المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النهي عن بيع فضل الماء وعسب الفحل: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

-

- ‌[كتاب الزكاة]

- ‌مفهوم الزكاة:

- ‌فائدة الزكاة:

- ‌متى فرضت الزكاة

- ‌حكم الزكاة:

- ‌مسألة: هل تُؤخذ الزكاة قهرًا

- ‌مسألة: هل يمنع الدَّين وجوب الزكاة

- ‌زكاة بهيمة الأنعام:

- ‌أحكام مهمة في السوم:

- ‌زكاة الفضة والمعتبر فيها:

- ‌حكم الخلطة في السائمة وغيرها:

- ‌زكاة البقر ونصابها:

- ‌مشروعية بعث السُّعاة لقبض الزكاة:

- ‌لا زكاة على المسلم في عبيده وخيله:

- ‌للإمام أن يأخذ الزكاة قهرًا ويعاقب المانع:

- ‌شروط الزكاة:

- ‌حكم زكاة البقر العوامل:

- ‌فائدة فيما لا يشترط فيه الحول:

- ‌الزكاة في مال الصبي:

- ‌الدعاء لمخرج الزكاة:

- ‌حكم لتعجيل الزكاة:

- ‌زكاة الحبوب والثمار:

- ‌مسألة: اختلاف العلماء في نصاب الفضة

- ‌أنواع الحبوب التي تجب فيها الزكاة:

- ‌خرص الثمر قبل نضوجه:

- ‌حكم زكاة الحلي:

- ‌فائدة في جواز لبس الذهب المحلق:

- ‌زكاة عروض التجارة:

- ‌كيف نؤدي زكاة عروض التجارة

- ‌زكاة الركاز:

- ‌زكاة الكنز والمعادن:

- ‌1 - باب صدقة الفطر

- ‌صدقة الفطر من تجب

- ‌فائدة: الواجبات تسقط بالعجز:

- ‌الحكمة من صدقة الفطر

- ‌مقدار صدقة الفطر ومما تكون

- ‌وقت صدقة الفطر وفائدتها:

- ‌2 - باب صدقة التَّطوُّع

- ‌مفهوم صدقة التطوع وفائدتها:

- ‌استحباب إخفاء الصدقة:

- ‌فضل صدقة التطوع:

- ‌اليد العليا خير من اليد السفلى:

- ‌أفضل الصدقة جهد المقل:

- ‌فضل الصدقة على الزوجة والأولاد:

- ‌حكم صدقة المرأة من مال زوجها:

- ‌جواز تصدق المرأة على زوجها:

- ‌كراهية سؤال الناس لغير ضرورة:

- ‌مسائل مهمة:

- ‌3 - باب قسم الصدقات

- ‌أقسام أهل الزكاة:

- ‌متى تحل الزكاة للغني

- ‌من اللذين تتجل لهم الصدقة:

- ‌فائدة في أقسام البيئات:

- ‌الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لآله:

- ‌مسألة مهمة:

- ‌آل النبي الذين لا تحل لهم الصدقة:

- ‌حكم أخذ موالي آل الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقة

- ‌جواز الأخذ لمن أعطي بغير مسألة:

-

- ‌كتاب الصيام

- ‌مفهوم الصيام وحكمه:

- ‌فوائد الصيام:

- ‌النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين:

- ‌كيف يثبت دخول رمضان

- ‌يقبل خبر الواحد في إثبات الهلال:

- ‌حكم تبييت النية في الصيام:

- ‌مسألة: ما الحكم إذا تعارض الرفع والوقف

- ‌حكم قطع الصوم

- ‌فضل تعجيل الفطر:

- ‌فضل السُّحور:

- ‌النهي عن الوصال:

- ‌حكمة مشروعية الصيام:

- ‌هل تبطل الغيبة الصيام

- ‌حكم القبلة للصائم:

- ‌حكم الحجامة للصائم

- ‌فائدة في ثبوت النسخ في الأحكام:

- ‌حكم الفصد والشرط للصائم:

- ‌حكم الاكتحال للصائم:

- ‌حكم من أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم:

- ‌حكم من استقاء وهو صائم:

- ‌حكم الصيام في السفر:

- ‌جواز فطر الكبير والمريض:

- ‌حكم من جامع في رمضان:

- ‌مسألة: هل المرأة زوجة الرجل عليها كفارة

- ‌هل على من تعمد الفطر كفارة

- ‌حكم الصائم إذا أصبح جنبًا:

- ‌حكم من مات وعليه صوم:

- ‌1 - باب صوم التَّطوُّع وما نهي عن صومه

- ‌فضل صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء:

- ‌فائدة: حكم الاحتفال بالمولد النبوي:

- ‌فضل صيام ستة أيام من شوال:

- ‌فضل الصوم في شعبان:

- ‌حكم صوم المرأة بغير إذن زوجها:

- ‌فائدة: حكم سفر المرأة بغير إذن زوجها:

- ‌النهي عن صيام يوم الفطر ويوم النحر:

- ‌النهي عن صيام أيام التشريق:

- ‌فائدة في حقيقة الذكر:

- ‌حكم صيام يوم الجمعة:

- ‌حكم صيام يوم السبت والأحد تطوعًا:

- ‌حكم الصيام إذا انتصف شعبان:

- ‌النهي عن صوم يوم عرفة للحاج:

- ‌النهي عن صوم الدهر:

- ‌2 - باب الاعتكاف وقيام رمضان

- ‌مفهوم الاعتكاف وحكمه:

- ‌فضل العشر الأواخر من رمضان:

- ‌فائدة في ذكر أقسام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌آداب الاعتكاف وأحكامه:

- ‌مسألة مهمة:

- ‌ليلة القدر

- ‌فضل المساجد الثلاثة:

- ‌فائدة:

-

- ‌كتاب الحج

- ‌تعريف الحج لغةً واصطلاحًا:

- ‌متى فرض الحج

- ‌1 - باب فضله وبيان من فرض عليه

- ‌شروط الحج المبرور:

- ‌جهاد النساء: الحج والعمرة:

- ‌حكم العمرة:

- ‌حكم حج الصبي:

- ‌حكم الحج عن الغير:

- ‌حكم سفر المرأة بغير محرم للحج والخلوة:

- ‌حكم من حج عن غيره قبل الحج عن نفسه:

- ‌فرض الحج في العمر مرة واحدة:

- ‌2 - باب المواقيت

- ‌المواقيت: تعريفها وبيان أقسامها:

- ‌3 - باب وجوه الإحرام وصفته

- ‌4 - باب الإحرام وما يتعلق به

- ‌استحباب رفع الصوت بالتلبية:

- ‌جواز استعمال الطيب عند الإحرام:

- ‌النهي عن النكاح والخطبة للمحرم:

- ‌من محظورات الإحرام قتل الصيد:

- ‌ما يجوز للمحرم قتله:

- ‌فائدة: أقسام الدواب من حيث القتل وعدمه:

- ‌حكم الحجامة للمحرم:

- ‌تحريم مكة:

- ‌تحريم المدينة:

- ‌5 - باب صفة الحج ودخول مكة

- ‌صفة دخول مكة:

- ‌صفة الطواف:

- ‌وقت رمي جمرة العقبة والوقوف بعرفة والمزدلفة:

- ‌متى تقطع التلبية

- ‌صفة رمي الجمرات ووقته:

- ‌وقت الحلق أو التقصير:

- ‌صفة التحلل عند الحصر وبعض أحكامه:

- ‌التحلل الأصغر:

- ‌عدم جواز الحلق النساء:

- ‌مسألة حكم قص المرأة لشعر رأسها

- ‌استحباب الخطبة يوم النحر:

- ‌حكم طواف الوداع في الحج والعمرة:

- ‌فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي:

- ‌6 - باب الفوات والإحصار

- ‌الاشتراط عن الإحرام وأحكامه:

- ‌أسئلة مهمة على الحج:

- ‌كتاب البيوع

- ‌1 - باب شروطه وما نهي عنه

- ‌أطيب الكسب:

- ‌تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام:

- ‌تحريم بيع الميتة مثل الدخان والدم:

- ‌تحريم بيع الأصنام وما يلحق بها من الكتب المضلة والمجلات الخليعة:

- ‌النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن:

- ‌جواز اشتراط منفعة المبيع للبائع:

- ‌جواز بيع المدبَّر إذا كان على صاحبه دين:

- ‌حكم أكل وبيع السمن الذي تقع فيه فأرة:

- ‌بطلان مخالفة الشرع:

- ‌حكم أمهات الأولاد:

- ‌النهي عن بيع فضل الماء وعسب الفحل:

- ‌النهى عن بيع الولاء وهبته:

- ‌النهي عن بيع الحصاة وبيع الغرر:

- ‌مسألة: هل يجوز بيع المسك في فأرته

- ‌بيع الجهالة:

- ‌النهى عن بيعتين في بيعة:

- ‌السلف والبيع:

- ‌بيع العُربان:

- ‌حكم بيع السلع حيث تُبتاع:

- ‌مسألة بيع الدَّين:

- ‌بيع النَّجش:

- ‌النهي عن المحاقلة والمزابنة وما أشبهها:

- ‌النهى عن تلقِّي الرُّكبان:

- ‌بيع الرجل على بيع أخيه المسلم:

- ‌حكم التفريق بين ذوي الرحم في البيع:

- ‌حكم التسعيرة:

- ‌ الاحتكار

- ‌بيع الإبل والغنم المصرَّاة:

- ‌تحريم الغش في البيع:

- ‌جواز التوكيل في البيع والشراء:

- ‌بيع الغرر:

- ‌بيع المضامين:

الفصل: ‌النهي عن بيع فضل الماء وعسب الفحل:

إذا قال قائل: كيف نجمع بين هذا الحديث الذي فيه جواز بيع أمهات الأولاد بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم مع إقرار الله إياه وبين نهي عمر؟

نقول: الجمع بينهما ظاهر؛ لأنه لا معارضة في الواقع، فبيعهن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن هناك تفريق، والنهي في عهد عمر إذا كان هناك تفريق، وعليه فما دام الجمع ممكنًا فإنه يجب المصير إليه ولا يعارض هذا بهذا ما دام قد حصل إمكان الجمع، فنقول: ما جاء فيه سنة من جواز بيع أم الولد فإنه محمول على ما إذا لم يكن هناك تفريق، وأما إذا كان تفريق كما ذهب إليه عمر رضي الله عنه فلا بيع إذا أتت بولد ومات تباع؛ لأنه ليس هناك تفريق، كذلك إذا أتت بولد وبيع الولد معها لا تباع؛ لأن أم الولد من جاءت بولد من سيدها، أما لو كان من غير سيدها فيجوز أن تباع معه لكن من السيد لا يمكن أن يباع الولد مع أمه لأنه حر.

