الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتهاونًا يكون كافرًا مرتدًّا وعلى هذا فيلحق بتارك الصلاة، ولكن جمهور أهل العلم على أنه لا يكفر بذلك، ولكنه قد ارتكب إثمًا عظيمًا أشد من الكبائر، ودليل هؤلاء حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عقوبة من لم يؤد الزكاة، ثم قال:"فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"، ومعلوم أن من يمكن أن يكون له سبيل إلى الجنة فإنه لا يكون كافرًا؛ لأن الكافر لا يمكن أن يكون له سبيل إلى الجنة
مسألة: هل تُؤخذ الزكاة قهرًا
؟
بحث ثانٍ: هل إذا تركها تهاونًا تؤخذ منه قهرًا أو لا؟ الجواب: تؤخذ قهرًا، وفي هذه الحال هل تبرأ بها ذمته أو لا تبرأ؟ إن أداها لله برئت ذمته، وإن كان مكرهًا- وإن أداها لدفع الإكراه فقط وقال: هذه جزية- فإنها عند الله لا تبرأ ذمته ولا يُعد مخرجًا لها عند الله؛ لأنه ما أخرجها لله ولا امتثالًا لأمره.
وهل مع إجباره وقهره على الزكاة هل يعاقب بذلك؟ اختلف فيه أهل العلم؛ فمنهم من قال: العقوبة أن يُلزم بدفعها فقط، وقال آخرون: بل يعاقب بأن يؤخذ من الزكاة شطر ماله، واستدلوا بحديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن لم يؤدها:"فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا". فقال: "آخذوها وشطر ماله" هل هذا شطر ماله كله- والشطر بمعنى: النصف- أو شطر ماله الذي منع زكاته؟ فيه خلاف أيضًا، وهذا الخلاف يحتمله اللفظ، فنرد ذلك إلى اجتهاد الحاكم، إذا رأى أن يؤخذ شطر المال كله أخذه، وإن رأى ألا يؤخذ إلا شطر المال الذي منع زكاته فليفعل؛ لأن هذا من باب التعزير فيرجع فيه إلى الإمام.
571 -
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن
…
" فذكر الحديث وفيه: "إنَّ الله قد افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فتردَّ في فقرائهم". متفقٌ عليه، واللَّفظ للبخاريِّ.
قوله: "بعث معاذ بن جبل إلى اليمن"، أي: أرسله، وكان ذلك في ربيع الأول سنة عشرٍ من الهجرة، أي: قبل موت الرسول صلى الله عليه وسلم بسنة، بعثه إلى اليمن داعيًا ومعلِّمًا وحاكمًا، بعثه يدعوهم إلى الله ويعلمهم ويحكم بينهم، والحكم هنا القضاء.
"فذكر الحديث"، يعني: ذكر ابن عباس الحديث بطوله، وفيه أن أول ما يدعوهم إليه شهادة
أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن أجابوا أعلمهم بأن الله أفترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أجابوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم، فيه أنه قال له:"فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتردُّ في فقرائهم"، فـ"افترض" بمعنى: أوجب، وأصل الفرض في اللغة: الحزم والقطع، ومنه سمِّي الحكم الحتمي فرضًا؛ لأنه مقطوع به لا يمكن أن يتخلف.
وقوله: "صدقة في أموالهم"، "صدقة" أي: زكاة لا صدقة تطوع؛ لأنه قال: "افترض"، والفرض يكون تطوعًا، وسمِّي بذلك المال صدقة؛ لأنه دليل على صدق إيمان بأذله كيف ذلك؟ لأننا نعلم أن المال محبوب إلى النفوس، والنفوس لا يمكن أن يهون عليها بذل المحبوب إلا برجاء محبوب أعظم، وكون الدافع يفعل ذلك برجاء محبوب أعظم يدل على تصديقه بثواب هذه الصدقة، فلهذا سمِّي بذل المال صدقة.
وقوله: "تُؤخذ من أغنيائهم""تؤخذ" هنا مبني للمجهول، فمن الآخذ؟ الآخذ: الإمام أو نائبه وهو الساعي.
