الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم أكل وبيع السمن الذي تقع فيه فأرة:
754 -
وعن ميمونة زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنَّ فأرةً وقعت في سمنٍ، فماتت فيه، فسئل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عنها. فقال: ألقوها وما حولها، وكلوه". رواه البخاريُّ.
- وزاد أحمد، والنَّسائيُّ:"في سمنٍ جامدٍ".
ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أو زوجة النبي؟ زوج هذا هو الأفصح، ولا يقال: زوجة إلا على لغة رديئة إلا في الفرائض فإن أهل العلم بالفرائض اصطلحوا على أن يعيِّنوا زوجة للأنثى وزوج للذكر.
قوله: "أن فأرة وقعت في سمن"، الفأرة معروفة وهي من الحيوانات الفاسقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"خمس فواسق، وأمر بإطفاء المصباح لئلا تعبث به الفويسقة"، فهي الفويسقة من جملة الفواسق، ولهذا سن قتلها مطلقًا سواء آذت أم لم تؤذ، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا قتلتم فأحسنوا القتلة"، فتقتل بما يكون أسرع إلى موتها بأي وسيلة كانت إلا بالنار، إلا إذا تعذر أن تقتل إلا في النار استعملت النار، مثل: لو دخلت في جحر ولم تخرج إلا بأن توقد النار حول الجحر فلا بأس، ويوجد الآن شيء تقتل به الفأرة صمغ تلزق فيه هذا لا بأس به لكن بشرط أن تلاحظها لئلا تحبسها فتموت فيخشى عليك أن تكون كصاحبة الهرة التي حبستها لا أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، فإذا استعملت هذا لإمساك الفأرة فعليك أن تتعاهده حتى لا تموت جوعًا أو عطشًا.
وقوله: "في سمن فماتت"، ظاهر الحال أن السمن مائع؛ لأنه لو كان جامدًا ما ماتت بل تبقى على سطحه وتخرج، ولهذا رواية أحمد والنسائي فيها نظر:"في سمن جامد" إلا أن يراد به جمودًا نسبيًّا فيمكن.
وقوله: "فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها"، أي: حال كونها واقعة في السمن ولا بد من هذا التقدير، وإلا لو كان صواب العبارة أن يقال:"فسئل عنه"، أي: عن السمن، لكن هو سئل عن الفأرة حال وقوعها في السمن ماذا يكون للسمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألقوها وما حولها وكلوا"، فأمر أن تلقى وما حولها وأن يؤكل السمن.
ثم قال: زاد أحمد والنسائي: "في سمن جامد"، وقوله:"في سمن جامد" فيه نظر؛ لأنه لا يوافق القصة؛ إذ إن الجامد لا تغيب فيه الفأرة ولا تكون، إلا أن يراد بالجامد: الجامد النسبي؛
بمعنى: أنه ليس كالماء لا هو مائع ولا هو جامد فإن أريد هذا فالأمر واضح، أما جامد كالحصى والحجر فهذا لا يستقيم.
نسأل لماذا جاء به المؤلف في كتاب البيوع مع أن المناسب أن يذكر في كتاب الأطعمة؟ يعني: أن هذا لا يمنع البيع؛ لأنه متى جاز بيعه جاز أكله، لأن الله إذا أباح شيئًا أباح ثمنه، وإذا حرم شيئًا حرم ثمنه.
أما فوائد الحديث: ففيه دليل على أن الفأر نجسة إذا ماتت لقوله: "ألقوها وما حولها"، ولو كانت ظاهرة لكانت تلقى بدون أن يلقى ما حولها، ودليل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إذا وقع الذُّباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه"، ولم يذكر أن الإناء أو الشراب يتنجس؛ لأن ميتة الذباب طاهرة، لماذا ميتته طاهرة وميتة الفأرة نجسة وكلها مما يطوف علينا؟ علل العلماء ذلك قالوا: لأن أصل نجاسة الميتة احتقان الدم النجس فيها، والذباب ليس له دم يحتقن فيه حتى يكون نجسًا، وأما ما له دم فينجس، ولا شك أن هذه علة مناسبة جدًّا للحكم؛ لأن الله قال:{قل لَّا أجد فى ما أوحى إلىَّ محرَّمًا على طاعمٍ يطعمه إلَّا أن يكون ميتةً أو دمًا مَّسفوحًا أو لحم خنزيرٍ فإنَّه رجسٌ} [الأنعام: 145].
