الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم الحج عن الغير:
681 -
وعنه رضي الله عنه قال: "كان الفضل بن عباس رضي الله عنه رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاءت امرأةٌ من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وجعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشِّقِّ الآخر. فقالت: يا رسول الله، إنَّ فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الرَّاحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجَّة الوداع"(). متَّفقٌ عليه، واللفظ للبخاريِّ.
"الفضل"، أكبر من عبد الله قوله رديف أي: فعيل بمعنى فاعل؛ أي: رادفه، أي: راكب معه على الناقة، قوله:"جاءت امرأة" هذه مبهمة، ولا يهمنا أن تكون مبهمة أو معينة؛ لأن المقصود هو القضية "فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه"، "جعل" هذه من أفعال الشروع ذكرها ابن مالك في باب أفعال المقاربة، وقوله:"ينظر إليها وتنظر إليه" هل إليها إلى جسمها أو إلى وجهها؟ يحتمل أن المراد: إلى وجهها، وأن المراد: إلى ذاتها يعني: جسمها وهيئتها؛ لأن المرأة ينظر إليها من الناحيتين، والأجسام تختلف في النساء: فيهن الطويلة والقصيرة والعريضة والمتوسطة والدقيقة .... وهكذا.
وقوله: "وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشّق الآخر"، أي: إلى الجانب الآخر، كلما نظر صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجانب الآخر، وقولها:"إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا" يعني: الآية أو النص الذي فيه الفريضة حصل بعد أن بلغ والدها الشيخوخة، وقولها: - "أفأحج عنه؟ "، يعني: حجة الفريضة، قال:"نعم" يعني: حجي عنه.
هذا الحديث كما رأيتم في حجة الوداع، وحجة الوداع هي الحجة التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم آخر عمره ولم يحج قبلها بعد هجرته، وهل حج قبل الهجرة؟ هناك حديث رواه الترمذي بسند فيه نظر أنه حج مرتين ()"، والظاهر أنه حج عدة مرات؛ لأن المعروف في السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الموسم - موسم الحج - فيعرض نفسه على القبائل ويدعوهم إلى الله عز وجل، وسميت حجة الوداع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"، وهذا كالمودع للناس؛ ولهذا لم يبق بعدها النبي صلى الله عليه وسلم إلا مدة وجيزة حتى توفاه الله عز وجل.
هذا الحديث يقول: أن الفضل كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حين دفع من مزدلفة إلى منى يوم العيد، والنبي صلى الله عليه وسلم أردف في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد، وأردف في دفعه من مزدلفة إلى منى الفضل بن العباس، وهؤلاء ليسوا من كبار القوم أسامة ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
زيد بن حارثة، فلم يختر النبي صلى الله عليه وسلم أشراف القوم ووجهاءهم أن يكونوا هم الذين يردفونه على ناقته، بل اختار من صغار القوم في السن، واختار المولى يردفه من عرفة إلى مزدلفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعتد بالمظاهر ولا تهمه، بل كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يكون في أخريات القوم يتفقدهم، يعني: ليس هو الأول، بل يكتفي أن يكون الأخير حتى يتفقد أصحابه وينظر من يحتاج إلى أمر.
وقصة جابر في جمله () واضحة، فإن جابر بن عبد الله كان معه جمل ضعيف لا يمشي، يقول: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فضربه ودعا فسار الجمل سيرًا لم يسر مثله قط، حتى صار الجمل يكون في مقدمة القوم وجابر يرده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أتبيعني إياه؟ "، كان في الأول يريد أن يتركه قال: نعم، قال:"بعنيه بأوقية"، كم الأوقية؟ أربعون درهمًا، قال: لا، فقال:"بعنيه" فباعه، فاشترط أن يحمله إلى أهله في المدينة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شرطه، فلما وصل إلى المدينة دفع النبي صلى الله عليه وسلم الثمن، وقال له: خذ جملك ودراهمك فهو لك.
المهم: أن هذا الحديث يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم من عادته أن يكون في آخر القوم.
وقوله: "فجاءت امرأة من خثعم"، أي: القبيلة المعروفة بهذا الاسم خثعم، تريد أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة النساء - بل من المشروع في حقهن - في حال الإحرام أن يكشفن وجوههن وهي جاءت كاشفة وجهها؛ لأن هذا هو المشروع في إحرام المرأة إذا لم يكن عندها رجال أجانب، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر ابن حجر أن من خصائصه أنه - يجوز له من النظر إلى المرأة والخلوة بها ما لا يجوز لغيره، وهي تقابل النبي صلى الله عليه وسلم الآن، ولكن الفضل رضي الله عنه وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم كان شابًا وسيمًا، يعنى: جميلًا، فجعل ينظر إليها وتنظر إليه، ونظر رجل شاب لامرأة وهي تبادله النظر يخشى من الفتة مهما كان الإنسان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سدّ هذا الباب، فجعل يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، ولم يأمر المرأة أن تغطي وجهها؛ لأن المشروع في - حق النساء - كما قلت - الكشف عن وجوههن في حال الإحرام.
