الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتنعم بما أعطاه الله تعالى من الخير يجد من يبذل له ما يتنعم به، لهذا كان من الحكمة أن الله عز وجل أحل لعباده.
* * * *
1 - باب شروطه وما نهي عنه
وكان المتوقع أن يقول: شروطها؛ لأنها "بيوع" جمع، والجمع يحتاج أن يكون الضمير الراجع إليه ضمير جمع، لكن المؤلف رحمه الله لما رأى أن البيوع هنا جمع من أجل الأنواع والجنس واحد أعاد الضمير باعتبار الجنس لا باعتبار الأنواع، وقد سبق لنا أن الشروط جمع شرط، وهو في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى:{فهل ينظرون إلَّا السَّاعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها} [محمد: 18]. أي: علامتها، وفي الشرع: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود.
وأما قوله: "وما نهي عنه" أي: ما نهي عنه من البيوع، والمنهي عنه من البيوع أقل بكثير مما أبيح؛ لأن المنهي عنه معدود، والمباح محدود، والمعدود أقل من المحدود؛ لأنه محصور بعدده، وقوله:"ما نهي عنه" يشمل ما نهى الله عنه أو نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
أطيب الكسب:
748 -
عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه: "أنَّ النَّبي سئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرَّجل بيده، وكلُّ بيع مبرور". رواه البزَّار، وصحَّحه الحاكم.
"سئل" من السائل؟ السائل لا يهم سواء أكان رجلًا أم امرأة، لكن السائل صحابي، وقد مر علينا أنه لا شك أن من تمام العلم أن نعلم المبهمات، ولكن ليس من ضروريات العلم؛ إذ إن المقصود هو الحادثة أو القضية التي وقعت حتى نعرف الحكم.
وقوله: "سئل أي الكسب أطيب؟ "، الكسب: ما يكتسبه الإنسان ويربح فيه من تجارة أو إجارة أو شركة أو غير ذلك، فهو شامل، والإنسان قد يكتسب الشيء بالبيع أو بالإجارة أو بالمشاركة أو بتملك المباحات كالصيد والحشيش ونحو ذلك فأيُّهما أطيب؟
قال: "عمل الرجل بيده" هذا أطيب المكاسب، لماذا؟ لأن عمل الرجل بيده يكون في الغالب خاليًا من الشبهات؛ إذ إنه حصَّله بيده مثل الاحتشاش، إنسان خرج إلى البرَّ واحتش وأتى بالحشيش أو خرج إلى البرّ واحتطب وأتى بالحطب، أو خرج إلى البرِّ وافتجع، يعني: أتى
بالكمأة وخرج إلى البحر فاصطاد سمكًا هذا كله عمله بيده فهو أفضل ما يكون؛ لأنه عمل ليس فيه شبهة إطلاقًا؛ لأنه أخذه مما أخرجه الله عز وجل من الأرض، وهل يدخل في ذلك الصنائع؟ نعم، قد نقول: إنه يدخل فيها الصنائع وإن كان في النفس منها شيء في دخولها في الحديث؛ لأن الصنائع كالبيع والشراء يكون فيها غش ويكون فيها نسيان ويكون فيها غلط، فيكون دخولها حينئذ فيه شيء من الشبهة لكن ممكن أن ندخلها بالدفع على شرط أن يكون هذا الصانع العامل ناصحًا في صنعته تمامًا، وإلا فما أكثر الذين يصنعون ثم تكون صنعتهم من أردأ الصناعات، ويدخل عندهم الغش أكثر مما يدخل في البيع والشراء، يوجد جماعة بنوا جدارًا لشخص فقالوا: من يذهب إلى صاحب الجدار يأتي بالأجرة؟ فقال بعضهم: من يمسك الجدار حتى لا يسقط وحتى نأخذ الأجرة؟ الجدار الآن غير جيد في بنائه يستمسك فقط، يأخذون الأجرة ويذهبون.