ومن فوائد هذا الحديث: حرص الصحابة رضي الله عنهم واحتياطهم في أمور دينهم؛ لأنهم لم يتعجلوا فيرقوه ولم يتعجلوا فيأكلوه حتى يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي الاستحياء من أمور العلم، فتقول: هذه الفأرة لا أسأل عنها، أنا أكرم هذا الرجل عن السؤال عن الفأرة؛ لأن أكرم من يستحق الإكرام من البشر الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك سألوه عن الفأرة، هل نأخذ منها أنه لا يقال للإنسان إذا سئل عما يستقبح "تكرم؟ " قد يكون قالوا، وقد يكون لم يقولوا ذلك، لكن الظاهر أن الصحابة لا يستعملون هذه الكلمة، فهل نقول: إن استعمالها بدعة وأنه لا ينبغي أن يستعملها الإنسان، أو نقول: إن هذه مما يرجع إلى العرف؟ الظاهر الثاني؛ لأن هذه ليست عبادة، فإذا جرى العرف بين الناس في استعمال هذه الكلمات فلا بأس.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الفأرة إذا وقعت في السمن، فإنها تلقى وما حولها ويكون الباقي طاهرًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ألقوها وما حولها وكلوه"، وجه الدلالة: إما أن نقول تقول: إن هذا هو ظاهر القصة؛ لأنه لو كان جامدًا ما ماتت بسقوطها فيه، أو يقال: وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل ولم يقل: أجامد هو أم مائع؟ فلما لم يستفصل في مقام الاحتمال نزّل جوابه منزلة العموم في المقال، وجه ثالث: أن نقول: إن المدينة من البلاد الحارة غالبًا، وأن السمن لا
يجمد فيها إلى حد يكون كالحجر فلهذا لا يمكن أن نحمله على الجمود الكامل الذي يصل فيه إلى حد يكون كالحجر، وهذا الوجه أيضًا استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إن المدينة من الحجاز، والحجاز من البلاد الحارة.
ويستفاد من الحديث: أنه متى زال الأذى زال حكمه لقوله: "ألقوها وما حولها وكلوه"، فلما زال الأذى -أذى هذه الفأرة- بإلقائها وما حولها صار الباقي طاهرًا، ويتفرع على ذلك تأثير الأوصاف بموصوفاتها؛ لأنه إذا ألقيت وما حولها زال الوصف الذي من أجله يحرم هذا السمن.
وهل يؤخذ منه تنجس الشيء بالمجاورة؟ نعم يؤخذ منه الاحتياط في البعد عن النجاسة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: ألقوها واكتفى بالذي علق بها يلقى معها، ولكن قال:"ألقوها وما حولها"؛ لأنه يحتمل أن تكون النجاسة قد تمددت إلى ما حولها، إذا كان الإناء صغيرًا وصار الذي حولها يستوعب كل الإناء فيلقى كله، وفيه ردٌّ لقول من يقول: إن المائعات تنجس بمجرد الملاقاة ولو كثرت ولم تتغير؛ لقوله: "ألقوها وما حولها وكلوه"، ولو كان ينجس بالملاقاة كله ما حل منه شيء، والقول الذي أشرنا إليه وهو القول المرجوح هذا يؤدي إلى آثار كثيرة في الخلق ما تأتي بمثله الشريعة، لا أدري هل تعرفون ما يسمى بالخزانات أواني كبيرة وهي من النحاس -وأنا أدركتها-، يدخل فيها الرجل واثنين وثلاثة كانوا يستعملونها أواني للسمن يشتري الإنسان مثل القربة من السمن ثم يصبونه في هذا البرميل الكبير هذا البرميل الكبير الممتلاء لو يسقط فيه شعرة واحدة من كلب صار كله نجس على هذا القول وتجب إراقته ولا ينتفع به، ولهذا القول الراجح المطرد: أن ما لم يتغير بالنجاسة فليس بنجس سواء كان ماء أو مائعًا.
755 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعت الفأرة في السَّمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه". رواه أحمد، وأبو داود، وقد حكم عليه البخاريُّ وأبو حاتمٍ بالوهم.
هذا الحديث يقول: "إذا وقعت .... إلخ"، وفصَّل فقال:"إن كان جامدًا تلقى وما حولها، وإن كان مائعًا فإنه لا يقرب"، لكن هذا الحديث كما قال البخاري وهم، والصواب الحديث الأول:"تلقى وما حولها" فقط سواء كان جامدًا أم مائعًا، ثم إنه سبق لنا أن الجامد جمودًا تامًّا
لا تموت فيه الفأرة، والجامد جمودًا وسطًا بين المائع والجامد قد تموت فيه، لكن الصحيح أنها تلقى وما حولها ثم يؤكل السمن.
ويدل على ذلك أن هذا الحديث وهم؛ أنه قال: "إذا وقعت الفأرة في السمن"، ولم يقل: فماتت، ومعلوم أنها إذا خرجت حية فهي طاهرة؛ لأنها من الطوافين علينا ومما يشق التنزه منه، فهي لو سقطت مثلًا في ماء وهي حية وخرجت فالماء طهور وليس بنجس، وكذلك لو سقطت في سمن وخرجت حية فهو طاهر ولا يكون نجسًا.
ويدل على وهمه أيضًا أنه قال: إن كان مائعًا فلا تقربوه؛ يعني: فهو حرام، ولو أخذنا بظاهره لكان شاملًا للقليل والكثير وللمتغير وغير المتغير وإتلاف الكثير الذي لم يتغير بسقوط هذه الفأرة فيه إضاعة مال لا تأتي بمثله الشريعة، فهو في الحقيقة كلما تأملته وجدته وهمًا، وأن الصواب ما رواه البخاري في الحديث السابق، أنها إذا وقعت فماتت تلقى وما حولها، والباقي يؤكل ويستعمل.