فقالت: "يا رسول الله"، تناديه بهذا الوصف الذي هو أفضل أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن أفضل أوصافه أن يكون عبدا رسولًا، قالت: "يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده
…
إلخ"، قولها رضي الله عنها: "إن فريضة الله على عباده في الحج"، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، هذا يدل على أن الفريضة كانت متأخرة أدركت أباها وهو شيخ كبير لا يثبت على الرّاحلة، يعني: لا يستطيع أن يبقى على الراحلة؛ لأنه كبير والكبير عادة تلحقه المشقة بسرعة، هذا إذا تمكن من الركوب، وإلا فقد لا يتمكن أصلًا.
تقول: "أفأحج عنه؟ " يعني: حج الفريضة، قال:"نعم" يعني: حجي عنه، وذلك في حجة الوداع، ذكر هذا ليفيد أن هذا الحكم متأخر؛ لئلا يقول قائل: لعله في أول الإسلام فنسخ، أو ما أشبه ذلك.
من فوائد الحديث - وهي مهمة -: جواز الإرداف على الدابة، ولو كان الإرداف حرامًا ما أردفه، ولكن يشترط لذلك أن تكون الدابة قوية وقادرة على تحمل الرديف، فإن كانت هزيلة ضعيفة ويشق عليها الإرداف فلا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء"().
ومن فوائد الحديث: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أردف الفضل بن العباس دون أشراف القوم، وأردف - كما ذكرت قبل قليل - في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد.
ومن فوائد الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم من أحرص الناس على طلب العلم، ذكورهم وإناثهم؛ لقوله:"فجاءت امرأة من خثعم فسألت النبي صلى الله عليه وسلم".
ومنها: أن طلب العلم لا يختص بالرجال، فكما أن الرجل يشرع له طلب العلم بل يتعين عليه إذا كانت عبادته لا تقوم إلا به فإنه يتعين عليه وكذلك المرأة ولا فرق.
ومن فوائد الحديث: عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة كما استدل به النووي وغيره من أهل العلم، والدليل صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل إلى الشق الآخر، وهل هذا عام، يعني: لا يجوز له أن ينظر إلى المرأة لا لشهوة ولا لغير شهوة، هذا الحديث هل يدل على العموم؟
قد يقول قائل: أن هنا شيئين تعارضا: ظاهر، وأصل، الظاهر هو أن الفضل كان ينظر إليها وتنظر إليه، وهذا يدل على شيء في النفس ورغبة، وإلا لما جعل ينظر إليها والرسول يصرف وجهه هذا ظاهر، وهنا أصل يضعف هذا الظاهر وهو زكاء الصحابة رضي الله عنهم ولاسيما في مثل هذه الحال وهو محرم، فإنه يبعد جدًّا أن ينظر إليها نظر شهوة، فأيهما نقدم: أنقدم الظاهر أم نقدم الأصل؟ الأصل، إذا قلنا بذلك لزم منه أن الرجل إذا رأى امرأة كاشفة الوجه وجب عليه أن يعرض وهو كذلك، ولكن هل ينكر عليها أو لا ينكر؟ إذا كانت في السوق يجب عليه الإنكار، وكذلك أيضًا إذا كانت في مكان يطلع عليها هذا الرجل، كما لو كانت في البيت عند زوجها، وأخي زوجها فإنه يجب الإنكار عليها إذا كانت كاشفة الوجه في هله الأحوال.
هل يستفاد من هذا الحديث: جواز كشف المرأة وجهها عند الرجال الأجانب؟ ممكن أن نقول: لا دليل على ذلك في الحديث، لأن فيه احتمالًا كبيرًا أنه لم يحضرها إلا النبي صلى الله عليه وسلم والفضل
بن عباس، قد يكون مثلًا هي تمشي وليس حولها أحد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم والفضل بن العباس، لكن العباس لا يلزم أن يرى وجهها، لأنه قد يكون خلفها الكلام على الفضل، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال.
