الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجواب: لا مانع لكن المعروف عند أهل العلم أنها لا تقصر إلا بهذا المقدار وهو قدر أنملة.
مسألة حكم قص المرأة لشعر رأسها
؟
وهنا نستطرد لنبحث هل يجوز للمرأة أن تقص شعر رأسها أو لا يجوز؟
نقول: هذا على نوعين: نوع لا يجوز، ونوع اختلف في حكمه، النوع الذي لا يجوز: أن تقص رأسها حتى يكون كرأس الرجل، هذا حرام؛ لأنه من باب التشبه بالرجال، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبِّهات من النساء بالرجال، وكذلك أيضًا لو قصته على وجه يشبه قصّ الكافرات بحيث لا يميز بين هذا القص وقص الكافرات فإن هذا لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من تشبه بقوم فهو منهم". أما إذا قصته على وجه يشبه قص العاهرات، فهذا لا شك أنه منهي عنه، والعلماء حذروا منه؛ لأن بعض الفاسقات العاهرات يكون لهن زيٌّ معين في الشعر، فإذا قصته على هذا الوجه وإن لم تكن هي عاهرة فإن العلماء نهوا عن ذلك نهيًا شديدًا يقرب من التحريم هذا نوع.
النوع الثاني: أن تقصه على وجه لا يشبه ذلك، أي: لا يشبه رءوس الرجال ولا رءوس الكافرات ولا رءوس العاهرات، فاختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال:
قول بالتحريم، وهو قول صاحب المستوعب من أصحاب الإمام أحمد، وقالوا: إن هذا شهرة؛ لأن المعروف من عادة النساء ألا يقصصن رءوسهن، فإذا قصت صار شهرة، والشهرة منهيّ عنها.
وقال بعض العلماء: إنه مكروه، ووجه ذلك: أنه يفوت جمال المرأة الداعي إلى رغبة الزوج فيها، فلا ينبغي أن تفعل.
والقول الثالث: أنه لا بأس به؛ لأن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته كن يفعلن ذلك يقصصن رءوسهن، ولو كان حرامًا أو مكروهًا لم يفعلنه.
وعلى كل حال: لا تجد في الواقع دليلًا واضحًا لا على التحريم ولا على الكراهة، ولكن الذي يخشى منه أنه إذا رخص للنساء في ذلك صرن يتلفقن كل جديد يأتي من الخارج من غير تمييز بين الصالح والفاسد، والمرأة إذا فتح لها الباب لقلة عقلها ونقص دينها لم يبق لها حاجز يمنعها من أن تتلقى كل ما يرد من خير وشر، وهذا هو الواقع الآن، ولهذا تجد النساء يعتدن أشياء لا تمتُّ إلى اللباس الشرعي بصلة، منها ألبسة النعال وكذلك بعض القمصان وما أشبهها، كل ذلك من أجل أنها تتلقى وتتلقف ما يرد إليها من غير حاجز، ولاسيما وأن كثيرًا من
الناس أصبحوا الآن في بيوتهم كالنساء، بل أدنى من النساء، تسيطر عليه المرأة وهي قوامته، عكس ما عليه الفطرة والشرع من أن الرجل هو القوّام على المرأة.
إذن نقول: قص شعر المرأة نوعان: نوع حرام ونوع ليس بحرام، لكن فيه خلاف، قال لي بعض الإخوة: إنما ثبت في الصحيح من حديث معاوية رضي الله عنه أنه أخذ قصة من شعره وهو على المنبر يخطب الناس وقال: إنما هلك بنو إسرائيل من أجل اتخاذ نسائهم هذه، ورفع هذه وقال: إن هذا الدليل على تحريم ما يسمى عند النساء بالقصة، وهي أن تقص مقدم الرأس لكن يحتاج هذا إلى بحث.
الرخصة في ترك المبيت بمنى للمصلحة العامة أو للعذر:
735 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن العبَّاس بن عبد المطَّلب رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منًى، من أجل سقايته، فأذن له". متفق عليه.
العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان يتولى سقاية الحاج ماء زمزم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السقاية فيهم، حتى إنه لما نزل في يوم العيد وشرب قال:"انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم". يعني: لولا أن يتبادر الناس إلى السقاية لأنني نزعت الدلو معكم فيتخذها الناس عبادة، والعبادة لا تختص بأحد دون أحد، لولا ذلك لنزعت معكم، كان رضي الله عنه يتولى سقاية الحاج فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة من أجل سقايتهم؛ لأنه يريد أن يسقي الناس ليلًا ونهارًا فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم.
فيستفاد من هذا الحديث: أولًا: مشروعية المبيت بمنًى ليالي أيام منى وهي الحادي عشرة والثاني عشر والثالث عشر لمن تأخر، وهذا متفق عليه بين العلماء، ولكن هل المبيت واجب يأثم الإنسان بتركه ويلزمه دم بذلك، أو ليس بواجب؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنه واجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بمنى وقال للناس:"خذوا عنِّي مناسككم"، ثانيًا: لأن العباس استأذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له ولو لم يكن واجبًا ما احتاج إلى الاستئذان. ثالثًا أنه داخل في عموم قوله تعالى: {واذكروا الله في أيامٍ معدودات} [البقرة: 202]. فإن ذكر الله يكون بالقول ويكون بالفعل وهو المبيت، ومن العلماء من قال: إنه سنة،
واستدل لذلك بأنه مراد لغيره، فإن المقصود الأعظم هو رمي الجمرات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما جعل الطّواف بالبيت وبالصفا والمرة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله"، ولم يقل: والمبيت بمنى؛ لأن الأصل براءة الذمة وعدم التأثيم بالترك.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، فمن المعلوم أن هذا الحديث ليس على عمومه بالاتفاق وإلا لوجبت الإشارة إلى الحجر الأسود ووجب الرمل ووجب الاضطباع وغير ذلك من الأشياء التي ليست بواجبة، وأما استئذان العباس فلا يمتنع أن يستأذنه في ترك مستحب، فيقول: ائذن لي وإن كان ليس بواجب"، ولكن الذي يظهر وجوب المبيت في منًى، وأنه لا يجوز للإنسان أن يدع المبيت، ولكن ما مقدار الواجب منه؟ قال العلماء: مقدار الواجب منه أن يبيت معظم الليل من أوله أو من آخره فإذا وصل إلى منى مثلًا من مكة وهو في مكة طول النهار ووصل إلى منى قبل منتصف الليل بساعة وبقي إلى الفجر يكون أتى بالواجب؛ لأنه بقي معظم الليل، ولو بقي في منى إلى ما بعد منتصف الليل بساعة مثلًا أجزأه؛ لأنه بقي في منى معظم الليل.
وإذا قلنا: بالواجب فهل يلزمه دم بترك ليلة أو بترك الليلتين جميعًا أو بترك الثلاث إن تأخر؟
نقول: لا يلزمه دم بترك ليلة، إنما يلزمه الدم بترك الليلتين إن تعجل أو الثلاث إن تأخّر، فأما إذا ترك ليلة واحدة فلا يلزمه دم، لكن قيل: لا يلزمه شيء، لأنه لم يترك الواجب كاملًا، إذ الواجب المبيت هذه الليالي، فإذا ترك ليلة لم يلزمه الدم؛ لأنه لم يترك الواجب كله وهو لا يتجزأ، وقيل: يلزمه أن يتصدق بشيء، أي شيء يكون مدًّا من طعام أو قبضة من طعام أو أي شيء، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وأما أن يلزم بدم مع أنه لم يدع الواجب كله فلا وجه له.
