل لإسقاط واجب أو إباحة محظور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هي رخصة فمن أخذ بها فحسن أخذه بها" لأن قبول رخصة الله لا شك أنها من الأمور المطلوبة، فإن رخصة الله عز وجل فضل من الله ومنَّة، وينبغي أن نقبل فضل ذي الفضل ومنته.
"ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" هذا جواب قوله: "فهل عليَّ جناح؟ " أي: فله أن يصوم، وهذا يدل على التخيير، لكن مع ترجيح الأخذ بالرخصة؛ لأنه قال:"فحسن" ولكن يقال: إن الرسول قال: "من أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" قد يقول قائل: إن هذا نفي لتوهم المنع، كقوله تعالى:{* إنَّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوَّف بهما} [البقرة: 158]، معناه: أن الطواف بهما واجب سواء كان ركنًا أو اصطلاحًا، فقد يقول قائل: إن نفي الجناح هنا لدفع توهم المنع، وعليه فلا يمنع أن يكون مساويًا للصوم، ثم إنه سبق لنا أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للصيام في السفر يدل على ترجيحه، لكن لو كان على الإنسان مشقة ولو بعض المشقة فالأفضل الفطر.
يستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: حرص الصحابة- رضي الله عنهم على التفقة في الدين، وذلك لسؤال حمزة بن عمرو للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن بعض الناس يظن أن الترخيص من أجل المشقة، وأنه إذا وجدت القوة فلا رخصة، لقول حمزة:"إني أجد قوة على الصيام فهل عليَّ من جناح؟ " وهذا على احتمال أن