وقوله: "من أغنيائهم"، "أغنياء" جمع غني، والغني: هو الذي عنده ما يستغني به عن غيره، هذا في الأصل، ولكن يختلف الغني باختلاف الأبواب، فعندما نقول الغني في باب أهل الزكاة يكون المراد بالغني: مَن عنده قوت نفسه وأهله لمدة سنة، وعندما قول: الغني في زكاة الفطر نقول: الغني من عنده زائد عن قوت يومه وليلته يوم العيد، وعندما نقول: الغني في باب النفقات نقول: هو من عنده ما يستطيع إنفاقه على من له إنفاق النفقة عليه، وعندما نقول: في باب الزكاة هنا نقول: الغني هو الذي يملك نصابًا زكويًّا، فهنا قوله:"من أغنيائهم" يعني: من يملكون نصابًا زكويًّا.
فإن قلت: ما هو الدليل على ذلك، أفلا تكون هذه الكلمة من الكلمات التي مرجعها العُرف؟
فالجواب: أننا لا نرد الكلمات إلى العرف إلا حيث لا يكون لها حقيقة شرعية، فإن كان لها حقيقة شرعية فالواجب الرجوع إلى الشرع كما قيل:
وَكُلُّ مَا أَتى وَلَمْ يُحَدَّد
…
بالشّرع كالحرز فبالعرف احدد
أمَّا هنا فقد حدِّد بالشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"في الإبل في كل خمس شاة"، إذن عرفنا الآن أن صاحب الإبل متى يكون غنيًّا؟ إذا ملك خمسًا، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في الفضة: "ليس فيما دون
خمس أواقٍ صدقة"، إذن فالذي يملك خمس أواقٍ يكون غنيًّا، وفي الذهب: "عشرون دينارًا" فمن يملك عشرين دينارًا يكون غنيًّا، وهكذا الحبوب والثمار، "ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقة"، فمن يملك خمسة أوسق فهو غني، فهذا الذي أوجب لنا أن نخرج كلمة "غني" عن مدلولها العُرفي إلى المدلول الشرعي، لماذا؟ لأنه وُجد لها مدلول شرعي محدد من قبل الشرع فلا يمكن أن نتعداه.
وقوله: "تُؤخذ من أغنيائهم"، الإضافة هنا هل هي إضافة للجنس أو إضافة للقوم، يعني: هل المراد: أن تؤخذ من أغنيائهم المسلمين عمومًا، أو من أغنياء أهل اليمن فقط؟ الظاهر أنها عمومًا، يعني: تُؤخذ من أغنياء الناس كلهم، وبناء على ذلك "فتردُّ في فقرائهم"، "فترد" أي: الصدقة، أي: ترجع في فقرائهم، وقوله:"في فقرائهم" دون "إلى فقرائهم"؛ لأن "رد" في الغالب تتعدي بـ "إلى"، لكن "في" أبلغ في الوصول؛ لأن مدخولها يكون ظرفًا لما قبله، فهي أبلغ من كلمة "إلى".
وقوله: "في فقرائهم" من الفقير؟ هل نقول: إن الفقير من كان فقيرًا عند الناس أو لا؟ يرى بعض أهل العلم أن الفقير ما سُمِّي فقيرًا عند الناس، وبناء على هذا فإن الفقر يكون أمرًا نسبيًّا. وقال بعضهم: إن الفقير هو الذي لا يجد ما يكفيه وعائلته لمدة سنة، وقدِّروها بالسَّنة، قالوا: لأن الزكاة تجب على رأس الحول، فإذا أعطينا الفقراء ما يكفيهم لهذه السَّنة لأنهم في انتظار زكاة العام الثاني فقيدوا الفقر بأن الفقير هو الذي لا يجد نفقته وعائلته لمدة سنة.
لو قال قائل: لماذا لا تجعلون الفقير هو الذي لا يملك نصابًا زكويًّا؛ لأن ظاهر الحديث التقابل، فما دمتم قلتم: إن الغني هو الذي يملك نصابًا زكويًّا، فإن الفقير هو الذي لا يملك نصابًا زكويًّا، وبذلك يكون من عنده خمسً من الإبل فإنه لا يُعطى من الزكاة؛ لأنه ليس بفقيرٍ، ومن عنده أربعون شاةً لا يُعطى من الزكاة؛ لأنه ليس بفقيرٍ، ومن عنده خمس أواقٍ لا يعطى من الزكاة؛ لأنه ليس بفقيرٍ، لو قال قائل هنا واستدلَّ علينا بالمقابلة، بأن قال مثلًا: إن مفهوم القول بأنها تؤخذ من غني وتُردُّ إلى فقير يقتضي التقابل، فيقال- بناء عليه-: إن الفقير هو ضد الغني، والغني قلتم: إنه من يملك نصابًا زكويًّا، فيكون الفقير من لا يملك، فبما نردُّ على هذا؟
نقول: هذا لا شك أنه إيراد قوي؛ لأن الأصل في الكلام إذا ذكر الشيء ومقابله أن يكون مقابله ضده في المعنى، ولكنا نقول: نحن إذا علمنا أن مقصود الشارع دفع حاجة المعطي صار تقيده بأن الفقير من لا يملك نصابًا زكويًّا غير وافٍ بالمقصود؛ لأن الرجل قد يكون عنده عائلة كبيرة وخمس من الإبل لا تكفيه ولا لمدة شهرين فيكون محتاجًا إلى الزكاة، فما دمنا قد علمنا العلة-وهي أن المقصود بذلك سد حاجة الفقير- فليكن ذلك محققًا.
