المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النهى عن تلقي الركبان: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

-

- ‌[كتاب الزكاة]

- ‌مفهوم الزكاة:

- ‌فائدة الزكاة:

- ‌متى فرضت الزكاة

- ‌حكم الزكاة:

- ‌مسألة: هل تُؤخذ الزكاة قهرًا

- ‌مسألة: هل يمنع الدَّين وجوب الزكاة

- ‌زكاة بهيمة الأنعام:

- ‌أحكام مهمة في السوم:

- ‌زكاة الفضة والمعتبر فيها:

- ‌حكم الخلطة في السائمة وغيرها:

- ‌زكاة البقر ونصابها:

- ‌مشروعية بعث السُّعاة لقبض الزكاة:

- ‌لا زكاة على المسلم في عبيده وخيله:

- ‌للإمام أن يأخذ الزكاة قهرًا ويعاقب المانع:

- ‌شروط الزكاة:

- ‌حكم زكاة البقر العوامل:

- ‌فائدة فيما لا يشترط فيه الحول:

- ‌الزكاة في مال الصبي:

- ‌الدعاء لمخرج الزكاة:

- ‌حكم لتعجيل الزكاة:

- ‌زكاة الحبوب والثمار:

- ‌مسألة: اختلاف العلماء في نصاب الفضة

- ‌أنواع الحبوب التي تجب فيها الزكاة:

- ‌خرص الثمر قبل نضوجه:

- ‌حكم زكاة الحلي:

- ‌فائدة في جواز لبس الذهب المحلق:

- ‌زكاة عروض التجارة:

- ‌كيف نؤدي زكاة عروض التجارة

- ‌زكاة الركاز:

- ‌زكاة الكنز والمعادن:

- ‌1 - باب صدقة الفطر

- ‌صدقة الفطر من تجب

- ‌فائدة: الواجبات تسقط بالعجز:

- ‌الحكمة من صدقة الفطر

- ‌مقدار صدقة الفطر ومما تكون

- ‌وقت صدقة الفطر وفائدتها:

- ‌2 - باب صدقة التَّطوُّع

- ‌مفهوم صدقة التطوع وفائدتها:

- ‌استحباب إخفاء الصدقة:

- ‌فضل صدقة التطوع:

- ‌اليد العليا خير من اليد السفلى:

- ‌أفضل الصدقة جهد المقل:

- ‌فضل الصدقة على الزوجة والأولاد:

- ‌حكم صدقة المرأة من مال زوجها:

- ‌جواز تصدق المرأة على زوجها:

- ‌كراهية سؤال الناس لغير ضرورة:

- ‌مسائل مهمة:

- ‌3 - باب قسم الصدقات

- ‌أقسام أهل الزكاة:

- ‌متى تحل الزكاة للغني

- ‌من اللذين تتجل لهم الصدقة:

- ‌فائدة في أقسام البيئات:

- ‌الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لآله:

- ‌مسألة مهمة:

- ‌آل النبي الذين لا تحل لهم الصدقة:

- ‌حكم أخذ موالي آل الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقة

- ‌جواز الأخذ لمن أعطي بغير مسألة:

-

- ‌كتاب الصيام

- ‌مفهوم الصيام وحكمه:

- ‌فوائد الصيام:

- ‌النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين:

- ‌كيف يثبت دخول رمضان

- ‌يقبل خبر الواحد في إثبات الهلال:

- ‌حكم تبييت النية في الصيام:

- ‌مسألة: ما الحكم إذا تعارض الرفع والوقف

- ‌حكم قطع الصوم

- ‌فضل تعجيل الفطر:

- ‌فضل السُّحور:

- ‌النهي عن الوصال:

- ‌حكمة مشروعية الصيام:

- ‌هل تبطل الغيبة الصيام

- ‌حكم القبلة للصائم:

- ‌حكم الحجامة للصائم

- ‌فائدة في ثبوت النسخ في الأحكام:

- ‌حكم الفصد والشرط للصائم:

- ‌حكم الاكتحال للصائم:

- ‌حكم من أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم:

- ‌حكم من استقاء وهو صائم:

- ‌حكم الصيام في السفر:

- ‌جواز فطر الكبير والمريض:

- ‌حكم من جامع في رمضان:

- ‌مسألة: هل المرأة زوجة الرجل عليها كفارة

- ‌هل على من تعمد الفطر كفارة

- ‌حكم الصائم إذا أصبح جنبًا:

