الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بخمسين، بل بثمانين لماذا؟ قالوا: لأني لو أقول: هذه السلعة بخمسة عشر قالوا: هذه السلعة بائرة، فهل يجوز لهذا الرجل أن يفعل هذا الفعل؟ نقول: إن في هذا ضررًا على الناس، والواجب على أهل الحسبة في الأسواق أن ينظروا، فإذا كانت القيمة خمسة عشر مشوا إلى البائعين الآخرين، وإذا كانوا قد رفعوا القيمة عن هذا المعتاد أجبروهم على أن ينزلوا القيمة، حتى يعرف الناس أن كل الذي في السوق على حدّ سواء، وغالب الناس بما يصنعون أو يشاهدون -كما يقول العامة: هذا عقله في عيونه- إذا سمع أن الثمن كثير، قال: هذه السلعة جيدة وإذا كان الثمن قليلًا -حتى لو كانت السلعة جيدة- قال: هذه بائرة ليست بشيء.
هذا الحديث أتى به المؤلف رحمه الله بعد حديث أنس ليستدل به على أنه إذا كان سبب الغلاء احتكار الناس، أي: الناس الذين احتكروا ويجب أن يسعر عليهم، وأن يبيعوا بربح مناسب.
من فوائد الحديث: تحريم الاحتكار لقوله: "لا يحتكر إلا خاطئ".
ومن فوائده أيضًا: عموم تحريم الاحتكار في أي شيء؛ لأن الحديث مطلق لم يقيّد.
ومن فوائده أيضًا: وجوب النُّصح للمسلمين؛ لأن الاحتكار على خلاف النصيحة، والواجب على المؤمن أن ينصح لإخوانه المؤمنين، وألا يحتكر عليهم السلع التي يريدونها.
ومن فوائد الحديث: أن الذي يبيع كما يبيع الناس ويسهِّل للناس فإنه مصيب، وأخذ هذا من إثبات الخطأ للمحتكر، فيكون من وسّع على الناس وبذل الشيء مصيبًا ليس بخاطئ.
بيع الإبل والغنم المصرَّاة:
781 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تصرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النَّظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردَّها وصاعًا من تمرٍ". متَّفق عليه.
-ولمسلم: "فهو بالخيار ثلاثة أيَّام".
-وفي روايةٍ له علَّقها البخاريُّ: "وردَّ معها صاعًا من طعام لا سمراء"، قال البخاريُّ: والتَّمر أكثر.
"لا تصرُّوا""لا" ناهية، و"تصرُّوا" فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، وهي مروية بوجهين:"تَصرُّوا"، و"تُصرُّوا" والأرجح الأخير، مأخوذة من التَّصرية وهي الجمع.
وقوله: "الإبل والغنم" أي: لبن الإبل والغنم، وكانوا يجمعون لبنها في ضروعها ليظن من رآها
أنها كثيرة اللبن، فيشتريها بزيادة، فنهاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن ذلك غش وخديعة وخيانة، وهو عند الفقهاء من باب التدليس، وهو إظهار الردئ بصفة أجود مما هو عليه في الواقع، وقوله:"الإبل، والغنم"، "الإبل" اسم جامع لا واحد له من لفظه، لكن له واحد من معناه، واحده بعير، والغنم واحده الغنمة، وتشمل الضّأن والمعز.
قال: "فمن ابتاعها بعد" أي: فمن اشتراها، "بعد" أي: بعد التّصرية وبنيت "بعد" على الضم؛ لأنه حذف المضاف إليه ونوى معناه، وقد مرّ بنا أن "بعد"، و"قبل" وأخواتها لها أحوال، فتارة تبنى على الضم، وتارة تعرب بالتنوين، وتارة تعرب بلا تنوين، متى تعرب بلا تنوين؟ إذا أضيفت لفظًا أو تقديرًا، وتعرب بتنوين إذا قطعت عن الإضافة لفظًا وتقديرًا، وتبنى على الضم إذا قطعت عن الإضافة لفظًا لا تقديرًا؛ يعني: من أنه يحذف المضاف إليه وينوى معناه.
