الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه، إما للمتصدقين إذا اقتدوا بهذا المتصدق وإما للمتصدق عليه إذا أعطاه الناس كما أعطاه هذا الرجل، وإلا فإن الأصل هو الإخفاء.
فضل صدقة التطوع:
601 -
وعن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتَّى يفصل بين النَّاس". رواه ابن حبان والحاكم.
"كل" هذه من ألفاظ العموم، و"امرئ" نقول فيها مثل ما قلنا في "رجل" السابقة؛ يعني: كل امرئ وامرأة.
"في ظل صدقته" يحتمل أن يكون المراد بالظل هنا: الحماية، يعني: أن الله تعالى يحميه من أجل الصدقة، ويحتمل أن يكون ظلًا حقيقيا، بمعنى: أن الصدقة تجعل كالظل على رأسه، أيهما أولى؟ الثاني أولى؛ لأن الحقيقة هي الأصل، والصدقة قد تكون ظلًا، فإن الله- سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل المعاني أعيانًا والأعيان معاني، فهذه الصدقة وإن كانت عملًا مضى وانقضى وهو فعل من أفعاله، لكن المتصدق به شيء محسوس قد يؤتى به يوم القيامة بصفة شيء محسوس، بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو غمامتان، أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة، فهذا القرآن كلام الله عز وجل وهو فعل القارئ ومع ذلك يجعل الثواب كأنهما فرقان من طير صواف، فهذه الصدقة يجعلها الله تعالى شيئا محسوسًا يظل صاحبها.
وحدثني وأنا صغير رجل يقول: إنه كان بخيلًا ولا يأذن لامرأته أن تتصدق بشيء من ماله فنام نومة، فرأى في المنام كأنه في يوم القيامة، وكأن الشمس قريبة من الناس، والناس يموج بعضهم في بعض، ومشقة شديدة، يقول: فجاء شيء مثل الكساء ظلل عليه، لكن فيه ثلاثة خروء تدخل منها الشمس، يقول: فرأى كأن شيئا يشبه التمرات ثلاث تمرات جاءت وسدت هذه الخروء، فانتبه ولما انتبه فإذا هو قد تأثر من الرؤيا فحكاها على زوجته، وكان هو بخيلًا، قال: رأيت كلا وكذا قالت: نعم، الذي رأيته حق: إنه جاءنا فقير، وإني أعطيته ثوبًا من عندنا، وجاء بعده فقير فأعطيته ثلاث تمرات، الثوب هو الكساء الأول والتمرات هذه الشقوق الثلاثة جاءت هذه التمرات فرقعتها، وهذا الحديث الذي معنا يشهد لصحته.
ففي هذا الحديث دليل على فضيلة الصدقة، وعلى أنها تكون يوم القيامة ظلًا لصاحبها، وأنها تكون ظلًا في جميع يوم القيامة حتى يفصل بين الناس.
وفيه دليل على: إثبات يوم القيامة، وعلى الحساب والجزاء لقوله:"حتى يفصل بين الناس"، وما الذي يقضى فيه أولًا؟ أول ما يقضى بين الناس في الدماء، وأول ما يحاسب عليه الإنسان من حقوق الله الصلاة.
وقوله: "حتى يفصل" هل المراد: الحكم بين الناس بين المعتدي والمعتدي عليه، أو الفصل بين الناس حتى في تمييزهم فريق إلى الجنة وفريق إلى النار؟ الأخير؛ لكنه ملازم للأول.
602 -
وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أيّما مسلم كسّا مسلمًا ثوبًا على عري؛ كساه الله من خضر الجنَّة، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنَّة، وأيُّما مسلمٍ سقى مسلمًا على ظمأٍ سقاه الله من الرَّحيق المختوم". روا أبو داود، وفي إسناده لينٌ.
"اللين" أعلى من الضعف؛ يعني: لا يصل إلى درجة الحسن، ولا ينزل إلى درجة الضعيف.
قوله: "أيما مسلم كسا"، "أيما" هذه أداة شرط، "أي" أداة شرط مبنية على الضم، و"ما" زائدة، وممكن أن نقول:"أي" مبتدأ مرفوع بضمة ظاهرة؛ لأنها معربة هنا هذا هو الظاهر.
وقوله: "مسلم" نقول: "أي" مضاف، و"مسلم": مضاف إليه، وفعل الشرط:"أيما مسلم كسا"، وجواب الشرط:"كساه الله".