إذا قلنا: بالوجوب فهل يسقط هذا الواجب عن أحد؟
نقول: إن الإنسان إذا تركه للتشاغل بمصالح الناس [في الحج] فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعباس أن يدع المبيت من أجل السقاية، وأذن للرّعاة الذين يرعون إبل الحجاج أن يدعو المبيت أيضًا، لأنهم يشتغلون بحاجة عامة، ومثل ذلك في وقتنا الحاضر -جنود الأمن أو جنود تيسير الحجاج، ومن ذلك أيضًا الأطباء الذين يتلقون المرضى في المستشفيات فإنه يسمح لهم في ترك المبيت وكل من يشتغل بمصلحة عامة يعذر في ترك المبيت قياسًا على السقاية
وعلى الرعاة أيضًا، فإن كان لمصلحة خاصة مثل أن تضيع بعيره فيخرج من منى يطلبها، أو يضيع ولده مثلًا فيخرج من منى يطلبه، أو يكون مريضًا يحتاج إلى أن ينتقل إلى المستشفى خارج منى فهل يلحق بهذا أو لا؟ قال بعض العلماء: إنه يلحق؛ لأن هذا عذره عام وهذا عذره خاص، وقد تكون الضرورة في العذر الخاص أشد، وقال بعض العلماء: لا يلحق، وذلك لأن من يشتغل بالمصلحة العامة لا يشتغل في الواقع لنفسه إنما يشتغل لغيره، ولهذا يرخًّص للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يدع صلاة الجماعة ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يرخص للإنسان على وجه الانفراد إلا بعذر يبيح ترك الجماعة، ولكن الذي يظهر أن الشارع يخفف في هذا الواجب؛ لأنه ما دام أذن للرعاة والغالب أن الراعي يشتغل بأجرة، فيكون لمصلحته فالظاهر أن الشارع يرخص في هذا الشيء ويسهل فيه، فإذا كان لإنسان عذر خاص من مرض أو غيره فإنه يعذر في ترك المبيت ولا شيء عليه، ولو فرض أن رجلًا نزل للطواف ولم يتمكن من الوصول إلى منى إلى بعد منتصف الليل إن كان لعذر فلا بأس يسقط عنه، وإن كان لغير عذر فلا يسقط عنه يعني: مثلًا رجل انتهى من الطواف والسعي وركب السيارة لكن نظرًا لزحام السيارات ما وصل إلى عند طلوع الفجر هذا لا شيء عليه؛ لأنه معذور ثم كما قلنا قبل قليل الليلة الواحدة ليس فيها شيء؛ يعني: ليس فيها فدية.
فائدة:
لو وكل رجلًا ليرمي عنه لا يخرج حتى يرمي وكيله إلا إذا كان سيقع عليه ضرر مثل أن تكون الطائرة سيلحقها ولو تأخر الطائرة التي تليها ستقلع بعد شهر وسيقع عليه ضرر كثير، فهذا كالمحصر بمعنى: أنه يذبح هدي عن ترك الرمي والوداع، وأما المبيت فهو ليلة واحدة يطعم عنها، مع أن الوداع لو وداع في هذه الحال قد يقال: إنه يسقط عنه دم الوداع.
كنا قد تكلمنا عن الرمي والحلق والطواف، أم الرّمي والحلق فدليله عرفتموه، وأما الطوف فليس فيه دليل من السُّنة، لكن قالوا: إنه لما كان له تأثير في الحلّ الثاني فإنه له تأثير في الحل الأول، الحل الثاني كيف؟ لأنه إذا رمى وحلق حلّ التحلل الأول؛ فإذا طاف وسعى حلّ التحلل الثاني؛ إذن فللطواف تأثير في الحلّ، فلما كان له تأثير في الحل قلنا: إنه إذا فعله مع الرمي أو مع الحلق فإنه يحل التحلل الأول هذا وجهه، ومع هذا فإنه ينبغي ألا يحل حتى يرمي ويحلق إتباعًا للنص، لكن لو أفتى مفت بذلك بناء على هذا القياس لم يكن بعيدًا، ولكن
الأولى المحافظة على ما جاءت به السنة فيما مر علينا، أيضًا أنه يجوز للإنسان المشتغل بما ينفع عامة الناس أن يدع المبيت بمنًى؛ لأنه قيل: إنه سنة، والراجع أنه واجب، ما دليله؟
736 -
وعن عاصم بن عديٍّ رضي الله عنه: "أنًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النَّحر، ثمَّ يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثمَّ يرمون يوم النَّفر.". رواه الخمسة، وصحَّحه التِّرمذيُّ، وابن حبَّان.