لكن قد يقول قائل: هذا الاحتمال قائم على أنه ليس حولها إلا النبي صلى الله عليه وسلم والفضل لكنه بعيد؛ لأن الغالب أن الصحابة يلتفون حول النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: يكاد الإنسان يجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يمشي وحده في هذا المكان، فما الجواب على هذا؟ فيه احتمال أنه لم ير وجهها، وأنه ينظر إلى جسمها كما قلنا في الشرح، المهم أن الحديث فيه احتمالات، فيه احتمال أنها كاشفة الوجه وأن الرسول أقرها، وكونها محرمة لا يبرر لها أن تكشف وجهها أمام الأجانب؛ لأن حديث عائشة يدل على أن المحرمة يجب عليها أن تستر وجهها إذا مر عليها الأجانب، فالحديث فيه احتمال، ولكن القاعدة المعروفة عند أهل العلم أنه إذا كان النص مشتبهًا محتملًا للوجهين وكان تمَّت نصوص أخرى واضحة فإن الواجب حمل المشتبه على الواضح، وقد صرح الله عز وجل بأن في القرآن آيات متشابهات، وبين أن المحكمات التي لا يشتبه فيهن هن أم الكتاب والأم مرجع الشيء كما نقول "أم القرآن"؛ لأنها مرجع القرآن، وكما قيل:
على رأسه أمٌّ لنا نقتدي بها ()
يعني: نرجع إليها، فتكون النصوص المحكمة التي لا اشتباه فيها هي الأم، ويجب رد المشتبه الي المحكم حتي يكون الشيء محكمًا.
فإن قلت: ما هي الحكمة من أن تأتي النصوص بمثل هذا الاشتباه؟ وهل هذا إلا من باب الإشقاق على العباد والإعنات عليهم؟
فالجواب على هذا أن نقول: بل هذا من حكمة الله عز وجل وامتحانه العباد، لأن الذين في قلوبهم زيغ ويريدون أن يضربوا شرع الله بعضه ببعض يتبعون المتشابه، والمؤمنون الراسخون في العلم لا يفعلون هذا، يقولون: آمنا به، فهذا من باب الاختبار والامتحان، وكما يكون هذا في الآيات الشرعية يكون أيضًا في الآيات الكونية بأن تأتي أمور من الآيات الكونية يخفي على المرء الحكمة فيها فيقول لماذا كان كذا؟ ليبتلي الله العباد هل يسلِّمون لقضائه وقدره أو يعترضون قد يوجد رجل طيب ذو أصل وشرف ومروعة يبتلى بآفات بدنية أو بفقر، ويوجد رجل على عكس من ذلك قد أعطاه الله الصحة في جسمه والغنى في ماله، ربما يقول قائل
- قاصر النظر -: لماذا هذا يعطى هذا المال وهذه القوة وهو رجل ليس له شرف وجاه ومروءة، والثاني بالعكس، المهم أن موقفه من هذا الرضا والتسليم، ويقول: لا يسئل عما يفعل وهم يسألون، ربما يحصل للإنسان شلل ويبقى متعبًا لأهله وهو متعب، فيقول قائل: لماذا يصيبه الله بهذا البلاء أفلا يميته الله عز وجل ويريحه ويريح الناس منه؟ هذا أيضًا من الاختبار، قد تخفي الحكمة علينا حتى في الأمور الكونية اختبارًا من الله عز وجل وابتلاء، وموقف المؤمن من هذا أن يرضى ويسلم ويعلم أن الله له الحكمة فيما فعل، ويقرأ قول الله تعالى:{لا يسئل عمَّا يفعل وهم يسئلون} [الأنبياء: 23].
إذن فهمنا أن هذا الحديث - وإن كان فيه احتمال أنه يجوز للمرأة أن تكشف وجهها أمام الرجال الأجانب - فيه احتمال أنَّ ذلك لم يكن، وإذا لم يكن لم يثبت المدلول، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال، ثم على فرض أن الحديث هذا نص في الجواز، فإن غاية ما فيه أن يقال: إنه بالنسبة للمحرمة مشروع ومأمورة به، لكن في غير المحرمة من يقول: إنه جائز، ثم على فرض أن نقول: إنه لو كان حرامًا كشف الوجه لوجب على المحرمة تغطيته لئلا تنتهك المحرَّم وهي في حال الإحرام، والله يقول:{فمن فرض فيهنَّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197]. فنقول: غاية ما فيه أن يدل على الجواز، والقاعدة الشرعية أن الجائز إذا أفضى إلى الشر والفتنة يجب منعه، ولا يخفي على أحد الآن أن كشف النساء وجوههن فتنة ومدعاة للشر والفساد، وأن النساء إذا رخِّص لهن في كشف الوجه لم يقتصرن على ذلك، اذهب إلى البلاد التي يرخص للنساء فيها كشف الوجه انظر ماذا كشفن: الوجه والرأس والعنق والسيقان، المهم ما اقتصرن على ما رخص لهن فيه؛ ولهذا قال بعض العلماء: يجب عليهن الآن تغطية وجوههنَّ بالاتفاق، وذلك لكثرة الفتن.