قوله: "أيما مسلم" خصه بالمسلم؛ لأن غير المسلم وإن كسا غيره فلا يستفيد من هذا؛ لأن الله يقول: {وما منعهمّ أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله} [التوبة: 54]. ولهذا أجمع العلماء على أنه من شرط صحة العبادة وقبولها أن تكون من مسلم فالإسلام شرط لجميع العبادات، والردة إذا بقيت إلى الممات تحبط جميع الأعمال، وأما خضر الجنة هي ما ذكره الله تعالى:{عليهم ثياب سندسٍ خضرٌ} [الإنسان: 21]. يعني: من السندس الأخضر، واللون الأخضر لون يريح النظر ويسر النفس؛ ولهذا كانت عامة النباتات من اللون الأخضر، والله عز وجل يقول:{وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} [ق: 7]. فلا شك إن الأخضر ترتاح له العين أكثر.
وقوله: "على عري"؛ لأن هذا هو موطن الحاجة إذ إنه إذا كساه على كسوة، فإن هذا فيه إحسان إليه، لكن ليس فيه دفع لضرورته بخلاف ما إذا كساه على عري.
وقوله: "أيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع" يعني: وجد إنسانًا جائعًا فأطعمه، "فإن الله يطعمه من ثمار الجنة"، وثمار جمع ثمرة، وهو ما يوجده الشجر، ومعلوم أن الجنة فيها أنواع متنوعة من الثمرات، قال الله- تبارك وتعالى:{فيهما من كل فاكهة زوجان} [الرحمن: 52].
وقال في الجنتين الأخريين: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} [الرحمن: 68]. فإذا أطعمت مسلمًا على جوع، فإن الله يطعمك من ثمار الجنة.
"وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم"، "الرحيق" معناه: الخالص الصافي من كل شيء، ومعلوم أن أنهار الجنة أربعة أنهار:{فيها أنهار من ماء غير أسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. و"المختوم" بيَّن الله عز وجل بماذا هو مختوم فقال: {ختامة مسك وفى ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26].
ففي هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: فضيلة كسوة المسلمين، وإطعامهم، وإسقائهم، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الجزاء حقًا وترغيبًا.
وفيه أيضًا: إثبات الجزاء لقوله: من فعل كذا فعل الله به كذا.
وفيه أيضًا: أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن الأول كسا فكسي، أطعم فأطعم، سقى فسقى.
وفيه أيضًا: إثبات الجنة، هذا أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام، وهي الآن موجودة لقوله تعالى:{أعدت للمتقين} [آل عمران: 133]. وستبقى دائمًا، فإنها منذ خلقت لا تفنى، وكذلك النار منذ خلقت لا تفنى.
وفيه أيضًا: إثبات الأفعال الاختيارية للعبد لقوله: "كسا، وأطعم، وسقى"، ولولا أنها اختيارية ما حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ولا كان للجزاء عليها فائدة.
وفيه أيضًا: أن هذه الأعمال لا تنفع إلا إذا كان الإنسان مسلمًا لقوله: "أيما مسلم" فإن وقعت هذه الأعمال من الكافر لن تنفعه، ولكن هل يجازى عليها؟ نعم، قد يجازى عليها في الدنيا فيوسع له في الرزق ويكشف عنه السوء، ويشفى من المرض وما أشبه ذلك، أما في الآخرة فلا حظ له فيها.
وقوله: "وأيما مسلم سقى مسلمًا" هل يؤخذ منه أن هذا الثواب لا يكون إلا إذا كان المنعم عليه مسلمًا؟ الجواب: نعم؛ لأن الإنعام على المسلم خير من الإنعام على غير المسلم، ولكن هل في الإنعام على غير المسلم أجر؟ الجواب: نعم؛ إلا الكافر الحربي فالإنعام عليه يكون بدعوته للإسلام وإلا يقتل، فأما الذمي والمعاهد والمستأمن، والحمار، والكلب، والبعير وما أشبه ذلك ففيه أجر، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن امرأة رأت كلبًا يلهث من العطش فنزلت وملأت خفها من الماء حتى شرب فغفر الله لها؛ لأنها سقت هذا الكلب على ظمأ، قيل: يا رسول الله، هل لنا في البهائم أجر؟ قال:"في كل ذات كبد حراء أجر".