الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي:
744 -
وعن ابن الزُّبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، صلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجد هذا بمائة صلاة". رواه أحمد، وصحَّحه ابن حبَّان.
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل" هذا قد يشكل من الناحية العربية؛ حيث ابتدأ بالنكرة، فما الجواب؟ الجواب: أنها أفادت بالوصف "في مسجدي هذا" وقد قال ابن مالك:
ولا يجوز الابتدا بالنَّكرة
…
ما لم تفد - ثم جعل مثلا لهذا فقال: -كعند زيد نمره
وهل فتًى فيكم فما خلٌّ لنا
…
ورجل من الكرام عندنا
الحديث يطابق المثل الذي ذكره ابن مالك في قوله: "ورجل من الكرام عندنا".
وقوله: "أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"، المسجد الحرام أفضل بمائة صلاة في المسجد النبوي، فيكون أفضل من مائة ألف صلاة فيما عداه إلى المسجد النبوي فهو أفضل منه بمائة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم حاثًّا مرغبًا على الصلاة في هذين المسجدين؛ لأن ذكر الفضل في العمل يتضمن الحث عليه والترغيب فيه، ولولا أنه يتضمن ذلك لكان من باب اللغو والعبث؛ يعني: فإذا أثنى الشارع على فاعل أو فعل، فهذا يدل على الحث عليه؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان عبثًا لا فائدة منه.
وقوله: "صلاة في مسجدي هذا" أشار إليه؛ لأنه مشاهد محسوس، قال:"مسجدي هذا"، والإشارة -كما عرف -تعيين الشيء بواسطة الإشارة بالإصبع فهي إشارة حسية في الأصل لكن قد تكون إشارة معنوية كقول المؤلف:"هذا كتاب فيه كذا وكذا".
وقوله: "في مسجدي هذا" يعني" مسجد المدينة، وأضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفسه؛ لأنه هو الذي بناه وابتدأه، فإنه صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة فأول شيء بدأ به اختيار مكان المسجد وبنائه.
وقوله: "أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" أي: من المساجد، بدليل قوله: "إلا المسجد
الحرام"، والأصل في المستثنى أن يكون من جنس المستثنى منه، فهو أفضل من ألف صلاة فيما عداه من المساجد إلا المسجد الحرام.
وقوله: "إلا المسجد الحرام"، "المسجد الحرام" يعني: الذي له الحرمة والتعظيم وهو مسجد مكة خاصة لقوله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للنَّاس} [المائدة: 97]. ولقوله: {وصدُّوكم عن المسجد الحرام} [الفتح: 25]. والنصوص في هذا كثيرة.
وقوله: "صلاة في المسجد الحرام أفض من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة" يدل على أن المسجد الحرام أفضل من المسجد النبوي بمائة صلاة فيكون أفضل من غيره بمائة ألف يعني: لو صليت جمعة واحدة في المسجد الحرام صارت أفضل من مائة ألف جمعة فيما عداه، كما مائة ألف جمعة من السَّنة؟ السنة فيها حوالي خمس وخمسين جمعة فيكون حوالي ألفين سنة، على كل حال: فضل عظيم في الصلاة في هذا المسجد.
نعود إلى الحديث: "صلاة في مسجدي هذا" الإشارة تدل على تعيُّن المشار إليه، فهل المراد المسجد الذي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وما زيد فيه فلا يدخل فيه، أم نقول: إن المراد المسجد وما زيد فيه؟ في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: المراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو مسجده، وأما ما زيد فيه فلا يدخل في هذا التفضيل، وحجتهم في ذلك الإشارة؛ لأن الإشارة تعين المشار إليه: "مسجدي هذا
…
"، وإلا لأطلق، وقال: "في مسجدي" وسكت، فلما قال: "هذا" علم أنه لا يتناول ما زيد فيه، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم وقالوا: إن الزيادة لا شك أن لها فضل لكنها لا يحصل فيها هذا الفضل، وقال بعض أهل العلم: بل إن ما زيد فيه فله حكمه، واستدلوا بحديثين ضعيفين جاء فيهما أن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لو بلغ صنعاء فهو مسجده، وهذا الحديث ضعيف، لكن يعضد فعل الصحابة وإجماعهم رضي الله عنهم، فإن الصحابة أجمعوا على الزيادة التي زادها عمر، وأجمعوا أيضًا على الصلاة في الزيادة التي زادها عثمان رضي الله عنه، ومعلوم أن الزيادة العثمانية قبلي المسجد، وأن الصحابة كانوا يصلون في قبلي المسجد في الصف الأول ولم يذكر أنهم كانوا يتأخرون حتى يكونوا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا شبه إجماع من الصحابة على أن ما زيد فيه فله حكمه، وهذا هو الصواب بلا شك، وقد صرّح به شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن ما زيد في المسجد فهو منه.