خلاصة هذه المسألة أن نقول: إذا كان بيع الأم يستلزم التفريق بينها وبين أولادها فالبيع حرام وفاسد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التفريق بين الوالدة وولدها، وإذا كان لا يستلزم ذلك فلا بأس به، فعلى الثاني يحمل ما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الأول يحمل ما كان في عهد عمر، إذن أمُّ الولد حكمها حكم الإيماء في الاستمتاع والحلّ للسيد، وحكمها حكم الحرة باعتبار نقل الملك فيها؛ لأنه لا يجوز فيها نقل الملك.

أما حديث جابر فأظن أن فوائده قليلة؛ لأنه يستفاد منه: أن بيع أمهات الأولاد جائز على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

ويستفاد منه أيضًا: أن الحكم يتغير بتغير الأحوال، إذا وجد مقتضى يقتضي تغيير الحكم الأول فلا بأس به، وأما تغيير الحكم إلى شرع جيد على وجه مستقل فهذا لا يمكن بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا وجد سبب يقتضي تغيير الحكم فإن هذا يجوز، إذ لا بأس أن تتبع هذه المصلحة، ولكنه كما قلت: ليس هذا تغييرًا للحكم على سبيل الاستمرار ورفع الحكم الأول؛ لأنه لا نسخ إلا بالكتاب والسنة إنما تغيير الحكم لمقتضى اقتضاه على وجه مؤقت لا على وجه دائم.

‌النهي عن بيع فضل الماء وعسب الفحل:

760 -

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء". رواه مسلمٌ.

- وزاد في روايةٍ: "وعن بيع ضراب الجمل".

النهي -كما سبق- طلب الكف على وجه الاستعلاء، وقوله:"عن بيع فضل الماء""فضل" يعني: زيادة، أي: ما زاد على قدر الحاجة فإنه لا يجوز بيعه إنما نصّ على ذلك؛ لأن الغالب أن الإنسان لا يبيع إلا ما زاد على حاجته، أما ما تعلقت به حاجته فإنه لا يبيعه.

ص: 527

وقوله: "عن بيع فضل الماء" ما المراد بهذا الماء؟ المراد به شيئان: الشيء الأول: ما اجتمع بفعل الله عز وجل في أرض من الأراضي كالغدران التي تجتمع من السيول، فهذا لا يجوز لأحد أن يستولي عليه بأن يبيعه على الناس، يعني: لو أن رجلًا جاء إلى غدير ثم تحجّره وصار يبيعه على الناس هذا حرام؛ لأن هذا الماء ليس من فعله، والناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار، فلا يجوز أن يبيعه، الوجه الثاني: أن يحفر الإنسان بئرًا فيصل إلى الماء، فهنا لا يجوز أيضًا أن يبيع نقع البئر؛ لأن نقع البئر من فعل الله هو الذي جمع هذا الماء في البئر فليس من صنعه، غاية ما فعلت أنك حفرت حتى وصلت إليه، أما الذي سلك الينابيع في الأرض وهو الله فلا يحلّ لك أن تبيعه؛ لأنك أنت والناس فيه على حدٍّ سواء، صحيح أنك أنت أحق به، ولهذا قال: نهى عن بيع فضله، أنت أحق به لا أحد يزاحمك إذا كنت محتاجًا إليه، لكن إذا لم يكن هناك حاجة فإنه لا يجوز لك أن تبيعه، هناك شيء ثالث للماء وهو أن تحوزه، يعني: تخرجه من الأرض وتحوزه في بركة أو تحوزه في إناء -مجمع يسمونه حوضًا أو خزانًا أو ما أشبه ذلك- فهذا ملكك، لك أن تبيعه؛ لأنك حزته في أمر يختص بك وجمعته في هذا الوعاء، ويدل لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار"، وقال:"لأن يمد أحدكم حبله فيحتطب فيأتي به ويبيعه خير من أن يسأل الناس"، والناس في الحطب شركاء، لكن هذا احتطبه وملكه عادة ثم جاء يبيعه فأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم فهذا مثله، فصار الآن ثلاثة أوجه: وجهان ممنوعان ووجه جائز، الوجهان الممنوعان: ألا يحوز الإنسان في إناء وشبهه، ويكون حصول الماء بغير فعله مثل الغدير والشّعاب، وكذلك أيضًا نقع البئر؛ لأن الذي جمع الماء حتى صار في هذا المستقر هو الله عز وجل، هذان الوجهان لا يجوز فيهما البيع، أما الوجه الثالث -وهو بعد أن تحوز الماء في رحلك في إناء- فلك أن تبيعه.