من فوائد الحديث: مشروعية تغيير المنكر باليد؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الفضل فجعل يصرف وجهه.
ومنها: جواز التغيير قبل الأمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يصرف وجهه دون أن يقول له: التفت أو اصرف وجهك، وعلى هذا فينظر الإنسان هل الأصلح أن يأمر أولا، ثم يغيِّر أو أن يغيِّر. أولًا قبل أن يأمر، فيرجع ذلك إلى ما فيه مصلحة.
ومن فوائد الحديث: جواز سؤال المرأة الرجل، وأن صوت المرأة ليس بعورة، وقد ذكرنا هذا.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط في وجوب الحج القدرة البدنية، وأنه يجب على من عنده مال وإن كان غير قادر في بدنه؛ لقول المرأة: "إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت
أبي شيخا"، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على قولها: "إن فريضة الله على عباده في الحج"، ولو لم يجب الحج لقال: لا حج على أبيك، والقدرة بالنسبة للحج ثلاثة أقسام: قدرة بالمال دون البدن، وقدرة بالبدن دون المال، وقدرة بهما جميعًا، القدرة بهما جميعًا توجب على الإنسان أن يحج بنفسه، والقدرة على الحج بالبدن دون المال تسقط، ولكن قد يقول قائل: كيف تقول القدرة بالبدن تسقط؟ كيف إذا كان قادرًا بالبدن يمشي على رجليها؟ نقول: نعم إذا أمكنه ذلك وجب عليه أن يحج، لكن إذا كان لا يستطيع - هو قادر ببدنه لكن ما عنده راحلة، أما بدنه فيستطيع أن يركب وأن يؤدي الشعائر - نقول: فهذا لا يجب عليه الحج.
والثالث: القادر بالمال دون البدن فهذا يقسمه العلماء رحمهم الله إلى قسمين: قسم برجي زوال عجزه، وقسم آخر لا يرجي زوال عجزه، قالوا: فلان كان يرجى زوال عجزه، مثل أن يمر زمن الحج وهو مريض مرضًا عاديًّا ويرجى أن يشفي منه ويحج في العام القادم فهذا لا يجب أن يقيم من يحج عنه، بل ولا يصح؛ لأن عجزه مؤقت.
والقسم الثاني: عجز لا يرجى زواله كالعاجز عن الحج لكبر أو مرض لا يرجى برؤه وعنده مال، فهذا يجب عليه أن يقيم من يحج عنه.
فإن قال قائل: من أين أخذتم وجوب الاستنابة؟
فالجواب: من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم المرأة على قولها: "إن فريضة الله على عباده أدركت أبي"، فإذا كان فرضًا عليه ووجد من يقوم مقامه فإنه يلزمه أن يقيم من يقوم مقامه.
فإن قلت: إن هذا الحديث يدل على الجواز؛ لأن المرأة لم تسأل عن الوجوب، وإنما سألت عن الجواز؟
فالجواب: إذا كان جائزًا كان واجبًا؛ لأنه إذا كان جائزًا فمقتضى ذلك أن يصحَّ حج غيره عنه، فإذا قلنا: إنه واجب عليه فإنه يجب أن يقيم من يحج عنه.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجب أن يربط الإنسان على الرّاحلة؛ لقولها: "يسقط" إذ لو وجب لقال: اربطوه عليها، هل مثل ذلك من لا يستطيع الركوب على السيارة لكونه يتقيا ويدوخ؟ نعم مثله، لأن بعض الناس - وقد شاهدته أنا بعيني - إذا ركب على السيارة بدأ يتقيا ويدوخ ولا يشعر بالراحة إلا إذا نزل. لا شك أن هذا مشقة شديدة، بل أشد من تربيط الشيخ الكبير.
ومن فوائد الحديث: جواز حج المرأة عن الرجل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهذه المرأة أن تحج عن أبيها.
ومن فوائده: جواز حج الرجل عن المرأة من باب أولى، وجواز حج المرأة عن المرأة والرجل عن الرجل
ومن فوائده: أن "نعم" التي هي حرف جواب تقوم مقام الجواب، لقو له:"نعم" يعني: حجي عنه.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي تأريخ ذكر الخطبة أو القضية؛ لقوله: "وذلك في حجة الوداع"؛ لأن فائدتها - لاسيما في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم هو بيان النسخ أو عدم النسخ.
ومن فوائد الحديث: جواز تسمية الشيء بسببه لقوله: "ذلك في حجة الوداع"، يعني: سبب ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا".