قال: "رخص لرعاة الإبل" الرخصة في اللغة بمعنى: السهولة، وعند الأصوليين:"ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح"، ولو قالوا: ما ثبت على خلاف الأصل لمعارض راجح لكان أولى وأوضح وهو كذلك فهذا مرادهم، ومنه رخَّص في المسح على الخفين؛ لأنه على خلاف الأصل، والأصل هو الغسل، ومنه رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا، رخص بمعنى: سهل وأجاز من الأصل، والأصل التحريم في العرايا، وما هي العرايا؟ أن تبيع الرطب بالتمر؛ لأنه يشترط التماثل، والتماثل بين الرُّطب والتمر مستحيل.
المهم: أن الرخصة هي ما ثبت على خلاف الأصل لمعارض راجح، وهو السهولة، فهنا رخّص لهم أن يدعوا المبيت وترك المبيت بمنًى على خلاف الأصل؛ لأن الأصل هو المبيت.
وقوله: "لرعاة الإبل" جمع راع، وهم الذين يرعونها في أماكن النبات، والمراد بالإبل هنا: إبل الحجاج؛ لأن الحجاج في منى نازلون لا يحتاجون إلى إبلهم، والإبل تحتاج إلى الأكل فيذهب بها الرُّعاة إلى مواضع القطر والنبات لترعى.
"في البيتوتة عن منًى"، كان مقتضى التركيب أن يقول: في البيتوتة في منًى، لكن "عن منى" يحتاج إلى تأويل إما بـ "عن" وإما بالبيتوتة كما مر علينا - في هذا وأمثاله - أن علماء النحو اختلفوا هل التجوُّز في الحرف أو في الفعل الذي قبله يعني: في العامل الذي قبله، وقلنا: إن مذهب البصريين أن التجوز في العامل الذي قبله والكوفيين في الحرف، فمثلًا يقولون:"عن" هنا بمعنى: الباء؛ يعني: البيتوتة بمنى، أما البصريون فيقولون: إن البيتوتة بمعنى: النزوح؛ يعني: النزوح عن منى والبعد عنها، ومعلوم أنهم إذا نزحوا عن منى فلن يبيتوا فيها.
على كل حال: رخص لهم في أن يدعوا منى لا يبيتون بها ويبيتون مع إبلهم، لكن الرمي قال:"يرمون يوم النحر"، وهذا لابد منه؛ لأن الحجاج على رواحلهم يوم النّحر فلم يسلموها للرعاة، وليست الرعاة في حاجة إلى أن يؤجلوا رمي يوم النحر.
قال: "يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين"؛ يعني: يجمعون يوم الغد
وهو اليوم الثاني من أيام العيد واليوم الأول من أيام التشريق، "ليومين" يعني: لليوم الثاني عشر، إذن سيتركون المبيت ليلة إحدى عشر وليلة اثنى عشر والرمي يوم عشرة ما يرمون يؤجلونه إلى يوم الثاني عشر ثم يرمون يوم الغد؛ لأنهم إذا جاءوا يوم الثاني عشر ما يذهبوا للرعي؛ إذ إن من الناس من يتعجل فيحتاج إلى إبله، ومن الناس من يتأخر فلا يحتاج إلى إبله، وهؤلاء لا يذهبون خارج منى يرعون إبلهم، ولو كانوا يبقون في المرعى إلى يوم الثالث عشر لأخروا رمي الجمرات إلى اليوم الثالث عشر لكنهم يأتون اليوم الثاني عشر من أجل من يتعجل.
وفي هذا الحديث فوائد: منها: العناية بالرّواحل - الإبل - وألا تترك بدون رعي في هذه المدّة؛ لأن في ذلك تعذيبًا لها، وإيلامًا لها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كفى بالمرء إثمًا أن يضيعّ من يقوت". فلا يجوز للإنسان أن يحبس البهائم في مثل هذه المدة وإن كانت الإبل قد تصبر لكنها تصبر مع التحمل والمشقة، والله عز وجل أوجب علينا أن نرعى ما تحت أيدينا رعاية تامة.
ومن فوائد الحديث: شمول الشريعة الإسلامية، وأنها تلاحظ حتى البهائم العجم، وذلك بترخيص ترك هذه الشعيرة من أجل مراعاة هذه الإبل.