إذا قال قائل: في الوجهين الأولين: هل يجوز أن أمنع الماء؛ أي: أقول لأي إنسان: لا تدخل إلى هذا الغدير لتشرب منه؟

نقول: لا يجوز أن تمنع الناس؛ لأنهم شركاء لك في هذا الماء إلا بشرط أن يلحقك بهذا ضرر، بماذا؟ إما أن يدوسوا زرعك أو يطلعوا على عوراتك أو يأخذوا الماء كله على وجه يضرك وينقصك فحينئذٍ لك أن تمنع، فإذا خشيت الأذى أو الضرر فلك أن تمنع، لكن في الحال التي لا يجوز لك أن تمنع هل يجب استئذانه، وإذا استأذنه فهل يجب عليه الإذن؟ قال بعض أهل العلم: إنه لا يلزم استئذانه، وعليه فلك أن تدخل أذن أو لم يأذن، فإذا رأيت هذا

ص: 528

الغدير في أرض هذا الرجل فأدخل إبلك ولتشرب منه، سواء استأذنت أم لم تستأذن، فإن استأذنت ولم يأذن فهل لك أن تدخل قهرًا؟ فيه قولان: القول الأول: أنك لا تدخل؛ لأنه ملكه، والقول الثاني: تدخل؛ لأن لك الحق في أن تشرب هذا الماء، ولو قلنا: إن الأمر يتوقف على إذنه لم يكن لقولنا: إنه يحرم عليه المنع فائدة بالنسبة للداخل.

إذن السؤال الآن هل يجوز -في الحال التي لا يجوز فيها بيع الماء- أن يمنع الداخل إلى ملكه لشرب الماء؟ أقول إذا كان فيه ضرر أو أذى، فالضرر مثل أن يداس زرعه ويؤكل ثمره فله أن يمنع، والأذى مثل أن يطلع الناس على عوراته -نسائه وأولاده وحوائجه مكشوفة- ولا يحب أن يطلع أحد عليها فله أن يمنع، أما إذا لم يكن هناك مسوغ للمنع فالصحيح أنه لا يجوز له أن يمنع، وأما استئذان الداخل فنقول: إنه لا يلزمك أن تستأذن إلا إذا كنت تخشى الفتنة مثل لو دخل وجاء صاحب الأرض حصل فتنة من قتال أو نحوه، فحينئذٍ نقول: لا تدخل حتى تستأذن خوفًا من الفتنة.

والثاني: قال: "وعن بيع ضراب الجمل"، وهو عسب الجمل؛ يعني: إنسان عنده جمل يضرب الناقة، يعني: يعلو عليها من أجل تلقيحها، نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الفحل، فإذا كان عندك جمل وجاءك صاحب ناقة يطلب منك أن تضرب الجمل هذه الناقة، تقول: لا مانع، لكن كل تلقيحة بمائة، فلا يجوز هذا؛ لأنه حرام عليه.

فإن قال صاحب الجمل: إن الضراب يضرُّ جملي، فما الجواب؟ نقول: ليس يضر، هل إضرابك امرأتك يضرُّك؟ لا يكون ضرر في ذلك أبدًا، بل إنه أمر يسرُّك، اترك هذا الجمل أيضًا كذلك، فهو لا يضره في الواقع، لكن إن قال: إنه يضره من جهة أخرى تتعلق نفسه بالإبل بالنوق ويتعبه وهذا مشاهد في الحمر، فالحمار إذا عوّد لا يعود، يعني: إذا عوّده صاحبه إذا رأى أنثى يمكن أن يسقط ما على ظهره ويذهب إليها، فإذا قال: أنا أخشى من التضرر بهذا، فإننا نقول: هذا أمر بينك وبين ربك إن كان هذا حقيقة فلك الحق وإن لم يكن حقيقة وإنما تريد أن تعلل عن منع ما يجب عليك فهذا لا يحل لك على أن موضوع الحمير يختلف عن موضوع الجمال لأن مني الحمار نجس خبيث لا يجوز بيعه بخلاف ضراب الجمل.

لو قال صاحب الجمل: إن جملي هزيل ويضرّه الضّراب، ماذا نقول؟ في هذه الحال لا يلزمك، لكن هذا لا يبرر لك أخذ العوض عنه، نحن نقول: إما أن يكون على الجمل ضرر أو عليك أنت ضرر باستخدام الجمل بعد أن يضرب فلك أن تمنع إذا لم يكن ضرر لا على الجمل ولا عليك فلا يجوز أن تأخذ عوضًا، والكلام الآن في أخذ العوض.

فإن قال قائل: لماذا نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؟

قلنا: لأن هذا فيه نوع من المضارة والحسد؛ لأنه إذا كان الجمل لا يتضرر وصاحب الجمل لا

ص: 529

يتضرر ولكنه أبى علم بأنه مضار وحاسد ومانع للفضل ومضرٌّ باقتصاد الأمة؛ لأن الأمة كلما كثر النماء في مالها ازدادت قوة، فلهذا منع منه الشارع، أي: منع من عوضه، ونظير ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"؛ لأن غرز الخشبة في الجدار منفعة للجار ولا ضرر عليك أنت، قال أبو هريرة:"ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم"، قاله وكان أميرًا على المدينة، يقول: إذا لم تسمح للخشب أن يوضع على الجدار وضعته على كتفك، وهذا نظير قول عمر في محمد ابن مسلمة لما منع جاره أن يجري الماء على أرضه إلى الجهة الأخرى كانت أرض بين أرضين جاره فطلب هذا صاحب الأرضين أن يجري الماء من أرض إلى أرض مارة بأرض محمد بن مسلمة وقال: أنا أجري الماء على الأرض وأنت انتفع بالماء، قال: لا، فترافعا إلى عمر، قال عمر: والله لأجرينه ولو على بطنك؛ لأنه مضار، ومثل هذا أيضًا نفسه ضراب الجمل فإنه لا يجوز.

من فوائد الحديث: أولًا: النهي عن بيع فضل الماء، وهو ما زاد عن حاجة الإنسان من الماء الذي لم يدخل في ملكه؛ لأن ما دخل في ملكه فهو يتصرف فيه كما يشاء.