- ‌حكم من مات وعليه صوم:

- ‌1 - باب صوم التَّطوُّع وما نهي عن صومه

- ‌فضل صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء:

- ‌فائدة: حكم الاحتفال بالمولد النبوي:

- ‌فضل صيام ستة أيام من شوال:

- ‌فضل الصوم في شعبان:

- ‌حكم صوم المرأة بغير إذن زوجها:

- ‌فائدة: حكم سفر المرأة بغير إذن زوجها:

- ‌النهي عن صيام يوم الفطر ويوم النحر:

- ‌النهي عن صيام أيام التشريق:

- ‌فائدة في حقيقة الذكر:

- ‌حكم صيام يوم الجمعة:

- ‌حكم صيام يوم السبت والأحد تطوعًا:

- ‌حكم الصيام إذا انتصف شعبان:

- ‌النهي عن صوم يوم عرفة للحاج:

- ‌النهي عن صوم الدهر:

- ‌2 - باب الاعتكاف وقيام رمضان

- ‌مفهوم الاعتكاف وحكمه:

- ‌فضل العشر الأواخر من رمضان:

- ‌فائدة في ذكر أقسام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌آداب الاعتكاف وأحكامه:

- ‌مسألة مهمة:

- ‌ليلة القدر

- ‌فضل المساجد الثلاثة:

- ‌فائدة:

-

- ‌كتاب الحج

- ‌تعريف الحج لغةً واصطلاحًا:

- ‌متى فرض الحج

- ‌1 - باب فضله وبيان من فرض عليه

- ‌شروط الحج المبرور:

- ‌جهاد النساء: الحج والعمرة:

- ‌حكم العمرة:

- ‌حكم حج الصبي:

- ‌حكم الحج عن الغير:

- ‌حكم سفر المرأة بغير محرم للحج والخلوة:

- ‌حكم من حج عن غيره قبل الحج عن نفسه:

- ‌فرض الحج في العمر مرة واحدة:

- ‌2 - باب المواقيت

- ‌المواقيت: تعريفها وبيان أقسامها:

- ‌3 - باب وجوه الإحرام وصفته

- ‌4 - باب الإحرام وما يتعلق به

- ‌استحباب رفع الصوت بالتلبية:

- ‌جواز استعمال الطيب عند الإحرام:

- ‌النهي عن النكاح والخطبة للمحرم:

- ‌من محظورات الإحرام قتل الصيد:

- ‌ما يجوز للمحرم قتله:

- ‌فائدة: أقسام الدواب من حيث القتل وعدمه:

- ‌حكم الحجامة للمحرم:

- ‌تحريم مكة:

- ‌تحريم المدينة:

- ‌5 - باب صفة الحج ودخول مكة

- ‌صفة دخول مكة:

- ‌صفة الطواف:

- ‌وقت رمي جمرة العقبة والوقوف بعرفة والمزدلفة:

- ‌متى تقطع التلبية

- ‌صفة رمي الجمرات ووقته:

- ‌وقت الحلق أو التقصير:

- ‌صفة التحلل عند الحصر وبعض أحكامه:

- ‌التحلل الأصغر:

- ‌عدم جواز الحلق النساء:

- ‌مسألة حكم قص المرأة لشعر رأسها

- ‌استحباب الخطبة يوم النحر:

- ‌حكم طواف الوداع في الحج والعمرة:

- ‌فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي:

- ‌6 - باب الفوات والإحصار

- ‌الاشتراط عن الإحرام وأحكامه:

- ‌أسئلة مهمة على الحج:

- ‌كتاب البيوع

- ‌1 - باب شروطه وما نهي عنه

- ‌أطيب الكسب:

- ‌تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام:

- ‌تحريم بيع الميتة مثل الدخان والدم:

- ‌تحريم بيع الأصنام وما يلحق بها من الكتب المضلة والمجلات الخليعة:

- ‌النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن:

- ‌جواز اشتراط منفعة المبيع للبائع:

- ‌جواز بيع المدبَّر إذا كان على صاحبه دين:

- ‌حكم أكل وبيع السمن الذي تقع فيه فأرة:

- ‌بطلان مخالفة الشرع:

- ‌حكم أمهات الأولاد:

- ‌النهي عن بيع فضل الماء وعسب الفحل:

- ‌النهى عن بيع الولاء وهبته:

- ‌النهي عن بيع الحصاة وبيع الغرر:

- ‌مسألة: هل يجوز بيع المسك في فأرته

- ‌بيع الجهالة:

- ‌النهى عن بيعتين في بيعة:

- ‌السلف والبيع:

- ‌بيع العُربان:

- ‌حكم بيع السلع حيث تُبتاع:

- ‌مسألة بيع الدَّين:

- ‌بيع النَّجش:

- ‌النهي عن المحاقلة والمزابنة وما أشبهها:

- ‌النهى عن تلقِّي الرُّكبان:

- ‌بيع الرجل على بيع أخيه المسلم:

- ‌حكم التفريق بين ذوي الرحم في البيع:

- ‌حكم التسعيرة:

- ‌ الاحتكار

- ‌بيع الإبل والغنم المصرَّاة:

- ‌تحريم الغش في البيع:

- ‌جواز التوكيل في البيع والشراء:

- ‌بيع الغرر:

- ‌بيع المضامين:

الفصل: ‌النهى عن تلقي الركبان:

ومن فوائد الحديث: النهي عن الملامسة والمنابذة، وذلك لأنهما من بيع الغرر الذي يؤدي إلى الجهالة والعداوة والبغضاء والندم من المغبون، وكل هذا مما يُنهى عنه في الشرع.

‌النهى عن تلقِّي الرُّكبان:

774 -

وعن طاوس، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقَّوا الرُّكبان، ولا يبع حاضر لباد. قلت لابن عباس: ما قوله: ولا يبع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارًا". متَّفق عليه، واللَّفظ للبخاريِّ.

قال: "لا تلقوا الركبان" الجملة هنا جملة إنشائية متضمنة للنهي عن تلقي الرُّكبان، و "تلقي" بمعنى: استقبال، و "الركبان" جمع راكب، والمراد بهم: كل من يقدم للبلد لبيع سلعته من راكب وماش وواحد وجماعة، لكنه علق الحكم بالركبان، لأن الغالب أن الذين يقدمون البلد لبيع السلع يكونون هكذا راكبين، ويكونون أيضًا جماعة، وإلا فلو قدم واحد لبيع سلعته فله هذا الحكم.

وقوله: "لا بيع حاضر لباد"، "الحاضر": صاحب القرية، و"البادي": من ليس من أهل القرية؛ لأنه أتى من البادئة، وهنا "لا يبع" فتكون "لا" ناهية.

ثم سأل ابن عباس: ما معنى قوله: "لا يبع حاضر لباد"؟ قال: "لا يكون له سمسارًا" والسمسار هو الذي يبيع لغيره بأجرة، وضده من يبيع لغيره مجانًا، ولكن للنصح، فالسمسار يبيع لغيره لمصلحة نفسه، والمتبرع يبيع لغيره لمصلحة الغير، لكنه يريد الأجر من الله، وبينهما فرق؛ أي: السمسار والمتبرِّع؛ لأن المتبرع ناصح محضًا، والسمسار إنما هو للمصلحة، رجل أناني.

وقوله: "تلقوا الركبان" المراد: تلقيهم للشراء منهم، أما إذا تلقاهم ليضيفهم فإن ذلك لا بأس به، فالمراد: تلقيهم للشراء منهم؛ وذلك لأن الشراء منهم فيه مفسدتان: المفسدة الأولى: ما يخشى من غبنهم؛ لأن هؤلاء قدموا إلى البلد لا يعرفون الأسعار، فيأتي هذا المتلقي الذي تلقاهم خارج البلد ويشتري منهم برخص فيعينهم، المسألة الثانية: أن فيه تفويتًا للربح على أهل البلد؛ لأنه جرت العادة أن هؤلاء الرُّكبان يبيعون برخص ويشتري الناس منهم، ويكسبون من ورائهم، فمن أجل هذين الأمرين نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، أما الحاضر لباد فنهى عنه؛ لأن الحاضر عالم بالسلعة، والبادي غير عالم، والبادي في الغالب يبيع برخص، لأنه يريد أن يقضي حاجته ويمشي، فإذا تولى الحاضر البيع له فإنه لن يبيع برخص سيبيع بالثمن الذي يبيع به الناس، وحينئذ يفوت الناس الفائدة التي تحصل من بيع البادي بنفسه.

