الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يقول قائل: هل النهي للكراهة أو للتحريم؟
نقول: إن كون الناس يضربون على ذلك يدل على التحريم وأنه لا يجوز.
بقى علينا أن نقول: القبض كيف يكون؟ نقول: من الأشياء ما لا يمكن نقله فهذا قبضه بتخلي البائع عنه، لو باع عليه أرضًا هل نقول: لا تبع الأرض حتى تحوزها إلى رحلك؟ هذا لا يمكن، إذن كيف يقبضها بالتخلي عنها؟ نقول: هذه أرضك خذها، إذا باعه دارًا يقبضها المشتري بالتخلية وتسليم المفتاح، إذا باع شيئًا منقولًا فقبضه بنقله، فإن احتيج إلى عدٍّ أو ذرع أو كيل أو وزن فليضف إلى القبض، فلو باع عليك مثلًا هذا الكيس من البرّ كل صاع بدرهم وحملت الكيس إلى بيتك لا يكفي هذا بل لا بد من كيله، لقوله في هذا الحديث:"حتى يكتاله"، إذن ما يحتاج إلى توفية بعد أو ذرع أو كيل أو وزن فإنه يضاف إلى قبضه، اشتراط التوفية يعني: الاستيفاء، ولهذا في بعض الألفاظ في حديث ابن عباس:"حتى يستوفيه"؛ لأنه إذا استوفاه انقطعت علق البائع الأول عنه نهائيًّا ولم يبق له فيه أي تعلق.
من فوائد الحديث: تحريم بيع الطعام إذا بيع بكيل حتى يكتال.
ومن الفوائد: أن غير الطعام مثله بالقياس.
ومن فوائد الحديث: أن الشارع له نظر في إبعاد الناس عن كل معاملة يمكن أن يحصل فيها نزاع؛ ولهذا نهى عن بيع هذا الشيء حتى تنقطع علق البائع الأول عنه نهائيًّا لئلا يحصل النزاع.
ومن فوائده: أن الإنسان لا يتصرف في الشيء حتى تكون قبضته عليه على وجه تام؛ يعني: حتى يكون في قبضته لئلا تخلف المسألة فيقع في حرج، ولهذه الفائدة مسألة في الحديث الذي بعده حديث عمرو بن شعيب رضي الله عنه.
النهى عن بيعتين في بيعة:
766 -
وعنه رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعةٍ". رواه أحمد، والنَّسائيُّ، وصحَّحه التِّرمذيُّ، وابن حبَّان.
- ولأبي داود: "من باع بيعتين في بيعةٍ فله أوكسهما أو الرِّبا".
الحديث الأول معناه: أنه لا يجوز لإنسان أن يبيع بيعتين في بيعة؛ أي: في صفقة واحدة، ولننظر هل هذا ظاهر المراد، لو قلت: بعتك هذا الشيء على أن تشتري مني الشيء الآخر، هذا
يكون بيعتين في بيعة هذه صورة، أريد أن أشتري منك سكرًا مثلًا فقال: بعتك هذا السكر بشرط أن تشتري مني الرز فأقول: قبلت، هذا بيعتان في بيعة، ثانيًا: قال: بع عليّ بيتك، فقال: لا أبيعه حتى تبيع عليّ بيتك، هذا أيضًا بيعتان في بيعة، لكن الفرق بينها وبين الأولى أن البيع في الأولى من رجل واحد والبيع في الثانية: بعتك هذا على أن تبيع هذا، هذا بيعتان في بيعة، فهل هذا هو المراد؟ نقول: رواية أبي داود تدل على أنه غير مراد؛ لأنه قال: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الرِّبا"، والصورتان اللتان ذكرناهما ليس فيهما ربا ولا فيهما أوكس ولا أكثر، فيهما أني أبيعك بيتي على أن تبيعني بيتك، أو أبيع عليك هذا الشيء على أن تشتري مني الشيء الآخر، وليس فيه وكس ولا زيادة.
وعلى هذا فنقول: إن مقتضى رواية أبي داود ألا تدخل الصورتان المذكورتان في نهيه عن بيعتين في بيعة ويؤيد ذلك أن الصورتين المذكورتين ليس فيهما محظور شرعي؛ إذ لا مانع لو أنني قلت: بعت عليك هذا السكر وهذا الشاي بألف ريال، هذا جائز بالاتفاق، فلا فرق بين أن أقول: لا أبيعك هذا السكر حتى تشتري هذا الشاي، فإذا جمعت بينهما بشرط فإن الأمر لا يتغير عما إذا جمعت بينهما بغير شرط، وحينئذٍ يكون لا محظور في المسألة.
