الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكن نبيًا إلا بعد أن أنزل إليه، ولم يكن هناك دين جاء به إلا بعد أن أنزل إليه.
ثم نقول: مَن قال لكم: إن ميلاده في شهر ربيع، وإن ميلاده في اليوم الثاني عشر منه، كل هذا غير متيقن، من المعلوم أن هذه البدعة لم تحدث في عهد الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين، وأن القرون المُفَضَّلة انقرضت ولم يتكلم واحد منهم بكلمة ولم يفعل أحد منهم فعلًا من هذا النوع، وعليه فيكون مُح دَثًا، وكل مُحدث يتقرب به الإنسان إلى الله فهو بدعة وضلالة.
ثم نقول أيضًا: هذه الذكرى التي تقيمونها كان عليكم أن تصبحوا يومها صائمين، أما أن تبقوا في تلك الذكرى منكم يقدمون الحلوى والفرح، وكذلك الأغاني التي كلها غُلُوٌ لا يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم فليس هذا من إقامة ذكراه، بل هذه من معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذن نأخذ من هذا الحديث: مشروعية صيام ثلاثة أيام يومان سنويًا، ويومًا أسبوعيًّا.
فضل صيام ستة أيام من شوال:
647 -
وَعَن أَبِي أَيُّوبَ الأَن صَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالّ: "مَن صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَت بَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهرِ". رَوَاهُ مُسلِمٌ.
"من صام" شرطية، وجوابها:"كان كصيام الدهر"، وقوله:"من صام رمضان" يعني: أتم صيامه؛ لأنه لا يُقال للرجل صام رمضان إلا إذا أتمه، وقوله:"ثم أتبعه"، أي: جعل هذه الأيام تابعه له، لكن "ثم" تفيد الترتيب بتراخ، وقوله:"ستًّا من شوال" ولم يقل: ستة؛ لأنه حُذف المعدود وإذا حُذف المعدود فإنه يجوز التذكير باعتبار أن المحذوف مذكر والتأنيث باعتبار أنه مؤنث، وتطلق الليالي على الأيام ونعلم أن هذه الأيام؛ لأن اليوم هو محل الصوم.
وقوله: "من شوال" هو بالكسر مجرورًا؛ لأنه اسم ينصرف، والذي ينصرف من أسماء الشهور هذا شوال؛ ذُو الحجة، مُحرم، ربيع الأول والثاني، ورجب.
وقوله: "كان كصيام الدهر"، أي كان صوم رمضان وإتباعه ستًّا من شوال كصيام الدهر ووجهه: أن صوم رمضان بعشرة أشهر، وستة من شوال بشهرين والحسنة بعشر أمثالها، فكذلك كان كصيام الدهر، ولكن هل ينوب عن صيام الدهر؟ لا؛ لأن ما يعادل الشيء بالأجر لا ينوب منابه في الإجزاء، يعني: قد يكون الشيء معادلًا لأجره في الأجر ولكن لا ينوب عنه في الإجزاء؛ أرأيتم رجلًا جامع زوجته في الإحرام بالحج قبل التحلل الأول يلزمه بدنة، فقال: بدلًا من هذه البدنة أذهب إلى الجمعة في الساعة الأولى، ومن راح في الساعة الأولى كأنه قرب بدنة هل يجزئه ذلك؟ لا، {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن لو قرأها المصلي في صلاته
ثلاث مرات، هل تجزئ عن الفاتحة؟ لا، من قال عشر مرات:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" كان كمن أعتق أربع أنفس من ولد إسماعيل، قلو قال وهو عليه أربعة أيمان ونواها كفارة فلا تجزئ، وبهذا نعرف أن معادل الشيء لا يلزم أن يجزئ عنه، وكذلك الصلاة في الحرم، لو قال: أصلي في الحرم جمعة واحدة عن مائة ألف جمعة، وقال: لا أصلي بقية الجمع فلا يجزئه هذا.
في هذا الحديث: الحثُّ على صيام ستة أيام من شوال لقوله: "كان كصيام الدهر"، ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا إلا ترغيبًا فيه وليس تحذيرًا منه.