وقيدناه بالسَّنة لما أشرنا إليه من قبل أن الزكاة حولية وإلا فقد يقول قائل: أعطوا الفقير حتى يكون غنيًّا مكتفيًا، ولكن لو قال قائل هذا القول، قلنا: وما حد الاكتفاء؛ لأنه قال: أعطوه حتى يكون غنيًّا؟ يكون اللي عنده يكفيه حتى الموت، هذا لا يمكن؛ لأن مثل ذلك لا يُعلم إذا مات عن قرب صار كل شيء يكفيه، وإن عُمِّر فهذا يحتاج إلى آلاف الألوف فهذا لا يمكن تقديره؛ نعم لو قال قائل: أعطوا الفقير حتى تهيئوا له ما يمكن أن يعيش فيه. لكان لهذا القول وجه، ولكن متى يكون ذلك؟ إذا لم نجل هناك حاجة شديدة؛ يعني: لو فرض أن المستوى العام للشعب مستوى جيد، وأردنا أن نؤمِّن مثلًا عمارة لهذا الفقير تكفيه من الزكاة فهذا جائز، أما إذا أمّنا لهذا الفقير عمارة من الزكاة بمائة ألف حرمنا عشرات الفقراء فلا، لكن لو فرضنا أن الشعب متكامل؛ يعني: أنه طيب الاقتصاد فهذا وجه قوي؛ أي: أن يشترى للفقير شيء يكفي نفقته على الاستمرار مثل سيارات يؤجرها أو عقارات حتى يكون غير مُحتاج.
وقوله: "تُؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم"، الإضافة هنا إضافة جنس أو إضافة قوم؟ فيه خلاف هو كالأول جنس هذا صحيح، لكن مع ذلك اختلف العلماء في هذه المسألة، فقال بعضهم:"إلى فقرائهم" أي: فقراء قومهم بمعنى أن زكاة أهل اليمن لأهل اليمن لا تخرج إلا إذا لم يوجد مستحق فتخرج، لكن ما دام يوجد مُستحق فإنها لا تُصرف إلى غيرهم، يعني يُقال:"من أغنيائهم فترد في فقرائهم"، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الإضافة هنا للجنس، أي: في فقراء المسلمين، وعلى هذا القول فيجوز أن ننقل الزكاة من البلد إلى بلد آخر، وسيأتي- إن شاء الله- في الفوائد.
هذا الحديث صدَّر به المؤلف كتاب الزكاة؛ لأن فيه التصريح بأن الزكاة فرض.
فيستفاد من هذا الحديث فوائد؛ منها: مشروعية بعث الدُّعاة إلى الله عز وجل لقوله: "بعث معاذًا إلى اليمن"، وهل بعث الدُّعاة واجب؟ الجواب: نعم واجب كفائي؛ لأن على المسلمين واجب تبليغ الإسلام، فيكون بذلك من باب فرض الكفاية، فيجب على ولاة المسلمين أن يبعثوا الدَّعاة إلى البلاد لبثِّ الإسلام.
ثانيًا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على انتشار الإسلام، يُؤخذ من بعثة الدُّعاة. ويستفاد من الحديث من الألفاظ التي حذفها المؤلف: أنه ينبغي الترتيب في الدعوة فيبدأ بالأهم فالأهم، حتى إذا اطمأن الإنسان ورضي والتزم ينتقل إلى الثاني، وهذا يؤخذ من قوله:"فإن هم أطاعوك لذلك".
ويستفاد منه: أن الصلاة أوكد من الزكاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعلامهم بفرضية الزكاة إلا إذا قبلوا فرض الصلاة.