على كل حال: الصنائع في الحقيقة قد تدخل في الحديث وقد لا تدخل، فتدخل الحراثة والزراعة في الحديث؛ لأن الغالب أن الحارث يخلص لنفسه مثل ما يختار الحطب الجيد لبيعه بأكثر، هذا يخلص حرث الأرض والزرع الطيب والسقي فهو عمله بيده، ولهذا قال بعض الفقهاء: الزارعة أفضل مكتسب، وفي الزراعة أيضًا صلة أخرى وهي: ما ينتفع بهذا الزرع من مخلوقات الله، الحشرات تنتفع، والنمل، والذر، والكلاب، والطيور، وكل شيء ينتفع مما يمكن أن يفع بهذا الزرع ففيه أيضًا مصلحة.
الثاني قال: "وكل بيع مبرور"، ما هو البيع المبرور؟ البيع المبرور بينته السُّنة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما"، فالبيع المبرور هو: ما كان مبنيّاً على الصدق والبيان، الصدق: في الوصف، والبيان: في العيب؛ يعني مثلًا: لا يقول لك: هذا طيب وهو رديء، ولا يكون هذا الشيء معيبًا ثم يكتمه بل يبين:"إن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما"، فهذا هو البيع المبرور المبني على الصدق والبيان، نزيد شيئًا ثالثًا: ووافق الشرع، فإن خالف الشرع فهو وإن كان مبنيّاً على الصدق والبيان فليس بمرور، لو باع لشخص ما يحرم بيعه وصدقه في وصفه وفي عيبه لا نقول: هذا بيع مبرور.
إذن ما وافق الشرع واشتمل على الصدق والبيان فهو البيع المبرور، وعكس ذلك ما خالف الشرع كبيع المحرمات كالملاهي وغيرها أو ما كان مبنيّاً على الكذب كأن يقول: هذه
السلعة من أحسن ما يكون وهي ما أردأ ما يكون، أو على كتم العيب بأن تكون معيبة ويخفى عيبها فهذا ليس بيعًا مبرورًا، وسمي الأول مبرورًا لاشتماله على البر، والله سبحانه وتعالى يحب البّر، بل قد قال:{وتعاونوا على البرّ والتَّقوى} [المائدة: 2].
في هذا الحديث عدة فوائد: الفائدة الأولى: حرص الصحابة رضي الله عنهم -على السؤال عن أفضل الأعمال لقوله: "سئل أي الكسب أطيب؟ "، والصحابة رضي الله عنهم -إذا سألوا عن الكمال لا يريدون مجرد العلم بالكمال لكنهم يطبقون ويعملون، ليسوا كحال أكثر الناس اليوم حيث إن أحدهم يسأل عن الكمال وعن الأفضل ثم لا يعمل به! لم يكن حال الصحابة هكذا إنما هم لا يسألون إلا من أجل أن يعلموا، وهذه صفة المؤمن، وهؤلاء هم المؤمنون الذين إذا علموا الحق عملوا به، أما أن يعلموه ويجعلوه في صدورهم كنسخ من الكتب لا تتجاوز الصدور فهذا ليس من خصال المؤمنين وليس من صفاتهم، صفة المؤمن أنه متحرك عامل لا يتأخر، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالصدقة ماذا فعلن؟ صارت المرأة تأخذ قرطها من أذنها وخاتمها من أصبعها وتلقيه في ثوب بلال بدون تأخر وبدون تردد وبدون مشاورة أحد، فهكذا ينبغي للمسلم بل يجب على المؤمن أن يكون هكذا كلما علم شيئًا أفل عمل به ما استطاع، إذن الصحابة رضي الله عنهم يسألون عن الأفضل لا من أجل أن يعلموا الأفضل، ولكن من أجل أن يعلموا ويعلموا به.
ومن فوائد الحديث: أن المكاسب تختلف فمنها الطيب والخبيث والأطيب دليله: "أي الكسب أطيب؟ " فأقرهم على التفاضل.
ومن فوائده أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم، وهذا مما اختصه الله به، فإنه أعطي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارًا، من أين يؤخذ؟ من هاتين الكلمتين:"عمل الرجل بيده"، تشمل أشياء كثيرة ليس لها حصر، وقد ذكرنا منها شيئًا قليلًا: احتشاش، احتطاب، اصطياد، حراثة وأشياء كثيرة.
"كل بيع مبرور"، كذلك هذا يعتبر ضابطًا يدخل فيه أنواع كثيرة من البيع إذا اشتملت على الأوصاف الثلاثة وهي: موافقة الشرع، والصدق، والبيان، فإن انضاف إلى هذا مصالح أخرى