ص: 577

ففي هذا الحديث فوائد: أولًا: النهي عن تلقي الركبان للشراء منهم لقوله: "لا تلقوا"، وهذا النهي للتحريم أو للكراهة؟ للتحريم؛ لأن الأصل في النهي التحريم، ولأجل العلة التي تفوت بهذا التلقي.

ومن فوائد الحديث: حماية الشرع لمصالح العباد الفردية والجماعية، الفردية؛ لأن في النهي عن تلقي الركبان حماية للبائع، وهذه فردية، وتفويت مصلحة لأهل البلد وهذه جماعية، فالشرع يحمي المصالح الفردية والجماعية.

وظاهر الحديث النهي عن تلقي الرُّكبان، سواء كانوا يعلمون بالقيمة أو لا يعلمون، أما إذا كانوا لا يعلمون فالأمر ظاهر، وأما إذا كانوا يعلمون فإن العلة ألا يتخذ هذا ذريعة لتلقي من لا يعلم، صحيح أنه ربما يكون الذين قدموا لبلد لبيع سلعهم يعرفون الأسعار تمامًا وربما لم يأتوا لهذا البلد إلا لعلمهم بالسعر لاسيما في وقتنا هذا سهولة المواصلات، والإنسان يستطيع أن يعلم بالهاتف القيمة قبل أن يتوجه من بلده فضلًا عن وصوله للبلد، لكن نقول: الحديث عام ويجب سد الباب.

هل إذا اشترى منهم يصح البيع أو لا يصح البيع؟ نقول: في هذا قولان لأهل العلم - وهذه هي الفائدة الرابعة- فمن العلماء من يقول: إن البيع لا يصح؛ وذلك لأن النهي عن التلقي يراد به النهي عن الشراء فيكون النهي حقيقة عائدًا إلى الشراء ويكون هذا الشراء منهيًا عنه ولا يمكن أن يصح، ولكن الصحيح أن الشراء يصح، ودليل ذلك ما يأتي في الحديث الذي بعده أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تلقوا الجلب، فمن تلقي فاشتري منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار"، قالوا: وثبوت الخيار له فرع عن صحة البيع إذ لا خيار إلا بعد بيع، ولا شك أن هذا هو ظاهر الحديث أن البيع صحيح، بدليل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أثبت للرُّكبان الخيار، وثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، على أنه يمكن أن يقول قائل: أن المراد بالخيار: الإمضاء، ويكون ذلك من باب تصرف الفضولي، وبناء على هذا يقع العقد موقوفًا حتى يأتي صاحبه السوق ويكون بالخيار، إن أجاز نفذ البيع، وإن لم يجز فالبيع غير نافذ من أصله، ويتفرع على ذلك: ما لو تلف هذا المبيع بين شرائه من خارج البلد وبين وصوله إلى البلد فإن قلنا: إن البيع صحيح فضمانه على من؟ على المشتري؛ لأنه ملكه، وإن قلنا: إن البيع لا يصح، وإنه من باب تصرف الفضولي فالضمان على البائع، ولكن لنا فسحة، وأن نأخذ بظاهر الحديث، ونقول: الأصل أن

ص: 578

ثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، وحينئذ يكون البيع صحيحًا وللبائع المتلقى الخيار إذا وصل السوق، ويمكن أيضًا أن تنزل على القواعد، فيقال: إن النهي هنا لا يعود إلى معنى يتعلق بالمبيع، وإنما يعود إلى معنى يتعلق بالبائع، حيث إنه يخدع فيشترى منه برخص، والشارع جعل الأمر الذي يتعلق بالعاقد يملك فيه العاقد المغبون الخيار مع صحة البيع، بدليل أنه قال:"لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعده فهو بالخيار إن شاء أمسك وإن شاء ردّها وصاعًا من تمر"، إذن الجلب نقول: إنه إذا تلقى واشترى فالشراء صحيح، لكن للجالب الخيار إذا وصل السوق فإن كان مغبونًا رد البيع وإن كان غير مغبون فالخيار له.

من فوائد الحديث: تحريم بيع الحاضر للبادي لقوله: "لا يبع حاضر لباد".