وقوله: "فهو بخبر النظرين" يعني: فهو بما يرى أنه خير له من أي شيء، قال:"إن شاء أمسكها وإن شاء ردَّها"، "وصاعًا من تمر"، وقوله:"بعد أن يحملها"، لم يذكر أمر الخيار في هذه الرواية، لكن قال: ولمسلم: "فهو بالخيار ثلاثة أيام"، وفي رواية علّقها البخاري ورد معها:"صاعًا من طعام لا سمراء"، قال البخاري:"والتمر أكثر".
في الحديث: "نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم، النهي يقتضي التحريم، فيستفاد من ذلك: تحريم تصرية الإبل والغنم؛ أي: جمع اللبن في ضروعها.
وهل يلحق بالإبل والغنم ما سواهما؟ الجواب: نعم، مثل البقر والجاموس وغيره.
وهل يلحق بمباح الأكل محرم الأكل كالأتان يعني الحمارة؟ قال بعض أهل العلم: يلحق لأن كثرة اللبن في الحمارة مقصود، وإن كان الإنسان لا يشربه لكن يشربه ولدها وولد غيرها، فهو مقصود، وقال بعض العلماء: بل إن الأتان لا حكم لتصريته؛ لأن لبنها لا عوض له، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل لهذا اللبن المصرَّى عوضًا، وهو صاع من تمر، والراجح الأول أنه خاص بمباح اللبن، اللهم إلا إذا كان ذلك عيب في الأتان، فإن للمشتري الفسخ من أجل العيب.
من فوائد الحديث: تحريم التدليس بالقياس، نقول: لما حرم الشارع تصرية الإبل والغنم من أجل التدليس على المشتري نقيس عليه كل ما فيه تدليس، ومن ذلك ما ذكره الفقهاء رحمهم الله جمع ماء الرّحى وإرساله عند عرضها، الرَّحى معروفة وهي التي يطحن بها الحبوب وكيفية جمع ماء هذه الرحى هي: أنهم كانوا يجعلون الرّحى على الجروة ويجعلون لها ريشًا كالمروحة إذا مر بها الماء حرك هذه الريشة واستدارت وهنا كسير متصل بالرّحى، إذا استدارت هذه المروحة استدارت الرّحى، فإذا كانت الجروة قوية صار دوران المروحة قويُّا فيكثر دوران الرّحى وقوي الطحن، هذا تدليس بأن يجمعوا ماء الرحى يحبسونه، فإذا أرادوا أن يعرضوها للبيع فتحوا عليها الماء، فيأتي الماء مندفعًا بشدة، فيظن المشتري أن هذا دأب هذه الرّحى فيزيد في ثمنها.
كذلك تسويد شعر الجارية التي ابيض شعرها من الكبر، فيسوده ليظن الرائي أنها شابة وهي من القواعد اللاتي لا يرجون النكاح.
كذلك أيضًا إذا كانت السيارة مصدومة عدة صدمات فسمكرها وطلاها باللون الموافق للونها الأصلي، فيظن الرائي أنها جديدة فيزيد في قيمتها وهي قديمة مصدومة.
من ذلك أيضًا أن يلبس البيت عند بيعه ليظن الظان أنه جديد، المهم الضابط في هذا إظهار السلعة بصفة مرغوب فيها وهي خالية منها.
من ذلك أيضًا إذا أراد أن يبيع رقيقًا نثر على ثوبه حبرًا لماذا؟ ليظن أنه كاتب، ثم إن التدليس بعضه قريب وبعضه بعيد، يعني: كون هذا الرقيق على ثوبه حبرًا ليس من لازمه أن يكون كاتبًا، لكن قد يظن الظان أنه كاتب، وكذلك أيضًا تسويد اللحية إذا أراد أن يبيع رقيقًا فيظن أنه شاب، قصَّ لحيته من اليمين والشمال والأسفل ثم سوَّدها حتى يراه الرائي وكأنه شاب، على كل حال: الضابط عندنا هو أن يظهر السلعة بصفة مرغوب فيها، وهي خالية منها في الحقيقة.