كذلك أيضًا إذا قلت: لا أبيعك بيتي حتى تبيعني بيتك، ما المحظور؟ إن رضيت بهذا الشرط فاقبل البيع إذا لم ترض فاترك، وأنا قد يكون لي نظر في هذا، قد لا أريد عليك بيتي فأبقى بلا بيت حتى تبيع علي بيتك، والبيتان لا يجري فيهما الربا حتى نقول: ربما يتخذ وسيلة إلى الربا، فما دامت المسألة ليست فيها محظور شرعي وأن جمعهما لا بأس به بدون شرط وجمعهما بالشرط لا بأس به:"المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالًا"، وهذا الشرط لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، أرأيت لو قلت: بعتك بيتي بيتك واتفقنا على هذا فيجوز بالاتفاق، فالمسألة هذه بعتك بيتي على أن تبيعني بيتك ليس بينهما فرق ولا بين تلك، إلا أننا قدرنا الثمن في الأخير دون الأول، فيجب على هذا أن يحمل على رواية أبي داود:"من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"، وحينئذٍ نقول ما معنى "أوكسهما"؟ أي: أنقصهما أو الربا إن لم يكن له أنقصهما؛ يعني: إن كان له الأكثر وقع في الربا وإن كان له الأقل لم يقع في الربا، ما صورة ذلك؟ لهذا صورتان:
الصورة الأولى: أن يقول: بعتك هذا الشيء بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة، فهنا إن أخذ بالعشرة نقدًا لم يقع في الربا، وإن أخذ بعشرين نسيئة وقع في الربا، هذه صورة.
فإذا قال قائل: أين البيعتان؟
قلنا: واحدة بعشرة وواحدة بعشرين، المبيع واحد، والبيعتان هما الثمنان إما عشرة نقدًا وإما عشرون نسيئة.
الصورة الثانية: أن المراد بذلك: مسألة العينة وهي أن يبيع الإنسان شيئًا بثمن مؤجل ثم يشتريه بأقل منه نقدًا، قالوا: فهاتان صفقتان في صفقة؛ أي: في مبيع واحد، وتحمل البيعة هنا على المبيع، يعني: باع بيعتين في بيعة، فهذا هو الذي له أوكسهما، والصورة أن يبيع شيئًا بثمن مؤجل ثم يشتريه بأقل منه نقدًا، فهنا بيعتان البيعة الأولى بثمن مؤجل، والبيعة الثانية بثمن حاضر نقول للذي باع البعير: أنت الآن لك أوكسهما أو الربا، كيف ذلك؟
يعني: إما أن تقتصر على الثمن الأقل وإلا وقعت في الربا، الثمن الأقل ثمانون والأكثر مائة، إذا أخذها بثمانين فلا ربا؛ لأنه باع بمائة واشتراها بثمانين، المشتري لم يأخذ إلا الثمانين فلم يأخذ ربًا، فإن أخذ بالأكثر أخذ بالربا، من الذي يأخذ بالأكثر؟ البائع الأول باعها بمائة فقد أخذ بالربا، وإن اقتصر على الثمانين لم يأخذ بالربا، إذا اقتصر على الثمانين هل يلحق المشتري شيء؟ لا؛ لأنه اشتراها بثمانين وقد باعها بثمانين وانتهى كل شيء.
الصورة مرة ثانية: بعت عليك هذه الناقة بمائة إلى سنة، الثمن الآن مؤجل ومقداره مائة إلى سنة، ثم رجعت إليك واشتريتها منك بثمانين نقدًا، البعير ردت لي الآن وثبت لك في ذمتي مائة، إذن كأنني أعطيته ثمانين بمائة، وهذا ربا، فإن قلت له: أنا الآن أشتريها بثمانين ولا أريد منك الزائد فقد أخذت بأوكسهما، البيعة الأولى بمائة وهذه البيعة بثمانين أخذت بأوكسهما وسلمت من الربا، فإذن يكون المراد بالبيعتين في بيعة: مسألة العينة.