وفيه أيضًا: دليل على أنه لو باعه فالبيع غير صحيح والثمن يرد على المشتري؛ لأن ما يقع النهي عنه بعينه فإن النهي فيه للفساد؛ لأن تصحيحه مضادة لحكم الله ورسوله، فالنهي عنه يراد شرعًا إنقاذه وعدم الاعتداد به، فإذا صححناه فقد خالفنا مقصود الشارع.

وفيه دليل على تحريم بيع ما يحتاج إليه الإنسان من الماء، لماذا؟ لأن التقييد بالفضل بناء على الغالب، وقد قال علماء الأصول: إنما جيء بع مقيدًا باعتبار أمر الغالب، فإنه ليس له مفهوم، ومثلوا لذلك بأمثلة، منها قوله تعالى: {وربائبكم الَّتى فى حجوركم

} [النِّساء: 23]. فإن قوله: {الَّتى فى حجوركم} بناء على الغالب، وإلا فقد لا تكون في حجره، وكذلك:{ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصُّنا} [النُّور: 33]. لأن هذا هو الغالب، والإكراه لا يجوز سواء أردن التحصن أم لم يردن التحصن.

فإذا قال قائل: إذا حازه الإنسان وملكه فهل يجوز بيعه؟

إن نظرنا إلى ظاهر الحديث قلنا: لا يجوز؛ لأنه عام، وإن قسنا على الحطب الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لأن يمد أحدكم حبله فيحتطب فيبيع خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"، فإنه يدل على أن الماء إذا حازه الإنسان فهو له، كما أن الإنسان إذا حاز الحطب ملكه مع أن الناس شركاء فيه أيضًا.

ص: 530

وهل يستفاد من الحديث: تحريم منع المنتفع بفضل الماء من الانتفاع به؟ الجواب: نعم، لو أراد الإنسان أن ينتفع بفضل الماء الذي في أرضك سواء كان نقع بئر أم ما جمعت السيول فإنه ليس لك الحق في منعه؛ لأن الشارع ما نهى عن البيع إلا لأجل أن ينتفع الناس كلهم بهذا الماء، فإن قال قائل: أرأيتم لو كان في دخوله لأخذ الماء ضرر على صاحب الأرض؟ قلنا له في هذه الحال أن يمنعه؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، لو فرضنا أن المتضرر يحتاج إلى ماء فإنه لا يزال ضرره بضرر الآخر، فإن قال قائل: إذا كان قد حازه واضطر الإنسان اضطرارًا إليه فهل يجوز أن يبيعه، إنسان معه ماء في قربة وهناك رجل مضطر إلى الشرب فهل يجوز لصاحب القربة أن يبيع عليه الماء؟ الجواب: لا؛ لأنه يجب عليه إنقاذه من الهلاك وإذا وجب إنقاذه فالواجب لا يؤخذ عليه عوض، أما لو جاء إليك يساومك وهو في حاجة لا في ضرورة فلك أن تبيع عليه بما تريد.

ومن فوائد الحديث: النهي عن بيع ضراب الجمل، ويتفرع عليها: أنه لو باع ذلك فإن البيع لا يصح؛ لأنه مما وقع النهي عنه بعينه، والمنهي عنه بعينه لا يصح بيعه.

ومن فوائد الحديث: حكمة الشرع في أن الأمور التافهة التي يجري بذلها دائمًا وغالبًا لا يرى لها ثمنًا ولا أجرة، لقوله:"نهى عن بيع ضراب الجمل"، فإن أبى صاحب الجمل أن يبذله إلا بأجرة أو بيع، قلنا في الجواب: إن له أن يأخذه بأجرة ويكون الآثم صاحب الجمل؛ لأن هذا يريد أن يتوصل إلى شيء محتاج إليه، فيكون الإثم على صاحب الجمل.

761 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل". رواه البخاريُّ. "نهى عن عسب الفحل"، "العسب" قيل: إنه الماء الذي يلقَّح به، وقيل: إنه الضِّراب، يعني: نزو الذكر على الأنثى، ولا شك أن نزو الذكر على الأنثى كالجمل والتَّيس والثور يراد به: الماء، فهو وسيلة وليس بمقصود، فسواء فسرناه بأنه النَّزو أو فسرناه بأنه الماء نفسه فهو يدل على النهي عن عسب الفحل.

هل المراد بيعه أو إجارته؟ الحديث مطلق، ما فيه البيع ولا فيه الأجرة، وحديث جابر الذي رواه مسلم يدل على أن المراد به: البيع، ولكن الحقيقة حتى لو قلنا: إن المراد به البيع فإنه شبيه بالأجرة؛ لأن هذا الماء ليس يجعل في الأواني ويباع، لكنه يتكون من نزو الذكر على الأنثى فيتكون هذا الماء ويخرج من هذا النّازي إلى رحم الأنثى بدون واسطة فهو شبيه بالأجرة، ولهذا نقول: إن النهي عن "عسب الفحل" يشمل البيع ويشمل الأجرة.

ص: 531

الإجارة تأتي على وجهين:

الوجه الأول: أن يستأجره لضرابه لمرة واحدة فهذا حرام؛ وذلك للجهالة والغرر، ولأنه لا يدري ماذا تكون النتيجة من هذه النّزوة.