ومن فوائد الحديث: إن المشتغل بالمصالح العامة يسقط عنه وجوب المبيت في منًى؛ لأنه هؤلاء الرعاة سقط عنهم المبيت في منى لقوله: "أرخص"، والترخيص بمعنى: التسهيل، ولو لم يكن المبيت واجبًا لكان رخصة لهؤلاء ولغيرهم، لأن غير الواجب لا يلزم به الإنسان فهو في سهولة منه، إذن ضم هذا الدليل إلى ما سبقه من الأدلة الثلاثة، وربما يكون هذا الدليل أقواها في إفادة الوجوب.
ومن فوائد الحديث: وجوب رمي الجمرات، لأنه لم يسقط عن هؤلاء لإمكان قضائه، لكن المبيت لا يمكن قضاؤه، لكن الرمي فعل عمل يمكن قضاؤه، إذن فيستفاد منه: وجوب الرمي؛ لأنه لو لم يجب لقلنا: إنه سنة فات محلها بيومها فلا تقضى، ولكنه يجب قضاؤه.
ومن فوائد الحديث: منع الاستنابة في الرمي، ووجهه: أن الرسول صلى الله عليه ولسم لم يرخِّص لهم أن يستنيبوا غيرهم في الرمي عنهم مع أن الحاجة قد تكون داعية لذلك، ولو كانت الاستنابة جائزة في الرمي لأجازه النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فيتفرع على هذا فائدة أخرى وهي: خطأ أولئك القوم الذين يتساهلون في رمي الجمرات اليوم، فتجد الواحد منهم يقول: - وبكل سهولة - خذ يا فلان حصاي ارم بهن وإن كان قادرًا لكن جالس من أجل تناول الشاي، فنقول: هذا حرام.
وفيه أيضًا: بيان خطأ من يبيحون للنساء الاستنابة في الرمي مطلقًا؛ لأن الواجب لا يسقط
بهذه السهولة لا يسقط عن المرأة لأنها امرأة، وإلا لقلنا بسقوط طواف الوداع مع الزحام، ولكن نقول: إنه يجب على المرأة أن ترمي بنفسها، والزحام الذي يكون يمكن أن يلافاه الإنسان بتأخر الوقت بدلًا من أن يرمي عند الزوال يرمي بعد العصر، إن لم يمكن بعد المغرب، إن لم يمكن بعد العشاء؛ ولهذا لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لسودة والضعفاء أن يوكِّلوا من يرمي عنهم، بل أذن لهم أن يدفعوا قبل الفجر من أجل أن يرموا بأنفسهم.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز جمع رمي أيام التشريق، لكن تأخيرًا لا تقديمًا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهؤلاء أن يجمعوا تأخيرًا ولو كان تقديمًا لرموها يوم العيد لكن تأخيرًا.
ومن فوائده: أنه لا يجوز للقادر أن يؤخر يوم رمي إلى اليوم الذي بعده، وجه الدلالة: أنه قال: "رخص"، والترخيص يدل على أنه في غير هذه الحال ممنوع؛ لأن الترخيص خصّ بحالة معينة تقتضي التسهيل، وعلى هذا فلا يجوز أن نجمع أيام التشريق، أي: رمي أيام التشريق إلى آخر يوم بل نرمي لكل يوم في يومه، ومن ذهب إلى ذلك من أهل العلم فمذهبه ضعيف، لهذا الحديث؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي لكل يوم في يومه، ويقول:"خذوا عني مناسككم"؛ ولأنه أظهر في العبادة وأطيب للقلب، كيف ذلك؛ لأن الإنسان يتعبد لله تعالى بهذه العبادة كل يوم، وإذا جمعها فاتت عليه أن يتعبد لله تعالى بها كل يوم، وهذا أمر له شأن؛ لأن الشارع له نظر في أن يتعبد الناس لله عز وجل في الأوقات التي شرع لهم أن يتعبدوا لله فيها؛ وإلا لكنا نقول: تجمع الصلوات الخمس عند النوم وآخر اليوم ويكون عبادته لله تعالى في هذه الصلوات في آخر اليوم، لأجل أن يختم بها يومه، لكن نقول: للشارع نظر في أن تتوزع العبادات على الزمن حتى يبقى القلب عامرًا بهذه العبادة في اليومين أو الثلاثة مثلًا، إذا فجمعها مع مخالفته لهدي النبي صلى الله عليه وسلم يفوت به هذا المعنى العظيم وهو إشغال القلب بهذه العبادة في كل الأيام الثلاثة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن هذا الدين يسر، وإنه كلما وجد سبب التيسير حل التيسير، ولهذا قال صاحب النظم:
وكلُّ ما كلَّفه قد يسِّرا
…
من أصله وعند عارض طرا
على كل حال: إن كل شيء شرعه هذا الدين فهو ميسر من أصله، "وعند عارض طرأ" يعني: إذا وجد عارض يقتضي التيسير أكثر فإنه ييسره: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب"، هذا من التيسير بدلًا من أن يكلف الرعاة أن يأتوا فردا كل يوم يرموا رخَّص لهم أن يؤخروا.