ومن فوائده: أن ظاهر الحديث أنه لا يبيع له مطلقًا، سواء قصد الحاضر البادي أو قصد البادي الحاضر، أي: سواء ذهب صاحب البلد إلى القادم وقال: أبيع لك سلعتك، أو جاء القادم إلى البلد وجاء إلى الرجل وقال: خذ هذه السلعة بعها.

فإن ظاهر الحديث: أن كلتا الصورتين حرام لعموم قوله: "لا يبيع حاضر لباد"، وقال بعض أهل العلم: إنه إذا قصده البادي فلا بأس أن يبيع له ولو على وجه السمسرة؛ وذلك لأن البادي لا يريد أن يبيعها بيع باد بدليل أنه هو الذي جاء إلى الحاضر، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله على أنه إذا قصده البادي فلا بأس أن يبيع له؛ لأن البادي لا يريد أن يبيع بيع البدوي ولكن أراد أن تباع بيع الحاضر.

ثانيا: ظاهر الحديث: أنه لا فرق بين أن يكون البادي عالمًا بالسعر أو جاهلًا به، مع أنه إن كان عالمًا فإن المقصود يفوت؛ لأنه إذا كان عالمًا بالسعر فلن يبيعها إلا كما يبيع الناس، فظاهر الحديث أنه لا يبيع له سواء كان عالمًا بالسعر أو لم يعلم، والمشهور من مذهب الحنابلة أيضًا: أنه إذا كان يعلم بالسعر فلا حرج أن تبيع له؛ لأن المعنى الذي نهى الشارع من أجله عن بيع الحاضر للبادي مفقود في هذه الصورة، أي: فيما إذا كان البادي عالمًا بالسعر؛ لأنك سواء جئت إلى الحاضر أو لم تأت فلن يبيع إلا بالسعر، ويفوت على أهل البلد الربح والفائدة.

ثالثًا: ظاهر الحديث: أنه لا فرق بين أن تكون السلعة مما يحتاجه الناس كالأطعمة والألبسة، أو مما لا يحتاجه الناس كالأشياء الكمالية، فلو أن الجالب جلب طعامًا أو جلب أشياء ترفيهية لا يحتاج الناس إليها فالحكم سواء لكن فقهاء الحنابلة اشترطوا أن يكون بالناس حاجة إليها، فإن لم يكن بالناس حاجة إليها فلا حرج أن يبيع الحاضر للبادي، ولكن ينبغي أن نأخذ بظاهر الحديث إلا بدليل واضح يدل على التخصيص.

ص: 579

بقي مسألة وهي: لو أن الحاضر باع للبادي تبرعًا ونصحًا؛ لأنه علم أن البادي سوف يغبن إما لكونه يعلم أنه رجل ليس بذلك القوي في لبيع والشراء، أو يعلم بأن أهل البلد الذين يشترون من الجلب أناس يخدعون، فأراد أن ينصح لهذا القادم ويبيع له تبرعًا فهل هذا جائز؟ الجواب: على تفسير ابن عباس جائز، وعلى ظاهر الحديث ليس بجائز؛ لأن الحديث مطلق، والذي يبرئ ذمة الإنسان أن يأخذ بظاهر النص؛ لأن الله سيسأله يوم القيامة، ليس عن فهم فلان وفلان سيسأله عما أجاب به المرسلين، سيسأله عن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فالواجب على الإنسان أن يأخذ بظاهر النصوص ما لم يعلم من النصوص الأخرى، أن هذا غير مراد، فإذا علم بأنه غير مراد، فهذا علم بأنه غير مراد فهذا حجته عند الله عز وجل.

في هذا الحديث أيضًا في الجملة الثانية منه هل يصح بيع الحاضر للبادي؟ المشهور من المذهب: أنه لا يصح إذا تمت الشروط بأن قصده الحاضر وكان البادي لا يعلم السعر وبالناس حاجة إليها، فإذا تمت الشروط فإن البيع لا يصح، وهذا هو ظاهر الحديث أن البيع لا يصح، ولكن لو أجاز المشتري ذلك وقال: أنا راضِ فينفي أن يصح؛ لأنه إنما نهى عن بيع الحاضر للبادي من أجل مصلحة المشتري، فإذا رضي بذلك فلا بأس.

775 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقَّوا الجلب، فمن تلقِّي فاشتري منه، فإذا أتى سيِّده السُّوق فهو بالخيار". رواه مسلم.