والوجه الثاني: أن يستأجره لأيام فيقول: أجِّر لي فحلك لمدة أسبوع فيؤجِّره سواء أضرب أم لم يضرب، فقيل: إن ذلك لا يصح؛ لأن هذا المستأجر إنما استأجره للضَّراب وهذا الفحل ربما يضرب وربما لا يضرب، لا ندري متى يضرب، ولا ندري أيضًا متى تكون الإناث تريده، فالمقصود بالعقد أمر مجهول فلا يصح ولا شك أن الوجه الأول -وهو أن يستأجره لإضرابه مرّة- لا يجوز؛ لأن الأجرة لا تصح فيه وذلك لجهالة العوض المعقود عليه، وأما الثاني فهو محل نظر، فقد أجازه بعض أهل العلم وقال: إن هذا الذي استأجره أهم شيء عنده أن يضرب ولو مرة أو مرتين وليس بلازم عنده أن يضرب دائمًا، ولكن لا شك أن فيه جهالة، وأن ظاهر الحديث النهي عنه، وعلى هذا فلا يجوز استئجار الفحل للضراب لأيام معدودة ولا نزوات معدودة معلومة، وذلك من أجل الجهالة.

ومن فوائد هذا الحديث والذي قبله: حرص الشارع على حماية الأموال وألا تبذل إلا في أمر تتحقق فيه فائدة، أما الأمور التي ليس فيها فائدة أو الأمور التي فيها مضرة فإن الشارع ينهى عن بذل المال فيها ولهذا عدَّه أصول في الشرع، منها قوله تعالى:{ولا تؤتوا السُّفهاء أمالكم الَّتى جعل الله لكم قيامًا} [النِّساء: 5]. فبيَّن الله سبحانه الحكمة من هذه الأموال أنها قيامًا للناس تقوم بها مصالح دينهم ودنياهم، وثبت في الحديث الصحيح عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إضاعة المال، وهذه الأحاديث وأشباهها كلها تدل على حماية الشرع للأموال وعنايته بها.

ومن فوائد الحديث: استبعاد الشرع عن كل ما يحدث الندم أو النزاع أو العداوة، كيف ذلك؟

لأن النهي عن هذه البيوع إنما كان لحكمٍ منها: ألا يحصل للإنسان ندم، افرض أنك استأجرت فحلًا لينزو على أنثى عندك فنزع فلم تلقح يحصل تنازع، كل ما يحدث الندم للإنسان فإن الشرع يأمرنا بالابتعاد عنه، ولهذا أيضًا أصول منها: أن الله سبحانه قال: {إنَّما النَّجوى من الشَّيطان ليحزن الَّذين ءامنوا وليس بضارِّهم شيئًا إلَّا بإذن الله} [المجادلة: 10]. والله تعالى إنما أخبرنا بذلك من أجل أن نتجنب هذا الشيء ليس مجرد إخبار أن الشيطان يريد- إحزاننا لا، المراد: أن نبعد عن كل ما يحزن، ولهذا قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه"، فكل ما يجلب الحزن للإنسان فهو منهي عنه، ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من

ص: 532

رأى رؤيا يكرهها أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، ويستعيذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، وينقلب إلى الجنب الثاني، ولا يخبر بها أحدًا، ويتوضأ ويصلي، كل هذا من أجل أن يطرد الإنسان عن هذه الأمور التي تأتي بها هذه المراتب، ولهذا قال الصحابة: لقد كنا نرى الرؤيا فنمرض منها فلما حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث؛ يعني: استراحوا ولم يبق لهم همُّ، فكل شيء يجلب الهم والحزن والغم فإن الشارع يريد منا أن نتجنبه، ولهذا قال الله تعالى:{فمن فرض فيهنَّ الحجَّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجِّ} [البقرة: 197]. لأن الجدال يجعل الفرد يحتمي ويتغير فكره من أجل المجادلة سيحصل له همٌّ ويلهيه عن العبادة، المهم اجعل هذه نصب عينيك دائمًا؛ أي: أن الله عز وجل يريد منك أن تكون دائمًا مسرورًا بعيدًا عن الحزن، والإنسان في الحقيقة له ثلاث حالات: حالة ماضية، وحالة حاضرة، وحالة مستقبلة، الماضية يتناساها الإنسان وما فيها من الهموم؛ لأنها انتهت بما هي عليه إن كانت مصيبة فقل:"اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها" وتناسى، ولهذا نهى عن النياحة، لماذا؟ لأنها تجدد الأحزان وتذكر بها، الحالة المستقبلة علمها عند الله عز وجل، اعتمد على الله، وإذا جاءتك الأمور فاضرب لها الحل، لكن الشيء الذي أمرك الشارع بالاستعداد له فاستعد له، والحال الحاضرة هي التي بإمكانك معالجتها، حاول أن تبتعد عن كل شيء يجلب الهم والحزن والغم لتكون دائمًا مستريحًا منشرح الصدر مقبلًا على الله وعلى عبادته وعلى شئونك الدنيوية والأخروية، فإذا جربت هذا استرحت، أما إن أتعبت نفسك مما مضى أو بالاهتمام بالمستقبل على وجه لم يأذن به الشرع فاعلم أنك ستتعب ويفوتك خير كثير.

762 -

وعنه رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهليَّة: كان الرَّجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج النَّاقة، ثمَّ تنتج الَّتي في بطنها". متَّفقٌ عليه، واللَّفظ للبخاريِّ.