فإن قلت: أفلا يمكن أن يقول قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك تحذيرًا؛ لأنه نهى عن صيام الدهر كله وقال: "لا صام من صام الأبد"؟
فالجواب: أن مثل هذا التعبير يقطع به قطعًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين أن هذا يجزئه عن صوم الدهر: يعادله في الأجر، وحينئذ يبقى صوم الدهر ليس فيه إلا المشقة وإتعاب النفس.
ومن فوائد الحديث: أن فوائد هذه الأيام لا يجزئ عنها إلا إذا صام رمضان كاملًا، وبناء على ذلك فمن كان عليه قضاء من رمضان وقال: إني سأبادر فأصوم السنة قبل أن يخرج شوال والقضاء أجعله فيما بعد فلا يجزئ، وهذا ليس مبنيًّا على خلاف العلماء هل يجوز صوم النفل لمن عليه قضاء؟ لأن هذا صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"من صام رمضان ثم أتبعه"، وعليه فلا ينبني هذا على خلاف العلماء في التطوع في الصوم ممن عليه قضاء؛ لأن العلماء مختلفون فيما إذا كان عليك قضاء من رمضان.
هل لك أن تتطوع في الصوم كصوم ذي الحجة وعرفة والمحرم والإثنين؟ فيه خلاف بين العلماء والراجح: أنك لا تتطوع حتى تقضي الواجب.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن تصوم هذه الأيام على وجه التتابع أو التفريق، يؤخذ إطلاق قوله:"ستًّا من شوال".
وهل يؤخذ منه: أن الأفضل أن يفصل بينهما وبين رمضان بيوم لقوله: "ثم أتبعه"؟ ذكر بعض العلماء: أنه يستحب ان يفصل بينها وبين رمضان بيوم؛ لقوله: "ثم أتبعه" هذا واحد؛ لأن الفرض والسُّنة ينبغي أن يفصل بينهما حتى لا يختلط هذا بهذا، ولكن نقول: هذا القول فيه شيء من النظر بصومها بعد يوم العيد أفضل لما فيه من المسارعة في الخير وعدم تعرض الإنسان
لأمر يمنعه من صومها.
ويستفاد من الحديث أيضًا: أن صيامها بعد شوال لا يجزئ، وهذا لمن تعمد تأخيرها واضح؛ لأن هذه عبادة مؤقتة، بماذا؟ بشوال فإذا أخَّرتها بلا عذر من شوال لم تجزئ، ولكن إذا أخرها الإنسان لعذر مثل أن يسافر من يوم العيد إلى آخر شوال فهل يقضيها أم لا؟ قد يقول قائل: إنه يقضيها قياسًا على قضاء رمضان؛ لأنها عبادة مؤقتة بوقت أخرها عن وقتها لعذر فلا بأس أن يقضيها، وقد يقال: لا يقضيها؛ لأنها سنة فات محلُّها بخلاف الفريضة.
648 -
وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبدٍ يصوم يومًا في سبيل الله؛ إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النَّار سبعين خريفًا". متّفقٌ عليه، واللَّفظ لمسلمٍ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يومًا"، كلمة "عبد" يراد بها: العبودية العامة الشاملة للمؤمن والكافر، ويراد بها: العبودية الخاصة بالمؤمنين، ويراد بها: عبودية أخصُّ للرسل، فمن الأول العبودية العامة قوله تعالى:{إن كل من في السموات والأرض إلا ءاتى الرحمن عبدًا} [مريم: 93]. فهذه العبودية عامة ولا يمكن أحد أن يستكبر عنه، كل الناس خاضعون لها؛ لأنها عبودية كونية لا أحد أن يستطيع أن يرد المرض نفسه، ولا أحد يستطيع أن يرد الجوع عن نفسه، ولا أحد يستطيع أن يردَّ الموت عن نفسه، ولا أحد يستطيع أن يردَّ الحوادث عن نفسه، هذه عبودية عامة وهي العبودية الكونية المتعلقة بقدر الله عز وجل، عبودية خاصة وهي: عبودية التذلل لله تعالى بالطاعة وهذه عبودية شرعية يعني: التذلل للشرع، وهذه تكون لمن؟ للمؤمنين، ومنها عبودية أخص وهي: عبودية الرُّسل، مثال عبودية المؤمنين قوله تعالى:{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} . [الفرقان: 63]. هذه خاصة للمؤمنين، عبودية للرسل:{سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1]. {واذكر عبدنا إبراهيم} [ص: 45]. {واذكر عبدنا أيوب} [ص: 41]. وهذه أخص من التي قبلها، قوله تعالى:{وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]. من العامة أو الخاصة؟ من العامة، يعني لا يظلم هؤلاء ولا هؤلاء.