مسألة مهمة:
هل المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم، أو المراد به مسجد الكعبة خاصة؟ في هذا أيضًا نزاع بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: المراد به كل الحرم، فإذا صليت في أي مكان من الحرم ولو كان في خارج حدود مكة فصلاتك أفضل من مائة ألف صلاة إلا المسجد النبوي، واحتج هؤلاء بقوله تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1]. وقرروا هذه الحجة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسرى به من بيت أم هانئ رضي الله عنها، ومعلوم أن بيت أم هانئ خارج مسجد الكعبة، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى:{يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرّام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} [البقرة: 217]. فقالوا: {وإخراج أهله منه} ، ومعلوم أن هؤلاء إنما أخرجوا من بيوتهم وديارهم وليسوا من المسجد نفسه؛ لأنهم ليسوا ساكنو المسجد بل هم في بيوتهم، وهنا قال:{وإخراج أهله منه أكبر عن الله} ، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى:{هم الذين كفروا وصدُّوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفًا أن يبلغ محلَّه} {الفتح: 25]. وهم إنما صدوهم عن مكة وعن المسجد الحرام ولا شك، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا إنَّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. قال: لا يقربوا المسجد الحرام، وهم ممنوعون من دخول مكة، فدل هذا على أن المراد بالمسجد الحرام كل الحرم، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى:{إن الذَّين كفروا ويصدُّون عن سبيل الله والمسجد الحرام الَّذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} [الحج: 25]. هو: المديم المكث؛ لأن الاعتكاف طول المكث، والناس إنما يمكثون في بيوتهم، فقالوا: إن هذه الآيات تدل على أن المراد بالمسجد الحرام: جميع مكة، أما من السنة فقد قالوا: إنه قد روى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية كان مقيمًا في الحلّ، وكان إذا حانت الصلاة دخل فصلى في الحرم، وهذا يدل على أن الصلاة في الحرم كله يشملها التضعيف في الأجر، وربما يستدلون بالمعنى والنظر فيقولون: لو خصصناه بالمسجد الحرام الذي هو مسجد الكعبة لضيقنا على الناس؛ لأن كل واحد في مكة لا يرغب أبدًا في أن يدع مائة ألف صلاة وبينه وبينها هذه المسافة القريبة، بل لابد أن يذهب ويصلي، وحينئذ يحصل الضيق والمشقة على الناس، قالوا: ويدل لهذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام في الأبطح أربعة أيام قبل الخروج إلى منى ولم يكن ينزل إلى المسجد الحرام ليصلي فيه مع قرب المسافة وسهولتها، كل هذه الأدلة استدلوا بها على أن المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم.
وقال آخرون -وهو ظاهر كلام الحنابلة رحمهم الله: إن المراد بالمسجد الحرام مسجد الكعبة فقط، وقالوا: عندنا دليل لا يمكنكم معه الكلام إطلاقًا وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال - فيما رواه مسلم - من حديث ميمونة رضي الله عنها: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة"، هذا لفظ الحديث في مسلم، فقال:"إلا مسجد الكعبة"، وهذا صريح في أن المراد بالمسجد الحرام في مثل هذا الحديث مسجد الكعبة الذي فيه الكعبة، وبأن حديث أبي هريرة: "لا تشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام
…
"، وهناك رواية في مسلم أيضًا: "لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، فصرّح بأن المراد بالمسجد الحرام مسجد الكعبة، وهذا لو قال قائل: الحديث واحد، نقول: إن كان هذا اللفظ -"المسجد الحرام هو مسجد الكعبة" - من النبي صلى الله عليه وسلم فقد فسّر بقوله: وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل اللفظين فقد فسّره الصحابي وهو أعلم بمدلول كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن من تفسير الصحابي فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحد اللفظين، وما دام لا مرجح بينهما فيكون كل واحد منهما مقابلًا للآخر، ويكونان سواء.