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للسائل أن يذكر جميع الأوصاف التي يختلف بها الحكم حتى لا يحتاج المسئول إلى استفصال.
وهل من فوائده جواز الحج عن الغير بدون إذنه؟ نعم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: هل استأذنته؟ أو هل أذن لك؟ وهل يؤخذ منه جواز حج الإنسان عن غيره وإن لم يحج عن نفسه؟ لا؛ لأن المرأة سيظهر أنها حاجة وهي لا تسأل عن حجها الآن وإنما عن حج مقبل؛ إذن لا حاجة أن يقول لها: أحججت عن نفسك؟ لأنه يغلب على ظنه أن هذا الحج لها، وحينئذٍ لا يكون فيه دليل على أنه لا يجوز حج الإنسان عن غيره حتى يحج عن نفسه، أما الأول فالظاهر أنه واضح أن الإنسان يحج عن غيره وإن لم يستأذنه.
682 -
وعنه رضي الله عنه: "أن امرأة من جهينة جاءت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنَّ أمِّي نذرت أن تحجَّ، ولم تحجَّ حتَّى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: نعم، حجِّي عنها، أرأيت لو كان على أمِّك دينٌ، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحقُّ بالوفاء"(). رواه البخاريُّ.
هذا الحديث أيضًا عن عبد الله بن عباس، قوله:"من جهينة"، هي قبيلة مشهورة، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أين جاءته: هل في الحج أو في المدينة.
قولها: "إن أمي نذرت"، وسبق تعريف النّذر لغة أنه الإلزام، وفي الشرع إلزام المكلف نفسه طاعة لله عز وجل.
وقولها: "فلم تحج حتى ماتت"، يحتمل أن المعنى: فماتت قبل أن يدركها الحج، ويحتمل: أنها لم تحج؛ يعني: أدركها الحج ولكنها لم تحج حتى ماتت، وسيأتي بيان الفرق بين الأمرين.
وقوله: "حجي عنها"، هذا أمر، لكنه أمر بعد السؤال عن الإباحة، والأمر بعد السؤال عن الإباحة للجواز؛ لأن الأمر بعد السؤال عن الإباحة، أما إذا جاء بعد الاستئذان فهو يكون للجواز، لو استأذن عليك رجل في البيت فقلت: ادخل؛ فليس هذا أمرًا بل هو إذن وإباحة، ولو سألك سائل يقول: هل أفعل كذا وهو جائز، فقلت: أنت افعل فهو للإباحة.
قال "أرأيت؟ " يعني: أخبريني، "لو كان على أمك دين أكنت قاضيته"، فستقول: نعم، فهذا استفهام للتقرير يعني: يقرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرأة بأمر تقرّ به ولا تنكره، وهو أنه لو كان على أمها دين لقضته، وقوله:"أرأيت" يمر علينا كثيرًا مثل هذا التعبير، ونقول: إنه بمعنى أخبريني، لكن كيف يتفق مع تصريفه؟ يقول: إذا قال: أرأيت؟ يستفهم هل رأى ثم يطلب منه أن يخبره بما رأى في قوله: "أكنت قاضيته؟ "، مثلًا في هذا الحديث: {أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصركم وختم على قلوبكم من إله
…
} [الأنعام: 46]. يعني: أخبروني بعد أن تروا هذا الشيء من إله غير الله يأتيكم به؛ فلهذا يقول العلماء: إن "أرأيت؟ " بمعنى: أخبرني، الواقع أنه ليس معناها بالتحديد؛ لأن الرؤية لا تأتي بمعنى الإخبار؛ لأنه إذا جاء الاستفهام بعد أرأيت؟ فهو طلب الإخبار، يعني: هل رأيت هذا أن كنت قد رأيت فأخبرني عنه، فيفسرونها رحمهم الله بما يلزم أو بما يطلب من هذه الرؤية.
وقوله: "اقضوا الله"، هذا أمر، "فالله أحق بالوفاء"، يعني: إذا كان الأدمي يوفَّى حقه فالله أحق بالوفاء.
من فوائد الحديث: قوله: "امرأة من جهينة"، هذه مجهولة ولكن جهالتها لا تضر؛ لأن ذلك لا يؤثر في الحكم شيئًا؛ لأن المرأة إذا جاءت تستفتي سواء كانت صغيرة أو كبيرة أو قصيرة أو طويلة كل هذه الأوصاف لا تهم.
ومن فوائد الحديث: أن صوت المرأة ليس بعورة، لأنها جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يسمعون.