وقوله: "فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين" أي: بما يرى أنه خير له إما الإمساك وإما الردّ.
وقوله: "بعد أن يحلبها" لم يذكر في هذه الرواية المدة التي تضرب له، لكنه في الرواية الأخرى التي في مسلم قال:"فهو بالخيار ثلاثة أيام" منذ حلبها، وتنظر هل هذا اللبن الموجود في ضرعها حين الشراء هو اللبن الحقيقي أو لا؟ وثلاثة الأيام تبين بها طبيعة هذه البهيمة هل لبن طبيعي أو لبنها محفل يعني مجموع، ولهذا قال: ضرب له ثلاثة أيام، قال: إن شاء أمسكها، وظاهره أنه يمسكها بلا أرش؛ لأن هذا ليس عيبًا، ولكنه فوات الصفة، وهناك فرق بين فوات الصفة وبين العيب؛ لأن العيب نقص، وفوات الصفة فوات كمال، والعيب قد علمنا أن المشتري يخير بين أن يردّ السلعة وأن يقوِّم له العيب، الذي يسمى الأرش؛ لأنه عيب ونقص، أما فوات الصفة الكمالية فإن المشتري يخير بين أن يفسخ أو يمسك مجانًا، ولهذا قال: إن شاء أمسكها، يعني: بدون أن يعطى أرش، وإن شاء ردّها وصاعًا من تمر ردها على البائع وصاعًا من تمر، وفي رواية البخاري المعلقة ووصلها مسلم:"صاعًا من طعام لا سمراء"، قال البخاري:"والتمر أكثر"، يعني: أكثر الروايات: "صاعًا من تمر"، والصاع هو مكيال معروف، وه يسع من البرّ الرزين ما زنته كيلوان وأربعون غرامًا، وقوله:"من تمر" أيضًا التمر معروف، وهذا الصاع عوض عن اللبن الذي كان في ضرعها حين العقد، وليس عوضًا عن اللبن الذي تدر بعد الشراء؛ لأن اللبن الذي تدرّ بعد الشراء يكون على ملك المشتري فلا يضمن، وأما اللبن الذي كان موجودًا في ضرعها حين البيع فهو ملك البائع، وقد استهلكه المشتري وحلبه، فقدر له النَّبيّ صلى الله عليه وسلم "صاعًا من تمر".
وهنا أسئلة:
أولًا: لماذا قدر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر دون غيره؟
قالوا: لأن التمر أشبه ما يكون بالحليب؛ لأنه طعام لا يحتاج إلى طبخ، وفي أنه حلو كالحليب فكان أشبه ما يكون بالحليب التمر.
والسؤال الثاني: لماذا قدره بصاع مع أن اللبن قد يكون كثيرًا يساوي أكثر من الصاع، وقد يكون قليلًا لا يساوي الصاع، وقد تكون قيمة اللبن مرتفعة أكثر من قيمة الصاع، وقد تكون نازلة دون قيمة الصاع؟
فنقول: إنما قدّره النَّبي صلى الله عليه وسلم بالصاع قطعًا للنزاع، لأنه لو قال: صاعًا من تمر مقابل للحليب لو قال ذلك لحصل نزاع بين البائع والمشتري، البائع يقول: إن اللبن أكثر من ذلك، والمشتري يقول: إن اللبن أقل، فإذا كان مقدرًا من قبل الشرع رضي الجميع ولم يحصل نزاع.