قوله: "لا تلقوا الجلب" نقول فيها كما قلنا في "لا تلقوا الركبان"، لكن هنا الجلب فعل بمعنى مفعول أي: لا تلقوا المجلوب، "فمن تلقي فاشتري منه"، أي: من هذا المجلوب، "فإذا أتى سيده" أي: سيد المجلوب وهو مالكه الأول "فهو بالخيار" النهي هنا يراد به: النهي عن التلقي والشراء، أما مجرد تلقي الجلب من أجل أن يضيفهم أو يوجب بهم فإن النهي لا يرد على هذا.

وقوله: "فمن تلقي فاشتري منه فإذا أتى سيده" أي: سيد الجلب وهو المالك الأول؛ لأن السيد يطلق على المالك، وله إطلاقات كثيرة متعددة معروفة في اللغة، وقوله:"السُّوق"، يعني: سوق التجارة الذي يباع فيه ويشترى ف"أل" في قوله: "السوق" للعهد الذهني؛ لأن العهود ثلاثة: عهد ذكري، وعهد ذهني، وعهد حضوري، فالعهد الذكري: أن يكون مدخول "أل" سبق ذكره مثل قوله تعالى: } كما أرسلنا إلى فرعون رسولا {[المزمل: 15]. من الرسول المذكور؟ وأما العهد الحضوري فهو أن تكون "أل" بمنزلة اسم الإشارة مثل قوله تعالى: } اليوم أكملت لكم دينكم {[المائدة: 3]. فإن تقديره: هذا اليوم أكملت لكم دينكم، فتسير "أل" إلى شيء حاضر، أما العهد

ص: 580

الذهني فهو أن يكون مدخول "أل" معلومًا بالذهن، يعني: مفهومًا عند الناس، كما لو قلت: ذهب فان وفلان إلى القاضي، من القاضي؟ معروف، ينصرف إلى القاضي في المحكمة، نقول:"أل" هنا للعهد الذهني، هنا "إذا أتى سيده السوق""أل" للعهد الذهني؛ لأنه لم يسبق له ذكر، ولم تكن "أل" بمعنى اسم الإشارة، فكانت للعهد الذهني، يعني: سوق التجارة الذي يباع فيه ويشترى، وقوله:"بالخيار" هذه اسم مصدر ل"اختار"؛ لأن مصدر اختار اختيار، واسم المصدر خيار، واسم المصدر هو: ما وافق المصدر في معناه وحروفه الأصلية دون الزوائد مثل: كلام من كلم، والمصدر تكليم، سلام من سلم والمصدر تسليم، هنا خيار من اختار والمصدر اختيار، إذن فهو بالاختيار أي: ينظر ما هو خير له من إمضاء البيع أو الفسخ.

والحكمة من النهي عن تلقي الجلب هو ما أشرنا إليه فيما سبق أن فيه إضرارًا بالبائع وإضرارًا بأهل السوق، أما البائع فلأن المتلقِّي غلبًا يغبن المتلقِّي ولو لم يغبنه ما ذهب يتكلف ويخرج، والثاني: الإضرار بأهل البلد حيث يحرمهم الربح المتوقع من هذا الجالب.

في الحديث فوائد منها: أولًا: عموم الشريعة الإسلامية، وأنها كما جاءت في إصلاح الخلق في العبادات، وهي معاملتهم فيما بينهم وبين الله جاءت أيضًا بإصلاح الخلق في العقود وهي المعاملة فيما بين الناس، الرد على من زعم أن الدين الإسلامي ينظم العبادة فقط، وهي المعاملة مع الله، فإن الدين الإسلامي ينظم العبادة والمعاملة، ولا غرابة فإن أطول آية في كتاب الله آية الدَّين، وكلها في معاملة الخلق، ويكون هذا حجرًا يقذف في فم من قال: إن الدين الإسلامي لا ينظم إلا العبادة، نقول: الدين الإسلامي ينظم العبادات والمعاملات جميعًا.

ومن فوائد الحديث: حماية حقوق الناس؛ لأننا ذكرنا أن العلة في النهي عن تلقي الجلب هو دفع الضرر الحاصل على البائع وعلى أهل البلد.

ومن فوائد الحديث: أن من تلقى فاشتراه فشراؤه صحيح، لكن للمشتري الخيار.

إذا قال قائل: بم استدللتم على الصحة؟

نقول: بإثبات الخيار للبائع؛ لأن إثبات الخيار فرد عن الصحة.