ومن فوائد الحديث: جواز النّذر، لكن قد يقول قائل: الرسول صلى الله عليه وسلم ما أقر الناذرة، فلو أنها قالت: إني نذرت لكنَّا نقول: أن في الحديث دليل على جواز النّذر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها لكن هي تخبر عن فعل غيرها وأيضًا هذا الغير قد مات فكيف ينهى؟ فالجواب عن ذلك: أن ترتيب الحكم على هذا قد يشعر بالجواز؛ لأن هذه السائلة سوف تفهم إذا لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم، لماذا نذرت، أي: سوف تفهم أن النذر جائز، ولكنا نقول: هذا الحديث وإن دل على جواز النذر والدلالة كما ترون ليست واضحة فإن هناك أدلة صريحة للنهي عن النَّذر، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال:"إنه لا يأتي بخير"()، ومعلوم من القواعد التي تمر بنا كثيرًا أن ما كان محكمًا لاشتباه فيه فهو قاضٍ على المشتبه، فنقول: هنا أن النذر مكروه، ونأخذه من دليل آخر غير هذا الحديث.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا نذر الحج لزمه، وجه الدلالة: تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له بالذين والذين يجب على المرء قضاؤه.
ومن فوائد الحديث - وهو محل تأمل بيننا -: أن من نذر الحج ومات قبل زمنه لزم قضاؤه عنه، فهل نقول: أن الإنسان إذا نذر الحج ومات قبل إدراك زمنه يسقط عنه لأنه ما فرط، أو نقول: لما ألزم نفسه بذلك لزمه؟ الحديث في الواقع يحتمل هذا وهذا، ولكن الذي تقتضيه الأدلة الأخرى أنه إذا نذر ومات قبل إدراك زمنه فلا شيء عليه؛ وذلك لأنه وإن لم يشترطه بلفظه فقد اشترطه بحاله، فإن الرجل مثلًا إذا قال في رجب: لله على نذر أن أحج، معلوم أنه يكون هذا الحج في ذي الحجة، ولا يمكن أن يكون المراد: أنه يحج في رجب، وكأنه قال: إذا جاء شهر ذي الحجة فلله عليَّ نذر أن أحج، فيكون هذا المعلوم كالمشروع.
وعليه فنقول: أن الإنسان إذا نذر زمنًا معينًا ومات قبل إدراكه فإنه لا شيء عليه سواء كان معينًا بالزمن مثل أن يقول: "لله على نذر أن أصوم الشهر الفلاني" فيموت قبل إدراكه، أو يقول:"أن أحج" فيموت قبل زمن الحج، فهلا لا يجب عليه.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجب قضاء النذر على الفور؛ لأن هذا السؤال "نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت" فيه احتمال أنه قد مر عليها زمن الحج فلم تحج، وفيه احتمال أنه لم يمر، فعلى الاحتمال الأول قد يكون فيه دليل على أن النذر لا يجب على الفور، وعلى الاحتمال الثاني فليس فيه دليل، ولكن تقول: أن حكم هذه المسألة أن النذر يجب قضاؤه على الفور لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"()، الفاء رابطة للجواب، والجواب مرتبط بالشرط، والأصل في الواجبات كلها أن تفعل على الفور، فالصحيح: أن النذر يجب قضاؤه على الفور ما لم يقيد، فإن قيد فعلى ما قيد به.
ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة على السؤال؛ لأن هذه المرأة جاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن يعاد السؤال مع الحرف المفيد للجواب؛ لقوله: "نعم حجي عنها". ومن فوائد الحديث: إثبات القياس؛ حيث قاس النبي صلى الله عليه وسلم نذرها على الدَّين الذي يقصي. ومنها: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لضرب المثل بحيث يبين المعقول بالمحسوس.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يسلك هذا المسلك في تعليم الناس؛ لأن من الناس من لا يستطيع أن يفهم المعنى إلا بضرب المثل.