"حبل" بمعنى: حمل، والحبلة بمعنى: الحوامل؛ لأن حبلة جمع حابل ككامل وكملة، وساحر وسحرة، وكاهن وكهنة، إذن حبلة جمع حابل، والحبل هي الأنثى الحامل، ولا تلحقها التاء؛ لأن الوصف الذي من خصائص الأنثى لا يحتاج إلى تاء، إذ إن التاء يؤتى بها للفرق بين المذكر والمؤنث، وما كان خاصًّا بالمؤنث فليس بحاجة إلى أن يؤتى بالتاء الفارقة، ولهذا يقال: حائض، ولا يقال: حائضة، ويقال: مرضع، ولا يقال: مرضعة، وحينئذٍ نحتاج إلى الجواب عن قوله

ص: 533

تعالى: {يوم ترونها تذهل كلُّ مرضعةٍ عمَّا أرضعت} [الحج: 2]. قال العلماء: لأن المرضعة ليس المراد بها: الوصف، بل المراد بها: الفعل؛ يعني: تذهل التي ترضع وولدها في ثديها تذهل عنه، بخلاف المرضع التي من وصفها الإرضاع لكن ما معها ما ترضعه هذه ما معها أحد حتى نقول: إنها ذهلت عنه.

على كل حال: الحبلة جمع حابل، وهل ورد في اللغة العربية أن يجمع حابل على فعلة مثل ساحر وسحرة، وكاهن وكهنة، وكامل وكملة، "حبل الحبلة"، إذا أخذنا بطاهر اللفظ فإن ظاهر اللفظ يحتمل وجهين: الوجه الأول: أن يكون المراد به: بيع حمل الحوامل، يعني: حمل الأنثى الحامل، فيكون النهي عن بيع الحمل في البطن، ويحتمل وجه آخر: وهو النهي عن بيع حبل الحبلة؛ أي: حمل الأحمال، فيكون النهي عن بيع حمل الحملة، إذا وضع وكان أنثى وحملت فينتهي عن بيع ولدها، أي: عن بيع حمل الحملة، هذا الحمل الذي في البطن، ويلزم على هذا التقدير أن يكون الحمل الذي في البطن أنثى ثم تحمل ثم نبيع حملها.

[إعادة شرح]: الأول هذا للحبلة، يعني: حمل الحوامل، يعني: بيع الحمل في بطن الأم، وهل يقال: حمل الحوامل الثاني عن حمل المحمول؛ لأن حمل الحمل، يعني: المحمول، وعلى هذا الوجه يكون أن تبيع حمل الحمل الذي في البطن، فنقدر أن هذا الحمل الذي في البطن أنثى ثم تحمل ثم يبيع حملها، ولنفرض أن عند الإنسان شاة اسمها هيلة وفيها حمل فأبيع الحمل الذي في بطن هيلة هذا لا يجوز، وهذا هو الوجه الأول، الوجه الثاني: أن أبيع حمل الذي في بطن هيلة، والذي في بطنها ولدت وسميناها "ربية" فأبيع حمل ربية هذا لا يجوز، ما وجه المنع على الوجه الأول؟ الجهالة فهي ظاهرة، هذا الحمل الذي في البطن لا ندري أذكر هو أم أنثى، لا ندري أواحد أم متعدد، لا ندري أيخرج حيًّا أم ميتًا؟ هذه ثلاثة احتمالات كلها غرر، لهذا ينهى عن بيع الحمل، إذا كان حمل "ربية" صار أشد؛ لأنا لا ندري هل الذي في بطن هيلة ظبية أم ظبيان، لا ندري أذكر أم أنثى، ثم على تقدير أنه أنثى لا ندري أنها أيضًا إذا حملت هل تكبر أو لا تكبر، وتأتي بولد أو تحمل، وإذا حملت جاءت الاحتمالات الواردة في بطن الأم حي أو ميت، ذكر أم أنثى، واحد أم متعدد، إذن العلة هي الجهالة -جهالة المبيع-، فيه وجه آخر: وهو الذي فسره -إما ابن عمر أو نافع-: "وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها"، أولًا ننظر في الجملة:"وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهلية" نسبوا إلى الجاهلية؛ لأن سلوكهم كله مبني على الجهل، وعلى هذا فيقال: أهل النهجة الجاهلية أو الملة الجاهلية.

وقوله: "كان الرجل يبتاع الجزور"، الجزور هي البعير سواء كان ذكرًا أم أنثى، صغيرًا أم كبيرًا.

ص: 534

وقوله: "إلى أن تنتج الناقة"، كيف نعرب الناقة؟ "الناقة" فاعل، "تنتج" فعل مضارع مبني للمجهول صورة وهو للفاعل حقيقة، يقولون: هذا الفعل لم يبن للفاعل؛ أي: أن العرب ما بنته للفاعل أبدًا، إنما تبنيه للمفعول، لكن المعمول بعده يكون فاعلًا، وهذا يلغز به، يقال لنا: فعل مضارع مضموم الأول مفتوح ما قبل الآخر -على صيغة المبني للمجهول- وما بعده فاعل، يقال: نتجت الناقة، فـ"الناقة" فاعل، ويوجد كتيِّب صغير مؤلف اسمه:"إتحاف الفاضل للفعل المبني لغير الفاعل" ذكر فيه ما بلغه علمه من الأفعال التي وردت عن العرب مبنية لغير الفاعل والمعمول فيها فاعل.