"ما من عبد يصوم" من العبودية الخاصة، لماذا؟ لأن غير المؤمن لا يصح منه الصوم، فإنه لا تجتمع العبادة مع الكفر، بل الكفر إذا ورد على العبادة واستمر إلى الموت أبطلها، كما قال تعالى:{ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} [البقرة: 217].
وقوله: "يومًا في سبيل الله"، "يومًا" هذه مفعول به لوقوع الفعل عليه، والمفعول فيه هو الذي يقع فيه الفعل، نقول مثلًا:"زارني يومًا واحدًا" هذه مفعول فيه يعني: زارني في يوم، أما
"صمت يومًا واحدًا" فإن اليوم يصام كما تقول: صمت شهرًا، قال الله تعالى:{فصيام شهرين} صارت مضاف إليه، فهناك فرق بين المفعول به والمفعول فيه؛ المفعول فيه هو الذي يقع فيه الفعل، والمفعول به هو الذي يقع عليه الفعل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "في سبيل الله" هل المراد في شريعة الله، أو المراد في سبيل الله، أي: في الجهاد في سبيل؟ يحتمل المعنيين، يحتمل:"في سبيل الله"، أي: في شريعة الله، ويكون في هذا تنبيه على الإخلاص والمتابعة؛ لأن العمل لا يكون في سبيل الله إلا إذا جمع بين الإخلاص والمتابعة، ويحتمل أن يكون المراد:"في سبيل الله"، أي: في الجهاد في سبيل الله؛ لأن الصوم في هذه الحال دليل على قوة رغبة الإنسان فيه فيمتاز بزيادة الأجر، كما كونه يقع خالصًا لله متبعًا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي مكان وفي أي زمان، فهذا شرط للعبادة.
على كل حال: حتى لو لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: في سبيل الله، فإن من صام لا في سبيل الله، لا أجر له، فالذي يظهر أن المراد: في سبيل الله، يعني: الجهاد في سبيل الله؛ لأنه إذا أطلق الصوم الشرعي فهو الذي يكون في سبيل الله وحينئذ يكون التقييد ضعيفًا، أما إذا قيدناه فإنه لابد أن يفيد معنى قويًا مفيدًا أكثر من الإطلاق، وهو الظاهر أنه في سبيل الله، أي: في الجهاد في سبيل الله، ولكن يشترط لذلك ألا يكون مخالفًا للشرع، فإن كان مخالفًا للشرع فلا شك أن الإنسان لا ينال به أجرًا كما لو كان الصوم يضعفه عن القتال فحينئذ لا يصوم، ولهذا لما كان المسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح رغبهم في الفطر؛ فمنهم من أفطر ومنهم من صام، ولما نزلوا المنزل الذي يلاقون فيه العدو من عنده قال لهم:"إنكم لاقوا العدو غدًا والفطر أقوى لكم فأفطروا"، فأمرهم بالفطر وعلَّل ذلك بأنه أقوى، وعلى هذا فإذا كان الإنسان في القتال فالمشروع له أن يفطر، وحينئذ لا يمكن أن يرغب الشرع في أمر يطلب من المسلمين أن يدعوه إذن كيف يكون مجاهدًا في سبيل الله ويصوم هذا اليوم الذي فيه الأجر العظيم مع أنكم تقولون: لا يصوم وقت ملاقاة العدو؟ يمكن أن يكون مرادفًا، يمكن أن يكون إلى الآن لم يلتحم القتال يصلح ويستعد والصوم لا يشقُّ عليه فهذا أمر ممكن.
وقوله: "إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار""باعد" من البعد؛ لأن الذنوب هي سبب دخول النار؛ فإذا بوعد بينه وبين النار هذه المدة دلَّ ذلك على أنه قد كفِّر عنه سيئاته.
وقوله: "سبعين خريفًا"، "سبعين" هذه نائبة مناب الظرف، و"خريفًا" تمييز؛ لأنها مبينة لنوع