ومنها: أن لله تعالى على خلقه واجبا لقوله: "اقضوا الله"، ولا شك أن لله على خلقه واجبًا، حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا تزاحم حق الله وحق الآدمي قدم حق الله لقوله: "فالله أحق بالوفاء"، و"أحق" اسم تفضيل، ولكن قد ينازع في هذا الحكم والاستدلال له، أما في الحكم فينازع بأن يقال: كيف نقدم حق الله على حق الآدمي، والمعروف أن حق الآدمي مبني على المشاحة () وعدم السماح والعفو، وحق الله سبحانه وتعالى مبني على العفو والمسامحة، فكيف نقول: أن حق الله أولى أن يقضى، وأما المنازعة في الاستدلال فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك من باب قياس الأولى؛ بمعنى: أنه إذا جاز هذا فهذا أولى، يعنى: إذا جاز وفاء ذين المخلوق فوفاء دين الله من باب أولى، وهذا لا يقتضي أنهما إذا اجتمعا قدم حق الله، فإن قلت: كيف يمكن اجتماعهما؟ فالجواب: يمكن، هذا رجل توفي وخلف ألف درهم وكان عليه لزيد ألف دينًا وعليه لله ألفٌ زكاة فكم عليه؟ ألفان والرجل خلف ألفًا، إن قضينا دين الآدمي أهملنا الزكاة، وإن قضينا الزكاة أهملنا دين الآدمي، فماذا نصنع؟ نقول: يتحاصان بالسوية، وكيفية المحاصة أن نقول: انسب الموجود إلى المطلوب، كم الموجود؟ ألف، والمطلوب ألفان، نسبة الألف للألفين النصف، فنعطي الزكاة خمسمائة، ودين الآدمي خمسمائة، فإن أسقط الآدمي حقه. يكون للزكاة، أما إذا أخذه ثم أعطاه الورثة فهو للورثة، أو إذا قال: تنازلت عنه للورثة فإنه يكون للورثة، أما إذا قال: تنازلت عنه، فمعناه: أنه أبرأ الميت منه ويكون للزكاة هذا هو الظاهر؛ لأن الاشتراك هنا اشتراك تزاحم، يعني: اشتراك الزكاة وصاحب الحق في الألف اشتراك تزاحم؛ فإذا زال الزحام بقي الثاني منفردًا، وإلا قد يقول قائل: أن المال إذا انتقل للورثة صار لهم الألف ثم توفَّى الزكاة خمسمائة؛ لأنه نصيبها، وإذا أسقط الطالب حقه رجع للورثة، لكن نقول: ليس هذا من باب اشتراك التزاحم فإذا زال الزحام ثبت للواحد
683 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما صبي حج، ثمَّ بلغ الحنث، فعليه أن يحجُّ حجَّةً أخرى، وأيُّما عبدٍ حجَّ ثمَّ أعتق، فعليه أن يحجَّ حجَّةً أخرى"().
هذا الحديث إن جعل مرفوعًا صار حجة؛ لأنه منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن جعل موقوفًا
فليس بحجة، لأن هذا مما للرأي فيه مجال ولا يثبت له حكم الرفع فيبقى رأيًا لابن عباس رضي الله عنهما، ورأي الصحابي اختلف العلماء فيه هل هو حجة أم لا، والصحيح أنه حجة لا سيما الصحابة المعروفون بالعلم والفقه، لكنه يكون حجة بشرطين: إلا يخالف النص، وألا يعارضه قول صحابي آخر، فإن خالف النص فالمتبع النص، وإن عارضه قول صحابي آخر ينظر في الراجح؛ وذلك لأن الصحابة - رضى الله عنهم - أقرب إلى الفهم والفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهم عاصروا نزول النصوص وعرفوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومراده، ونحن نشاهد الآن أن أعلم الناس بقول العالم هم تلامذته، إذن فأعلم الناس بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضي الله عنهم.
لننظر الآن فوائد هذا الحديث منها: صحة حج الصبي لقوله: "فعليه حجة أخرى"، فبين بقوله:"حجة أخرى" أن الأولى صحيحة؛ لأن "أخرى"، مؤنث آخر، وعليه فيفيد صحة حجة الصبى، وقد أفاده حديث ابن عباس السابق الذي فيه: أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيًّا قالت: "ألهذا حج؟ " قال: "نعم"
…
إلخ.
ومن فوائد الحديث: أن هذا الصبي لو بلغ في أثناء الحج فإن الحكم يختلف كيف إذا بلغ في أثناء الحج، فإن بلغ قبل فوات الوقوف ووقف بعرفة أجزأه الحج عن فريضة الإسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الحج عرفة"، والنية تنقلب، إذا بلغ قبل فوات الوقوف بأن بلغ يوم عرفة وهو في عرفة أو بلغ ليلة العيد ثم رجع فوقف بعرفة، فإن حجه يجزئه عن فريضة الإسلام، إلا أن الفقهاء رحمهم الله استثنوا من ذلك مسألة وهى ما إذا كان مفردًا أو قارنًا وسعى بعد طواف القدوم، فإنه حينئذ لا تجزئه عن حجة الإسلام؛ لأن السعي ركن وقد تم قبل أن يكون هذا من أهل الوجوب فوقع نفلًا، وقيل: بل يجزئه وإن كان قد سعى بعد طواف القدوم لكنه يعيد السعي، وأظن أن هناك قولًا ثالثًا يقول: إنه يجزئه ولو سعى بعد طواف القدوم ويكون السعي تابعًا للوقوف لكن المذهب هو الأول، أي: أنه إذا سعى بعد طواف القدوم فإنه لا ينقلب فرضًا.