السؤال الثالث: لماذا لم يوجب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ اللبن الذي حلب لأول مرة؟
والجواب على ذلك نقول: أولًا: اللبن قد لا يبقى إلى ما بعد ثلاثة أيام، ثانيًا: أن اللبن من حين عقد البيع فإنه سيزداد؛ لأن المشتري ليس من اللازم أن يحلبها من حين أن يشتريها، قال: ربما تبقى ساعة أو ساعتين وفي هذه المدة تدرّ البهيمة لبنًا، فيختلط لبن المشتري مع لبن البائع، وإذا قلنا: يجب عليك أن ترد اللبن صار نزاع؛ لأن ردّه متعذر أو متعسر، فهذا أوجب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر.
782 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من اشترى شاةً محفَّلةً، فردَّها، فليردَّ معها صاعًا". رواه البخاريُّ.
-وزاد الإسماعيليُّ: "من تمر".
فيستفاد من هذا الحديث فوائد: الأولى: تحريم تصرية الإبل والغنم للنهي في قوله: "لا تصروا".
فإذا قال قائل: ما الحكمة من ذلك؟
الجواب: أن الحكمة لذلك أمران: الأول: إيذاء الحيوان؛ لأن حبس اللبن يتأذى به الحيوان، الثاني: أنه غش للمشتري ظاهر، وقد ثبت عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من غشّ فليس منا".
ومن فوائد الحديث: أن المشتري للمصرَّاة يخيَّر بين ردها أو إمساكها لقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن ابتاعها فهو بخير النظرين".
ومن فوائد الحديث: أن له الخيار مدة ثلاثة أيام، والتعليق بالثلاثة ورد في نصوص كثيرة متعددة، حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلَّم تكلّم ثلاثًا، إذا سَلّم سلّم ثلاثًا، إذا استأذن يستأذن ثلاثًا، والثلاث معتبرة شرعًا في مسائل كثيرة ومنها الحديث.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا اختار الرد فإنه يجب أن يرد معها صاعًا من تمر، فإن قال قائل: إذا لم يكن عنده تمر؟ فإنه يرد معها أقرب ما يكون سبهًا بالتمر من القوت؛ لأنه قد يكون في بلاد ليس عندهم نخيل ولا تمر فيرد أقرب ما يكون سبهًا بالتمر، وقيل: بل يرد نفس اللبن إن كان موجودًا أو مثله، إن كان قد شربه أو قيمته إن تعذر المثل، ولكن الصحيح أن يرده طعامًا أقرب ما يكون إلى التمر؛ لأن هذا هو الذي جعله الشارع بدلًا عن اللبن المفقود، ولو كان رد اللبن مقصودًا لقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: فليرد اللبن فإن لم يمكن فصاعًا من تمر، ثم نقول أيضًا: إن ردّ اللبن مثله متعذر، لأن اللبن الذي وقع عليه العقد لبن في ضرع، واللبن في الضرع مستحيل ردّه وتقديره.
ومن فوائد الحديث: تحريم الظلم، ويؤخذ ذلك من تحريم التصرية، وهو كذلك، فإن الظلم محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: } إنه لا يحب الظالمين {[الشورى: 40]. وقال الله عز وجل: } إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم {[الشورى: 42]. وقال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"، وقال الَّنبيّ صلى الله عليه وسلم:"الظلم ظلمات يوم القيامة"، والنصوص في هذه كثيرة، والعلماء مجمعون على تحريم الظلم.
ومن فوائد الحديث: حماية الشريعة لحقوق الإنسان، وجه ذلك: النهي عن التصرية وجعل من غبن بها مخيَّرًا بين الإمساك والرّد.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا أمسك بفوات صفة مطلوبة، فإنه يمسك بلا أرش سواء كانت هذه الصفة مشروطة لفظًا أو حالًا، المشروطة لفظًا أن يقول: إنها لبون في مسألتنا هذه، والمشروطة حالًا بالتصرية مصرَّاة فإن هذه التصرية تعطي المشتري شرطًا على أنها كثيرة اللبن، فإذا زال هذا المشروط، فإننا نقول للمشتري الآن، إما أن تمسكها على ما هي عليه وإما أن تردها بخلاف العيب، والفرق بينهما ما أشرنا إليه آنفًا من أن العيب نقص؛ لأن مقتضى العقد أن تكون السلعة خالية من العيب، وأما هذا فهو فوات كمال فهو زائد على أصل ما وقع عليه العقد وهو السلامة.