ومن فوائد الحديث: إثبات خيار الغبن؛ لأن الشرع إنما جعل الخيار للمشتري منه المتلقي لأنه غالبًا يغبن، ووجه ذلك: أن هذا الذي اشترى منه إذا أتى السوق ووجد أن القيمة مناسبة فلا يختار الفسخ، إنما يختار الفسخ إذا وجد نفسه قد غبن، إذن فعلة ثبوت الخيار له هي الغبن، وعلى هذا فيكون في الحديث دليل على ثبوت خيار الغبن، ولكن هل الغبن ثابت في كل عقد يحصل به الغبن أم في صور معينة؟ في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: إنه خاص في صور معينة، وهي ما يحصل بالنَّجش أو بالاسترسال أو بتلقي الجلب، ومن العلماء

ص: 581

من يقول: إنه ثابت في كل غبن حتى لو غبن من يحسن المماكسة ويعرف كيف يبيع ويشري، لكن غبن لغفلة منه أو لجهله بالسعر لكون الأسعار هبطت بسرعة، فإن له الخيار سواء كان بائعًا أو مشتريًا، وعلى هذا فلو أرسلت صبيك ليشتري لك خبزًا ماذا نقول؟ الخبز الأربعة بريال، فقالوا للصبي: الأربعة بريالين وأخذ الأربعة وأنت أعطيته الريالين وتنتظر أن يأتي بثمان، فلك الخيار؛ لأن الصبي لا يحسن أن يماكس وهو جاهل بالقيمة.

مثال آخر: قدم مسافر إلى بلد ووقف على صاحب بقالة وقال: أطلب منك خبزّا بريال فأعطاه خبزتين، وأطلب منك مربى طماطم لأجل أن يكون إدامًا للخبز، فأعطاه القوت هذا بريالين، إذن أعطاه خبزتين بريال وكوب طماطم بريالين هو مسافر وجيد في البيع والشراء لكن لا يعرف السعر في هذا البلد، فالصحيح: أن له الخيار، ويرى بعض العلماء أنه لا خيار له؛ لأنه يعرف يماكس، ويرون أن المسترسل هو الذي يجهل القيمة ولا يحسن المماكسة، والصحيح: أن كل من جهل القيمة فإن له الخيار، فهؤلاء الجلب الذين تلقوا قد يكونوا من أشد الناس معرفة بالقيم ولكن يجهلون القيمة فلهذا غبنوا.

ومن فوائد الحديث: إطلاق لفظ السيد على المالك وهو كذلك؛ لأن أصل السيادة من الشرف، ومعلوم أن للمالك شرفًا على المملوك، ولهذا سمينا مالك العبد سيدًا، ونسمي مالك البهائم ومالك الطعام أيضًا سيدًا، ولذلك قال: "إذا أتى سيده السوق

إلخ".

ومن فوائد الحديث: أن التلقي هو ما كان قبل وصول الجلب إلى السوق ولو من داخل المدينة، وقال بعض أهل العلم: إن التلقي لا يكون إلا من خارج المدينة؛ لأن التلقي عادة يكون خارج المدن، ولهذا يقال: تلقّى المسافر أي: خرج لاستقباله.

وهذه المسألة فيها خلاف، فمن العلماء من يقول: إن التلقي يصدق باستقبال الجلب قبل دخولهم السوق ولو في المدينة، واستدلوا لذلك بقوله:"فإذا أتى سيده السوق"، ولم يقل: فإذا دخل البلد، فعليه لو كانت البلدة واحدة والسوق في وسطها في قصبة البلد، واستقبلهم أناس في أطراف البلد واشترى منهم، فإنه يكون داخلًا في الحديث؛ أي: فاعلًا للنهى وللجالب الخيار وهذا أقرب إلى المعنى؛ لأنه لا فرق بين أن يتلقاهم في المدينة وأن يتلقاهم في داخلها قبل أن يصلوا إلى السوق.

فإن قال قائل: فما تقولون في جلب مرُّوا بالمدينة ولا يريدون دخولها فاشترى منهم شخص وهم سائرون إلى مدينة أخرى، هل يجوز؟ يعني: مثلًا جاءوا من جدّة ومروا ببلدنا ويريدون الرياض ومعهم سلع؟ الظاهر: أنه يجوز، لأنهم لم يقصدوا هذا البلد هم في سفر كما

ص: 582