على كل حال: هذا الحديث - ولاسيما حديث ميمونة؛ لأن نص في الموضوع - يعتبر فيصلًا في النزاع وهو: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة"، وعندي أن هذا يكفي عن كل شيء، لكن مع ذلك لابد من الإجابة من أدلة القائلين بأن يعم جميع الحرم، يقولون أيضًا: عندنا دليل آخر: "لا تشد الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام
…
"، فهل تقولون: إنه يجوز للإنسان أن يشد الرحل إلى مسجد الشَّعب والجدرية وأدنى مسجد في مكة؟ الجواب: ما أظنهم يقولون بذلك، اللهم إلا إن كان التزامنا عند المضايقة؛ لأنه عند المناظرة قد يلتزم الإنسان بما لا يعتقده، لكن كما يقال: فك المشكلة.
فنحن نقول: إذا كنتم لا تجيزون أن تشدّ الرِّحال إلى مسجد من مساجد مكة سوى مسجد الكعبة فما الفرق بين قوله: "لا تشدّ الرِّحال إلا ثلاثة مساجد: المسجد الحرام"، وبين قوله:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"؟ لا فرق، ثم إن المعنى يقتضيه وهو أنه إنما جاز شدّ الرِّحال إلى هذه المساجد، لماذا؟ لتميزها في الفضل، فإذا قلتم: إن الذي تشدّ إليه الرَّحل هو مسجد الكعبة؛ فقولوا: إن الذي فيه الفضل هو مسجد الكعبة وإلا لصار ذلك تناقضًا.
أما الجواب عن الأدلة التي استدل بها هؤلاء: فأما قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .... } [الإسراء: 1]. فالثابت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسري به من حطيم الكعبة: "بينما أنا نائم في الحطيم"، أو قال "مضطجع أتاني آت"، وحينئذ يكون الإسراء به من المسجد الحرام الذي هو مسجد الكعبة لا غير، ورواية بيت أم هانئ إن صحت فقد جمع بينها وبين هذا الحديث واضطجع فيه أو نام ثم أسري به من هناك.
وأما قوله: {يا أيها الذين آمنوا إنَّما المشركون نجس .... } فهذا أحرى أن يكون دليلًا عليهم لا دليلًا لهم؛ لأن الله عز وجل لم يقل: فلا يدخلوا المسجد الحرام، بل قال:{فلا يقربوا} ، ولا يمكن أن يقرب الناس حول حدود الحرام أو أن يقرب المشركون حول حدود الحرم، ومن المعلوم أنكم لا تقولون بذلك، تقولون: إن المشرك ممكن أن يدنو من حدود الحرم إلى مسافة شبر أو أصبع، بينما لو أخذنا بالآية وقلنا: إن المسجد الحرام هو كل الحرم لكان يجب أن يبتعدوا عن حدود الحرم بعدًا ينتفي فيه القرب، وأنتم لا تقولون به؛ إذن {فلا يقربوا المسجد الحرام}: لا يدخلوا حدود الحرم؛ لأنهم إذا دخلوا حدود الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام فامنعوهم.
وأما قوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدُّكم
…
} النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء في الحديبية هل جاء يزور مكة وأقاربه فيها وبيوته ثم يرجع، أو جاء ليصل إلى البيت الحرام؟ هذا هو المقصود، ولو قدر أن الإنسان صدّ عن كل مكة ولكن نزل في المسجد الحرام ما همُّه المقصود الذي عنه الصّد هو المسجد الحرام مسجد الكعبة، وحينئذ لا دليل في الآية.
وأما قوله تعالى: {وكفر به والمسجد الحرام
…
} فهذه هي أقوى دليل، لو كانت دليلًا لكانت هي أقوى دليلًا لمن قال: إن المسجد الحرام كل الحرم؛ لأن أهل الحرم أهل لكل حرم، ولكن نقول: أهل الحرم إنما يفتخرون بانتسابهم إلى المسجد الحرام هم أهل المسجد كما قال الله تعالى تبارك وتعالى في سورة الأنفال: {وما لهم ألَّا يعذّبهم الله وهم يصدُّون عن المسجد الحرام وما كانوا أوليآءه} [الأنفال: 34]. فهنا نقول: هم أهم المسجد الحرام؛ لأنهم إنما يشرفون به، وكل ما قرب من المسجد إنما هو شرف بالمسجد؛ فهذا هو المقصود، فلهذا سمي هؤلاء أهل له، ثم نقول: أهل المسجد الحرام الذي يعمرونه بطاعة الله وهم إنما يعمرونه بطاعة الله، مسجد الكعبة هو محل الصلاة والطواف وغير ذلك.