ومن فوائد الحديث: إثبات الخيار للإنسان؛ أي: أنه يفعل باختياره فيكون فيه رد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله لا يختار شيئًا من الأشياء، بل هو كالريشة في الهواء.
ومن فوائد الحديث: حرص الشرع على قطع المنازعات والبعد عنها، من أين يؤخذ؟ من تقديره العوض بصاع من تمر، ونحن إذا تأملنا نصوص الكتاب والسنة وجدنا أن الشرع ينهى عن كل ما يحدث العداوة والبغضاء بين الناس؛ لأنه يريد من الأمة الإسلامية أن تكون أمة متآلفة متآخية كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، والبعد عما يوجب التنافر والبغضاء كما هو واجب على سائر المسلمين، فهو واجب على طلبة العلم بالذات أكثر من غيرهم؛ لأن طلبة العلم هم الذين يقتدى بهم وهم الذين يشار إليهم بالسوء أو بالحسنى، إن أساءوا صاروا مشمتة للناس وصارت سيئاتهم في عيون الناس أكبر من سيئات غيرهم، وإن أحسنوا صاروا قدوة للناس في الخير والعمل الصالح، وأحبهم الناس، ويؤسفنا كثيرًا أن نجد العداوة والبغضاء والخصومات والجدال والتعصب بالباطل بين كثير من طلبة العلم عند مسائل شرعية ينبغي أن تكون محل اجتماع اتفاق ووفاق، لا أن تكون محل عداوة وبغضاء وسب وشتم وتنفير، فإن هذا خلاف الشرع وخلاف ما أمر الله به وما أخبر اله به عن هذه الأمة: } وإن هذه أمتكم أمة وحدة {[المؤمنون: 52]. فإذا كان الشارع ينهى عن بعض المعاملات المؤداة إلى النزاع والعداوة والبغضاء فكيف بالمسائل الشرعية التي تكون هي السبب في العداوة والبغضاء هذا شيء يؤسف له، والواجب على كل مسلم وعلى طلبة العلم بالأخص أن يسعوا إلى كل ما فيه إصلاح القلوب وحصول المصلحة، أنا لست أقول: دعوا الناس يقولون فيخطئون أو يصيبون، لا، لكن يبين للناس بمناقشة هادئة هادفة، فإذا تبني الحق وجب على كل إنسان اتباعه، وإذا لم يتبين فكل إنسان معذور، والذي يحاسب الخلق هو اله عز وجل؛ لأنه قد يتبين لي ما لم يتبين لك والعكس، فلماذا نجعل مثل هذه المسائل سببًا للعداوة والبغضاء بين طلبة العلم حتى إن كل طائفة منهم حزب مستقل كأنهم ليسوا مسلمين والواجب خلاف ذلك، وعلى طلبة العلم أن يكون طالب العلم عند هذا العالم كالطالب عند العالم الآخر، كل منهم يبذل الخير، وكل منهم يريد أن يصل إلى الغاية المنشودة وهي إقامة شريعة الله بين عباد الله.
ومن فوائد الحديث: أن العدد الثلاثي معتبر في كثير من الأشياء، وبه تتبين الأشياء في الغالب في الثلاث، كما إذا استأذنت على رجل ثلاث مرات تبين أنه غير موجود، أو كاره للفتح وإما أنه نائم مستريح، أما الاستئذان الأول فقد لا يسمع، والاستئذان قد يسمع، ولكن لا يدري عن حقيقة الأول، وفي الثالثة الغالب أنه يتبين فإذا كان يريد أن يفتح لك الباب فتح وإلا تركك، وهكذا في مسائل كثيرة تعتبر فيها الثالث.