إذن للحديث معنيان: المعنى الأول: أن يبيع عليه الشيء بثمانين نقدًا أو بمائة نسيئة مؤجل هذا بيعتان في بيعة وهذا لا يجوز، الصورة الثانية: مسألة العينة أن يبيعه شيئًا بمائة مؤجل ثم يشتريه بثمانين نقدًا، ثمانين يسلمها للمشتري الذي اشترى منه أولًا، البائع الأول يسلم للمشتري الأول ثمانين وباقي في ذمته مائة، زيد باع على عمرو هذه الناقة بمائة إلى سنة، كم يثبت في ذمة عمرو لزيد؟ مائة، ثم رجع زيد فاشتراها بثمانين نقدًا وسلّمه الثمانين، كم في ذمة عمرو لزيد؟ مائة كأن هذا -أعني: زيدًا- أعطى عمرًا ثمانين بمائة إلى سنة. الحديث يقول: "له أوكسهما أو الربا"، ما أوكسهما؟ ثمانون أو الربا، نقول: أنت الآن يا زيد إن أخذت من عمرو مائة وقعت في الربا؛ لأنك أخذت أكثر مما أعطيت؛ لأنك أعطيت ثمانين، وإن أخذت ثمانين فقط عند تمام السنة خرجت من الربا، فإذا تمت السنة قلنا: يا زيد تعال، إن أخذت المائة وقعت في الربا وإن أخذت بالثمانين خرجت من الربا، فلك أوكسهما بدون ربا، أو الربا إن أخذت الأكثر، عندنا الآن تفصيل للفظ الأول نهى عن بيعتين في بيعة، وبيّنا أن التفسير الذي فسر به ظاهر اللفظ غير مراد، وهو أن أقول: لا أبيع عليك هذا الشيء حتى تشتري هذا الشيء أو لا أبيع عليك هذا الشيء حتى تبيعني هذا الشيء، ها صورتان، وقلنا: إن هذين غير مرادين،
فالمسألة الثانية قلنا: فسر الحديث بتفسيرين: إما أن المعنى أبيعك إياه بثمانين نقدًا أو بمائة نسيئة إلى سنة تفسير آخر يقولون: مسألة العينة وهي: أن يبيع شيئًا بثمن مؤجل ثم يشتريه بأقل منه نقدًا بعت على زيد بعيرًا بمائة إلى سنة ثم اشتريتها بثمانين نقدًا؛ أيُّ التفسيرين أولى بالمطابقة بالحديث؟ الثاني؛ لأن بيعتين في بيعة بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم: "فله أوكسهما أو الربا" وعلى هذا فيكون المراد بالبيعتين: مسألة العينة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فنقول للبائع: الآن إذا تمت السنة إما ألا تأخذ إلا ثمانين الذي أعطيته فتكون قد سلمت من الربا أما إذا أخذت المائة ثمن البيع الأول فإنك تقع في الربا؛ لأن حقيقة الأمر أنك أعطيته ثمانين بمائة وأدخلت بينهما بعيرًا، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة؛ يعني: ثوب، نقول: هنا في مثالنا دراهم بدراهم دخل بينهما بعير، الصورة الأولى في التفسير الثاني، وهي: بعتك هذا بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة ما وجه إدخالها في الحديث؟ قالوا: لأن هذا ربا لأنك زدت الثمن في مقابل الأجل هذا واحد، ولأن هذا جهالة لأن الثمن لم يستقر، أنت تقول: بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة، إذن المشتري هل يلتزم بعشرة أو يلتزم بعشرين، والبائع لا يدري هل الذي حصل له عشرة أو عشرون، إذن فالمسألة فيها جهالة وفيها ربا، إذن فتكون داخلة في الحديث، ولكن عند التأمل يتبين أن الحديث لا يراد به ذلك أولًا: استنادًا إلى لفظ أبي داود، وثانيًا: أن قول البائع: بعتك هذا بثمانين نقدًا أو بمائة نسيئة ليس فيه ربا وليس فيه غرر، ليس فيه ربا لأنني لم أبدل دراهم ثمانين بمائة وإنما الزيادة في ثمن السلعة، فكما أني لو قلت: السلعة هذه تساوي ثمانين لكن لا أبيع عليك إلا بمائة زدت كم؟ عشرين وهذا ليس بربا، فأنا إذا أجلت هذه المائة عليك أفدتك خيرًا، إذا كان يجوز أن أبيع ما يساوي ثمانين بمائة نقدًا فلماذا لا يجوز أن أبيع ما يساوي ثمانين بمائة نسيئة من باب أولى؟ ثانيًا: قولهم: إن هذه جهالة، نقول: ليس بجهالة؛ لأن المشتري لا يمكن أن يفارق المكان حتى يقطع الثمن: وما هو الثمن؟ ثمانين أو مائة، صحيح الذي يذهب وهو غير قاطع للثمن فهو جهالة، ولكن لا نأخذها من هذا الحديث بل من أحاديث أخرى وهي جهالة الثمن، أما إذا قال: خذ هذه أنا أبيع عليك بثمانين نقدًا أو بمائة إلى سنة صار معلومًا ما تفرقنا حتى قطعنا الثمن وعرف المشتري أن عليه مائة سنة والبائع أن له مائة ولا إشكال.
فتبين الآن أن أصح ما يفسر به الحديث مسألة العينة؛ لأنا فسرنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أحسن من تفسير الحديث بالحديث، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا أمكن أن يفسر كلام المتكلم بكلامه فهو أولى من أن يفسر بكلام غيره؛ لأنه أعلم بمراده، والمسألة لا