والذي قبل البلوغ هل نقول: إنه نفل انقلب فرضًا، أو إنه بقى نفلًا وما بعد البلوغ صار فرضًا؟ فيها قولان للعلماء: الأول أن ما قبله ينقلب فرضًا وليس هذا بغريب، فإن الحج له عدّة مخالفات في النية فنجد الرجل مثلًا يأتي إلى مكة قارنًا فيطوف طواف القدوم على أنه نفل عمرة ليصير متمتعا فنجد الآن أن الطواف الذي كان نفلًا انقلب ركنًا؛ لأنه أصبح طواف عمرة، ونجد أن هذا السعي الذي كان للحج والعمرة صار الآن للعمرة، بل لو قدرنا أن هذا الرجل قدم مكة مفردًا وطاف فالطواف نفل؛ لأنه طواف قدوم وسعي للحج، فالسعي ركن ويكون للحج فقط، ثم نقول له: اجعل ذلك عمرة لتكون متمتعًا، فيجعله عمرة فينقلب طواف القدوم
ركنًا، وبعد أن كان طواف قدوم الحج صار الآن ركن عمرة، وينقلب سعي الحج سعي عمرة بل يصح أن يقع الإحرام بالحج مجهولًا فنقول: لبيك اللهم بما أحرم به فلان، وأنت لا تدري بما أحرم ثم قابلته فقلت له: بماذا أحرمت؟ قال: بالعمرة، فيكون إحرامك بالعمرة، لو قال: بالحج والعمرة قرانًا فيكون بالحج والعمرة قرانًا؛ ولهذا لما قدم عليّ من اليمن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بما أهللت؟ "()، قال: بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن معي الهدي فلا تحلّ، وصح. إحرامه؛ لأنه مجهول، وجاء أبو موسى قال:"بما أهللت؟ "() قال: بما أهلّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يجعله عمرة، وألغى أن يكون قارنًا؛ لأن أبا موسى ليس معه هدي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذين ليس معهم هدي أن يجعلوها عمرة، فتجد الآن أن الحج يختلف عن غيره فهذا الصبي الذي بلغ في عرفة ينقلب إحرامه من النفل إلى الفرض، ولكن هل السابق يكون فرضًا أو هو نفل؟ فيه خلاف بين العلماء، وهذا الخلاف ينبني عليه الثواب هل يثاب على السابق ثواب الفريضة أو يثاب ثواب النافلة؟ أن قلنا: إنه ينقلب فرضًا أثيب ثواب الفريضة، وإذا قلنا: يبقى على ما هو عليه ويكون ابتداء الفرض من البلوغ أثيب على الأول ثواب نافلة.
ويستفاد منه: أن العبد إذا حج وهو رقيق فحجه صحيح.
ويستفاد منه: أنه إذا حج في حال رقِّه ثم عتق وجب عليه أن يحج حجة أخرى، لماذا؟ لأن الأولى وقعت نفلًا حيث لا يلزمه الحج لأنه لا مال له فلا يستطيع إليه سبيلًا فلذلك قلنا: يجب عليه أن يعيد الحج مع أن العبد هذا كان بالغًا عاقلًا فاهمًا واعيًا ليس كالصغير الذي لم يبلغ، وهذه المسألة الثانية اختلف فيها العلماء؛ منهم من يرى - بل والأولى أيضًا اختلفوا فيها، لكن الخلاف في الثانية أظهر وأبين أن العبد إذا حج في حال رقِّه بنية الفريضة فإنه لا يلزمه أن يحج حجة أخرى؛ وذلك لأن سقوط الحج عنه ليس لخلل في ذاته، يعني: ليس لأن الرجل من أهل الوجوب، ولكن لأنه لا يستطيع، لأنه مملوك فليس عنده مال وليس مالكًا لنفعه، لا يستطيع أن يحج إلا بإذن سيده، فلهذا نقول: إنه ليس عدم وجوب الحج عليه لخلل في نفسه وأنه ليس من أهل الوجوب، ولكن لأنه غير مستطيع، وهذا لا يمنع من إجزاء الحج عن الفريضة بدليل أن الفقير لا يلزمه الحج، ولكن لو تكلف الحج وحج على قدميه أجزأه حتى عن الفريضة؛ لأن ذلك ليس لمعنى يعود إلى الشخص، ولكنه يعود إلى شيء خارج وهو عدم القدرة المالية، فلهذا كان القول الراجح في هذه المسألة: أن العبد إذا حج قبل عتقه ونوى به الفرض فهو فرض ويجزى عن الفريضة، ولا يلزمه أن يحج حجة أخرى؛ لأن هذا العبد من