وهل يقاس على الرعاة من يشبههم ممن يشتغلوا بمصالح المسلمين العامة كجنود المرود وجنود الأمن وجنود الإطفاء والمشتغلين بالبريد؟ نعم لا شك في هذا أنهم يلحقون بهم، فلهم أن يدعوا المبيت ولهم أن يجمعوا الرمي جمع تأخير في آخر يوم.
وهل يلحق بهم في تأخير الرمي من كان معذورًا بمرض أو نحوه مثل أن يصيب الإنسان زكام في اليوم الثاني ويؤخر لليوم الثالث؟ الجواب: نعم للمشقة، وما دمنا نعلم - والعلم عند الله - أن العلة في جواز التأخير لهؤلاء الرعاة هو المشقة، نقول: من شق عليه أن يرمي كل يوم في يومه فله أن يؤخر.
مسألة الاستنابة في الرمي وضوابطه:
ماذا يصنع من لا يستطيع أن يرمي أبدًا؟ قال بعض العلماء: إنه يسقط عنه الرمي؛ لماذا؟ قال: لأن الرمي واجب، والواجبات تسقط بالعجز عنها بنص القرآن:{لا يكلِّف الله نفسًا إلَّا وسعها} [البقرة: 286]. {فاتَّقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. فإذا عجز فإنه لا يلزمه، وقال آخرون: بل إذا عجز فإنه يستنيب، واستدلوا بأن الحج تجوز الاستنابة في جميعه عند العجز ففي بعضه أولى، المرأة التي جاءت للرسول وقالت:"إن أبي أدركته فريضة الله على عباده شيخًا كبيرًا أو يثبت على الراحلة فأحج عنه؟ قال: "نعم"؛ فإذا جاز في جميعه جاز في جزئه، ثانيًا: ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم رموا عن الصبيان، وهذا يدل على أن الاستنابة في الرمي عن العاجز عنه جائز، وهذا هو الأقرب أنه يجوز أن يستنيب؛ أي: أن يقيم نائبًا عنه في الرمي، وإذا قلنا بالجواز فهل نقول للنائب: ارم أولًا عن نفسك ثم اذهب إلى الخيمة وارجع لترمي عن صاحبك؟ لا، لا يجب؛ لأن السعي إلى الجمرات واجب لغيره لا واجب لذاته، وإذا كان واجبًا لغيره فهو وسيلة، فإذا حصل المقصود بدونه سقط.
ننتقل من هذه النقطة إلى نقطة أهم منها، وهي إذا وجب الحج على إنسان في القصيم فهل له أن يوكل أو أن يستنيب ممن يحج عنه من مكة أو لا؟ فيه خلاف، ولكن الأقرب للقواعد أنه يجوز؛ لأن سعي الإنسان من القصيم إلى مكة مقصود لغيره ليس مقصودًا أن تمشي؛ ولهذا لو سافرت إلى مكة لا للحج ثم بدا لك - وأنت هناك - أن تحج لا نقول: اذهب إلى القصيم وارجع حاجًا، نقول: حج من مكانك، إذن فالقول الراجح في المسألة الأخيرة: أن الإنسان يجوز أن ينيب عنه من يحج ولو كان ممن يسكن مكة؛ لأن السعي من مكان الوجود إلى مكة وسيلة مقصود لغيره، وعلى هذا نقول للرجل الذي استناب غيره ليرمي عنه: إن الذي استنبته إذا رمى عن نفسه فله أن يرمي عنك دون أن يرجع إلى مكان رحله.