كذلك قوله: {إن الذَّين كفروا ويصدُّون عن سبيل الله
…
} [الحج: 25]. نقول: إنهم يصدون الناس عن العمرة والحج وهذا لا يصح إلا بالوصول إلى المسجد الحرام، فتبين بهذا أن المراد
بالمسجد الحرام هو مسجد الكعبة؛ لأن هذا هو الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يقطع كل نزاع، لكن الإجابة عما احتجوا به لإزالة الشبهة.
بقى أن يقال: لو فرض أن المسجد الحرام زاد هل يدخل في الفضيلة أو لا؟ نقول: نعم يدخل أولًا؛ لأنه ليس كالمسجد النبوي فيه التعيين بالإشارة، بل قال:"المسجد الحرام"، فكل ما كان مسجدًا حول الكعبة فهو داخل في الحديث.
لو قال قائل: لو صلى حول المسجد في السوق هل ينال هذا الأجر؟
نقول: فيه تفصيل إن كان المسجد ممتلئًا والصفوف متصلة فهو القوم لا يشقى بهم جليس فينال أجر هؤلاء، أما إذا كان المكان واسعًا في المسجد وصلى هذا في سوقه فلا ينال هذا الأجر.
ثم نرجع الآن إلى هذا التفضيل: هل يشمل الفرائض والنوافل، أو هو خاص بالفرائض؟ قال بعض أهل العلم: إنه خاص بالفرائض، وأن صلاة الفريضة في المساجد الثلاثة مفضلة على غيرها بل في المسجدين؛ لأن الثالث ما ذكر في الحديث، وأما النافلة فلا، والصحيح: أنه شامل الفريضة والنافلة، وأن صلاة الفريضة في المساجد المفضلة وصلاة النافلة سواء المفاضلة، ولو صلى الإنسان تراويح في المسجد الحرام لكان خيرًا من مائة ألف صلاة تراويح فيما عداه من المساجد، وتحية المسجد في المسجد الحرام خير من مائة ألف تحية في غيره وعلى هذا فقس.
مسألة مهمة:
هل نقول: إن هذا يقتضي أن فعل النافلة في مكة في المسجد أفضل من فعلها في بيتك، أو فعل النافلة وأنت في المدينة في المسجد خير من فعلها في بيتك؟
الجواب: لا النافلة في البيت في مكة أو في المدينة أفضل منها في المسجد؛ لأن الذي فضل مسجده على غيره من المساجد هو الذي قال: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، وعلى هذا فإذا أردت أن تصلي الوتر وأنت في مكة فهل الأفضل أن تذهب إلى المسجد الحرام وتصلي فيه، أو الأفضل أن تصلي الوتر في بيتك؟ الثاني هو الأفضل، وكذلك لو كنت في المدينة هل تصلي الوتر في بيتك أو في المسجد النبوي؟ الجواب: في بيتك للحديث المذكور ولفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفل في بيته مع أنه قال للناس:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام"؛ إذن ما هو الجواب الذي يكون منضبطًا؟
نقول: ما فعل في المسجد النبوي أو في المسجد الحرام فهو أفضل من غيره من المساجد بالتفصيل الذي ورد.
ولكن إذا سئلنا: هل الأفضل أن نفعل النوافل في المسجد أو في البيت؟
نقول: ما شرع في المسجد فالأفضل في المسجد كصلاة الكسوف على قول من يرى أنها سُّنة وكصلاة تحية المسجد والصلاة في قيام رمضان والاستسقاء إن فعل في المسجد، أما إذا كان تطوعًا مطلقًا لا يسن فعله في المسجد ففي البيت أفضل ولو كان في المساجد الثلاثة.
من فوائد الحديث، وهي عديدة منها: الترغيب في الصلاة في هذا المسجد بل المسجدين؛ لأنه لم يذكر المسجد الثالث وهو الأقصى، مسجد مكة ومسجد المدينة، ولكن هل يقال: إن هذا أفضل من الصلاة في البيت، أو يقال: ما يشرع أن يكون في البيت فكونه في البيت أفضل؟ الجواب: الثاني، وأظننا ذكرناه، وقلنا: إن الذي قال: "إن الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه"، هو الذي قال:"خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، وكان هو يصلي النوافل في بيته، ومن ثم حمل بعض العلماء هذا الحديث على أن المراد بالصلاة هنا صلاة الفريضة؛ أي: الصلوات الخمس، ولكن ينبغي أن يقال: لا، كل ما فعل في هذه المساجد من صلاة فهو أفضل مما سواه في المساجد الأخرى، ويبقى النظر هل أفضل في البيت أو في المسجد؟ هذا له أدلة أخرى مثل تحية المسجد في المسجد الحرام خير من مائة ألف تحية فيما سواه، كذلك أيضًا لو أن أحدًا تقدم إلى المسجد وصلى وصار يتنفل حتى أقيمت الصلاة فهذا النفل الذي كان يفعله بانتظار الصلاة خير من مائة ألف صلاة فيما عداه وفي المسجد النبوي خير من ألف صلاة.