يقول: "وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج

التي في بطنها"، البيع واقع على شيء معلوم ولكن إلى أجل مجهول، يقول: "إلى أن تنتج الناقة"، يعني: تلد ثم تنتج التي في بطنها، يعني: تلد، وإنتاج الناقة مجهول، إنتاج التي في بطنها أجهل، ولكن ما المؤجل في هذا البيع؟ هل المؤجر البيع، بمعنى: أني أبيعه عليك هذه المدّة فيكون حقيقة الأمر أنه إجارة إلى زمن مجهول، والإجارة تسمى بيعًا، أو أن المعنى: يباع بثمن ويجعل أجل الثمن إلى هذه المدة المجهولة؟ كلاهما صحيح، يعني: أحيانًا يؤجلون البيع نفسه، يعقدون البيع بأن يقول أحدهم: بعتها عليك إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها قد تكون مدة البيع عشرة أشهر أو عشرين شهرًا وقد تكون عشر سنين، لا يدرى متى تنتج الناقة، ومتى تنتج التي في بطنها، هذا إذا قلنا: إن البيع مؤجل نفس البيع، وقد يكون المراد: أنه يؤجل الثمن، بمعنى: أنه باع عليه شيئًا، كأن يكون قد باع عليه الجزور تامًّا مؤبدًا، لكن الذي يؤجل هو الثمن، يقول: لا تسلمني الثمن إلا بعد أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها وكلاهما مجهول، فالبيع إذن غير صحيح، فصارت المسألة لها أربع صور:

الصورة الأولى: أن يبيع حمل الناقة.

والصورة الثانية: أن يبيع حمل حمل الناقة، وهذا يعود إلى جهالة معقود عليها.

الصورة الثالثة: أن يؤجل المبيع، يعني: يؤجل المدّة التي يكون فيها الشيء ملكًا للمشتري، إلى متى؟ إلى أن تنتج الناقة أو تنتج التي في بطنها هذه فيها تداخل، أحيانًا يبيعونه على أن تنتج الناقة، وأحيانًا إلى أن تنتج التي في بطنها أبعد.

الصورة الرابعة: أن يكون البيع معددًا ولكن الثمن مؤجل بأجل مجهول، إلى أن تضع الناقة أو إلى أن تضع التي في بطنها، وهذا كله مجهول ويؤدي إلى التنازع وإلى الغرر وإلى الندم.

ص: 535

يستفاد من حديث عبد الله بن عمر: النهي عن بيع الحمل، والحكمة في ذلك لأنه مجهول فلا يدري أيكون ذكرًا أو أنثى، واحدًا أو متعددًا، حيًّا أو ميتًا، وعن حمل حمل الحمل وهو أيضًا معدوم ومجهول، وهو أشد من بيع الحمل نفسه، هل يقاس على ذلك بيع الحامل بحملها؟ الجواب: لا؛ لأن الحمل حينئذٍ تبع، فإذا كان تبعًا فإنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا، ونظيره لو باع اللبن في الضرع لم يصح، ولو باع شاة فيها لبن صح.

ومن فوائد الحديث: النهي عن كل ذي جهالة سواء كان في عين المبيع أم في ثمن المبيع أم في الأجل بالقياس على حبل الحبلة.

ومن فوائد الحديث: بيان ما كان عليه أهل الجاهلية من المعاملات الفاسدة لقوله: "وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهلية".

ومن فوائد الحديث: أنه إذا وجدت معاملة في الجاهلية ولم ينكرها الشرع فهي جائزة؛ لأن سكون الشرع عنها بدون إنكار يدل على إقرارها، ومن ذلك على رأي كثير من أهل العلم "المضاربة"، فإن الضاربة لم يأت فيها نص صريح في الإسلام لكنها كانت معروفة في الجاهلية فأقرها الإسلام ولم ينه عنها، والمضاربة: هي أن تعطي شخصًا مالًا يتَّجر به وما حصل من الربح فهو بينكما على حسب ما تشترطانه وهي جائزة.

ومن فوائد الحديث: أنه يشترط أن يكون الثمن معلومًا والمبيع معلومًا وأجَّل الثمن إذا كان مؤجلًا أن يكون معلومًا، أما الأول والثاني -وهو اشتراط علم المبيع وعلم الثمن- فهذا ظاهر، وأما اشتراط علم الأجل فقد ذكر أهل العلم أنه ليس شرطًا للصحة، فيصح البيع ولكن لا يصح الشرط، فيكون الثمن حالًا؛ يعني: أنه إذا أجَّل الثمن إلى أجل مجهول مثل أن يقول: بعتك هذا الشيء بمائة ريال، فيقول: اشتريت إلى أن يقدم زيد، الأجل هنا مجهول لا ندري متى يقدم، يقول العلماء: الشرط فاسد والبيع صحيح؛ وذلك لأن البيع لم يتضمن نهيًا يعود إلى ذاته ولا إلى شرطه إنما الغرر في جهل التأجيل، وحينئذٍ نقول: إذا فسد الشرط -أعني: شرط التأجيل- يبقى البيع حالًا؛ لأن التأجيل فسد إذا صار حالًا وقال البائع للمشتري أعطني الثمن قال: ألسنا قد أجّلناه إلى أن يحضر زيد؟ قال: نعم ولكن هذا الأجل مجهول فهو باطل، نقول:

ص: 536