756 -
وعن أبي الزُّبير قال: "سألت جابرًا عن ثمن السِّنَّور والكلب؟ فقال: زجر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك". رواه مسلمٌ.
- والنسائيُّ وزاد: "إلا كلب صيدٍ".
سؤاله لجابر بنفي ما يحتمل من التدليس؛ لأن أبا الزبير فيه تدليس يسير، لكن الظاهر أن كل ما رواه عن جابر في صحيح مسلم أو غيره من الكتب الصحيحة والمعتمدة فهو محمول على السماع.
يقول: "سألت عن ثمن السِّنَّور". ما هو السِّنَّور؟ السِّنَّور: القط، وهو معروف وبعضه أليف وبعضه وحشي، بعضه أليف يأتي إليك تمسكه وينام عندك وكذلك ينظف البيت من الحشرات، والفأرة والصارور والوزغ وغير ذلك، وبعضه غير أليف كما هو معروف بعضه يكفأ القدر ويأكل الحمام، وكان قديمًا يأكل عندنا ولا أدري في البلاد الأخرى، كان بالأول يأكل الدجاج، أما الآن فيأكل مع الدجاج، على كل حال: هذا السِّنَّور سئل جابر عن ثمنه فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن ذلك، والزجر: النهي بشدة، والكلب سبق لنا أيضًا الكلام فيه ولا حاجة إلى إعادة الكلام.
يقول: "زجر عن ذلك"، أي: عن ثمن السِّنَّور والكلب.
وعلى هذا فيستفاد من هذا الحديث: تحريم بيع السِّنَّور، وظاهره أنه لا فرق بين الأليف والوحشي، ولا بين الأليف النافع والأليف غير النافع للعموم، وهذه المسألة اختلف فيها أهل
العلم على قولين؛ فمنهم من يقول: إن الهر إذا انتفع به وصار نافعًا فلا بأس ببيعه؛ لأنه ذو نفع مباح، وكل ذي نفع مباح فإن القاعدة الشرعية إباحة غيره بمفهوم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه"، فمفهومه إذا أباح شيئًا أباح ثمنه، ولا يلزم من تحريم الأكل تحريم البيع، فهاهو الحمار محرم الأكل ومع ذلك مباح البيع إذا بيع لينتفع به، فإذا كان في هذا الهر نفع واضح مثل الذي أشرنا إليه من قبل، بأنه يأكل الحشرات ويطرد الهوام، فهذا لا بأس ببيعه من أجل منفعته، وليس مما نهي عن اقتنائه حتى نقول: إنه كالكلب، بل هو مما أبيح اقتناؤه، وأما إذا كان غير أليف ولا نافع فإن بيعه لا يجوز؛ لأن ذلك إضاعة مال وهذا هو رأي الجمهور أنه يجوز بيعه إذا كان ينتفع به، وحملوا الحديث على النوع الثاني: وهو الذي لا ينتفع به كأن يكون وحشًا؛ لأن الوحش لا يجوز بيعه لعدم الانتفاع به ولعدم القدرة على تسليمه؛ لأنه كالجمل الشارد وكالعبد الآبق، لا يتمكن من تسليمه إلى المشتري، وهذا القول الذي هو قول الجمهور قول قوي جدًّا.
ويحمل الحديث على ما حملوه عليه من أن المراد بالسِّنَّور الذي لا فائدة فيه، ولكن مع هذا نقول: الاحتياط للإنسان ألا يبيعه، بل إذا كان عنده هرة وانتهت حاجته منها وطلبها منه أحد فإنه يسلمها له بدون ثمن، والذين منعوا من بيعه استدلوا بعموم الحديث، واستدلوا أيضًا بأن هذا من الأشياء التي لا يؤبه لها والتي توجد كثيرًا في الناس، فهي تشبه الماء الذي نهى النبي عن بيعه، فإن الهرة جرت العادة بأنه يقتنى اقتناءً كاقتناء الغنم بحيث يبقى عند الإنسان يتوالد عنده ويحرص عليه، بل إذا وجد سنور صار يؤلفه حتى يتألف، فرأي الجمهور قوي لكن مع ذلك الأحوط أن يدع بيعه، أما الكلب فقد سبق.
وفي الحديث: دليل على جواز الإجابة بالدليل، من أين يؤخذ؟ من قوله:"زجر"، ولم يقل: هو حرام.
وهل هذا أولى، أو الأولى أن يذكر الحكم ثم دليله، أو يختلف باختلاف المخاطب؟ الأخير، يعني: باختلاف المخاطب، إذا كان المخاطب يعرف الحكم من الدليل فلا حاجة إلى ذكر الحكم ثم سياق الدليل، لا حاجة إلى ذلك؛ لأنه ليس فيه إلا التطويل، وأما إذا كان لا يفهم، أو أردت أن تعلمه بأنه إذا ذكر الحكم فليقرن به الدليل، فهنا الأفضل أن تذكير الحكم ثم تذكر الدليل، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل يذكر الحكم ثم يذكر الدليل مما قال صلى الله عليه وسلم:"ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار"، قال: يا رسول الله، أفندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأما أهل السعادة فييسَّرون لعمل