ومن فوائد الحديث: أن الأعمال تتفاضل باعتبار المكان، والدلالة فيه واضحة:"خير من ألف صلاة"، وهل يتناول هذا جميع الأعمال، أو هو خاص بالصلاة فقط؟ يرى بعض العلماء أنه خاص في الصلاة فقط وأن ما عاداها من الأعمال كالصدقة والصيام وطلب العلم وما أشبه ذلك فلا يفضل هذا الفضل وإن كان في الحرم، لكن لا يصل إلى هذا الفضل وهذا هو الصحيح إن لم يوجد أدلة صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المفاضلة في بقية الأعمال، ووجه ذلك: أن التفاضل أو إثبات الفضل في العمل أمر توقيفي لا يتعدى فيه الشرع فنقول: الثواب ورد في هذا الفضل وما عداه يتوقف على ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج ابن ماجه بسند فيه نظر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من صام رمضان في مكة كان بمائة ألف شهر"، فإن صحّ هذا الحديث ألحقنا به الصيام، وإلا فلا نلحق به شيئًا، والدليل على عدم الإلحاق أولًا: إن إثبات الفضائل للأعمال
توقيفي، ثانيًا: أن الصلاة شأنًا ليس لغيرها من بقية الأعمال فهو آكد وأفرض أعمال البدن، حتى إن القول الراجح أن تاركها يكون كافرًا، وإذا كانت بهذه الميزة فلا يمكن أن يلحق بها ما دونها إلا بنص.
ومن فوائد الحديث: إثبات التفاضل في الأعمال، وقد سبق لنا أن الأعمال تتفاضل بحسب المكان والزمان والعامل وجنس العمل ونوع العمل وكيفيته، كل هذه وجوه للفضائل، في الأعمال، المكان هو كما رأيتم، الزمان، {ليلة القدر خير من ألف شهر} ، "ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إلى الله فيهن من هذه الأيام العشر"؛ يعني: عشر ذي الحجة، في العامل:"لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه"، في العمل في كيفيته:{ليبلوكم أيُّكم أحسن عملًا} [لملك: 2]. في جنسه: "ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبُّ إليَّ مما افترضته عليه"، في نوعه: الصلاة أفضل من الزكاة، والزكاة أفضل من الصيام، والصيام أفضل من الحج.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا ثبت وقد ثبت تفاضل الأعمال لزم من ذلك تفاضل العامل، ثم يلزم منه أيضًا شيء آخر، تفاضل الناس في الإيمان، فيكون في الحديث دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا هو مذهب أهل السُّنة والجماعة، لكن بماذا تكون الزيادة؟ نقول: بكل ما ذكرنا من أنواع المفاضلة يزيد، فيزيد بالفرائض أكثر مما يزيد في النوافل، ومن العجب أن الشيطان يضحك علينا يجعلنا نعتقد أن النافلة أفضل من الفريضة؛ ولهذا تجد كثيرًا من الناس يحسنون النوافل تمامًا والفرائض يتساهلون فيها، وهذا من الغرائب، وهذا من البلاء الذي يصاب به الإنسان، فالواجب أن يعلم الإنسان ويعتقد أن صلاته الفريضة أفضل من النافلة، وأنه يجب أن يعتني بالفريضة أكثر مما يعتني بالنافلة، ولولا محبة الله لها ولولا أهميتها عنده عز وجل ما أوجبها على عباده، فإيجابها على العباد يدل على أنها أحب إلى الله، وأنها أولى بالعناية من النافلة.
إذ قال قائل: أيهما أفضل: المجاورة في مكة، أو المجاورة في المدينة؟
اختلف في هذا أهل العلم؛ فمنهم من قال: إن المجاورة في مكة أفضل؛ لأن مكة أفضل من المدينة بلا شك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو بالحذورة في مكة -: "إنك أحبُّ البقاع إلى الله،