وهل يلزمه أن يرمي الجمرات الثلاث عن نفسه أولًا ثم يرجع من الأولى لمن استنابه؟ فيه
خلاف؛ من العلماء من يقول: لابد أن يرمي الثلاث عن نفسه أولًا ثم يعود من الأولى لمستنيبه، وحجتهم في ذلك يقولون: إن رمي الجمرات الثلاث عبادة واحدة ليس كل واحدة عبادة مستقلة، والدليل لذلك: أنه يشرع الدعاء بين الأولى والوسطى والوسطى والثالثة وإذا رمى الثالثة لا يشرع الدعاء وهذا دليل على أنها عبادة واحدة يشرع الدعاء في جوفها لا بعد الانفصال عنها، إذن فلابد أن ترمي أولًا عن نفسك واحدًا اثنين ثلاثة ثم تعود وترمي عن موكلك، وعللوا أيضًا قالوا لأنه إذا رمى عن نفسه أولًا في الجمرة الأولى، ثم عن وكيله فاتت الموالاة؛ لأنه فصل بين رميه الأولى والثانية بالرمي عن صاحبه فأدخل عبادة في جوف عبادة فلا تصح، وقال بعض العلماء: بل يجزئ أن يرمي عنه وعن وكيله في مكان واحد، واستدلوا لذلك بظاهر فعل الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يرمون عن الصبيان، وظاهر النقل أنهم لا يرمون أولًا عن أنفسهم ثم يعودون؛ لأنهم لو كانوا يفعلون ذلك لبينوه ونقلوه، وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله يرى الرأي الأول ويفتي به، فأخبرته برأي شيخنا الثاني عبد العزيز بن باز واستدلاله بهذا الحديث فاستحسنه، على أنه يجوز أن يرمي الرجل عنه وعن موكله في مكان واحد في موقف واحد، لاسيما في مثل حال الناس اليوم في هذا الزحام الشديد المرير، فإن إلزام الناس بأن يكملوا عن أنفسهم ثم يرجعوا لموكلهم، وإذا كان قد وكلهم اثنان فإنهم يرجعون مرتين، إذا وكلهم ثلاثة يرجعون ثلاث مرات وهلم جرًّا فهذا فيه مشقة في هذه العصور، وكل شيء فيه مشقة لا ينبغي أن تلزم الناس به إلا بدليل، لابد من العمل به، فما دامت الأدلة متكافئة أو متقاربة والمسألة ليس فيها رجحان بيِّن فإلزام الناس بهذا العمل الشاق قد يتوقف فيه الإنسان؛ لأن الإنسان ليس له أن يمنع عباد الله بما أحله لهم ولا أن يلزمهم بما لم يلزمهم الله به إلا بدليل لأنك مسئول، العالم مسئول عن توجيه الناس كما أن الأمير الذي ينفذ ويؤدب، لو أن مسئولًا ضرب أحدًا ضربًا زائدًا عن المشروع فإنه سيسأل عنه عند الله، القاضي يجلد ثمانين لو قال: ضعوا واحدًا وثمانين سئل عنه أمام الله وكذلك أنت أيها العالم، لو قلت عن شيء أنه مستحب والأصل أنه واجب كم زدت من سوط؟ فالمسألة ليست سهلة؛ ولهذا نحن في الحقيقة نوجه أنفسنا أولًا وإخواننا طلبة العلم ثانيًا إلى أن يتثبتوا في مسألة الإلزام، ومسألة الاحتياط أو الاستحباب، هذا أمره أهون، لكن مسألة الإلزام تحليلًا أو تحريمًا أو إيجابًا، هذه مسألة تحتاج إلى شيء تثبت به قدمك عند الله إذا سألك يوم القيامة، بعض الناس تجده من شدة غيرته على دين الله يغلب جانب التحريم وبعض الناس لمحبته لتأليف الناس وعرض الدين عليهم ميسرًا تجده يتساهل ويقول: كل شيء زين دعوه يمشي هذا خطأ، الواجب أن تمشي على دين الله، وثق بأنك لو مشيت على دين الله تصلح فلن يصلح عباد الله إلا دين الله أبدًا مهما فكرت.