المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم الحجامة للصائم - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

-

- ‌[كتاب الزكاة]

- ‌مفهوم الزكاة:

- ‌فائدة الزكاة:

- ‌متى فرضت الزكاة

- ‌حكم الزكاة:

- ‌مسألة: هل تُؤخذ الزكاة قهرًا

- ‌مسألة: هل يمنع الدَّين وجوب الزكاة

- ‌زكاة بهيمة الأنعام:

- ‌أحكام مهمة في السوم:

- ‌زكاة الفضة والمعتبر فيها:

- ‌حكم الخلطة في السائمة وغيرها:

- ‌زكاة البقر ونصابها:

- ‌مشروعية بعث السُّعاة لقبض الزكاة:

- ‌لا زكاة على المسلم في عبيده وخيله:

- ‌للإمام أن يأخذ الزكاة قهرًا ويعاقب المانع:

- ‌شروط الزكاة:

- ‌حكم زكاة البقر العوامل:

- ‌فائدة فيما لا يشترط فيه الحول:

- ‌الزكاة في مال الصبي:

- ‌الدعاء لمخرج الزكاة:

- ‌حكم لتعجيل الزكاة:

- ‌زكاة الحبوب والثمار:

- ‌مسألة: اختلاف العلماء في نصاب الفضة

- ‌أنواع الحبوب التي تجب فيها الزكاة:

- ‌خرص الثمر قبل نضوجه:

- ‌حكم زكاة الحلي:

- ‌فائدة في جواز لبس الذهب المحلق:

- ‌زكاة عروض التجارة:

- ‌كيف نؤدي زكاة عروض التجارة

- ‌زكاة الركاز:

- ‌زكاة الكنز والمعادن:

- ‌1 - باب صدقة الفطر

- ‌صدقة الفطر من تجب

- ‌فائدة: الواجبات تسقط بالعجز:

- ‌الحكمة من صدقة الفطر

- ‌مقدار صدقة الفطر ومما تكون

- ‌وقت صدقة الفطر وفائدتها:

- ‌2 - باب صدقة التَّطوُّع

- ‌مفهوم صدقة التطوع وفائدتها:

- ‌استحباب إخفاء الصدقة:

- ‌فضل صدقة التطوع:

- ‌اليد العليا خير من اليد السفلى:

- ‌أفضل الصدقة جهد المقل:

- ‌فضل الصدقة على الزوجة والأولاد:

- ‌حكم صدقة المرأة من مال زوجها:

- ‌جواز تصدق المرأة على زوجها:

- ‌كراهية سؤال الناس لغير ضرورة:

- ‌مسائل مهمة:

- ‌3 - باب قسم الصدقات

- ‌أقسام أهل الزكاة:

- ‌متى تحل الزكاة للغني

- ‌من اللذين تتجل لهم الصدقة:

- ‌فائدة في أقسام البيئات:

- ‌الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لآله:

- ‌مسألة مهمة:

- ‌آل النبي الذين لا تحل لهم الصدقة:

- ‌حكم أخذ موالي آل الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقة

- ‌جواز الأخذ لمن أعطي بغير مسألة:

-

- ‌كتاب الصيام

- ‌مفهوم الصيام وحكمه:

- ‌فوائد الصيام:

- ‌النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين:

- ‌كيف يثبت دخول رمضان

- ‌يقبل خبر الواحد في إثبات الهلال:

- ‌حكم تبييت النية في الصيام:

- ‌مسألة: ما الحكم إذا تعارض الرفع والوقف

- ‌حكم قطع الصوم

- ‌فضل تعجيل الفطر:

- ‌فضل السُّحور:

- ‌النهي عن الوصال:

- ‌حكمة مشروعية الصيام:

- ‌هل تبطل الغيبة الصيام

- ‌حكم القبلة للصائم:

- ‌حكم الحجامة للصائم

- ‌فائدة في ثبوت النسخ في الأحكام:

- ‌حكم الفصد والشرط للصائم:

- ‌حكم الاكتحال للصائم:

- ‌حكم من أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم:

- ‌حكم من استقاء وهو صائم:

- ‌حكم الصيام في السفر:

- ‌جواز فطر الكبير والمريض:

- ‌حكم من جامع في رمضان:

- ‌مسألة: هل المرأة زوجة الرجل عليها كفارة

- ‌هل على من تعمد الفطر كفارة

- ‌حكم الصائم إذا أصبح جنبًا:

- ‌حكم من مات وعليه صوم:

- ‌1 - باب صوم التَّطوُّع وما نهي عن صومه

- ‌فضل صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء:

- ‌فائدة: حكم الاحتفال بالمولد النبوي:

- ‌فضل صيام ستة أيام من شوال:

- ‌فضل الصوم في شعبان:

- ‌حكم صوم المرأة بغير إذن زوجها:

- ‌فائدة: حكم سفر المرأة بغير إذن زوجها:

- ‌النهي عن صيام يوم الفطر ويوم النحر:

- ‌النهي عن صيام أيام التشريق:

- ‌فائدة في حقيقة الذكر:

- ‌حكم صيام يوم الجمعة:

- ‌حكم صيام يوم السبت والأحد تطوعًا:

- ‌حكم الصيام إذا انتصف شعبان:

- ‌النهي عن صوم يوم عرفة للحاج:

- ‌النهي عن صوم الدهر:

- ‌2 - باب الاعتكاف وقيام رمضان

- ‌مفهوم الاعتكاف وحكمه:

- ‌فضل العشر الأواخر من رمضان:

- ‌فائدة في ذكر أقسام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌آداب الاعتكاف وأحكامه:

- ‌مسألة مهمة:

- ‌ليلة القدر

- ‌فضل المساجد الثلاثة:

- ‌فائدة:

-

- ‌كتاب الحج

- ‌تعريف الحج لغةً واصطلاحًا:

- ‌متى فرض الحج

- ‌1 - باب فضله وبيان من فرض عليه

- ‌شروط الحج المبرور:

- ‌جهاد النساء: الحج والعمرة:

- ‌حكم العمرة:

- ‌حكم حج الصبي:

- ‌حكم الحج عن الغير:

- ‌حكم سفر المرأة بغير محرم للحج والخلوة:

- ‌حكم من حج عن غيره قبل الحج عن نفسه:

- ‌فرض الحج في العمر مرة واحدة:

- ‌2 - باب المواقيت

- ‌المواقيت: تعريفها وبيان أقسامها:

- ‌3 - باب وجوه الإحرام وصفته

- ‌4 - باب الإحرام وما يتعلق به

- ‌استحباب رفع الصوت بالتلبية:

- ‌جواز استعمال الطيب عند الإحرام:

- ‌النهي عن النكاح والخطبة للمحرم:

- ‌من محظورات الإحرام قتل الصيد:

- ‌ما يجوز للمحرم قتله:

- ‌فائدة: أقسام الدواب من حيث القتل وعدمه:

- ‌حكم الحجامة للمحرم:

- ‌تحريم مكة:

- ‌تحريم المدينة:

- ‌5 - باب صفة الحج ودخول مكة

- ‌صفة دخول مكة:

- ‌صفة الطواف:

- ‌وقت رمي جمرة العقبة والوقوف بعرفة والمزدلفة:

- ‌متى تقطع التلبية

- ‌صفة رمي الجمرات ووقته:

- ‌وقت الحلق أو التقصير:

- ‌صفة التحلل عند الحصر وبعض أحكامه:

- ‌التحلل الأصغر:

- ‌عدم جواز الحلق النساء:

- ‌مسألة حكم قص المرأة لشعر رأسها

- ‌استحباب الخطبة يوم النحر:

- ‌حكم طواف الوداع في الحج والعمرة:

- ‌فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي:

- ‌6 - باب الفوات والإحصار

- ‌الاشتراط عن الإحرام وأحكامه:

- ‌أسئلة مهمة على الحج:

- ‌كتاب البيوع

- ‌1 - باب شروطه وما نهي عنه

- ‌أطيب الكسب:

- ‌تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام:

- ‌تحريم بيع الميتة مثل الدخان والدم:

- ‌تحريم بيع الأصنام وما يلحق بها من الكتب المضلة والمجلات الخليعة:

- ‌النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن:

- ‌جواز اشتراط منفعة المبيع للبائع:

- ‌جواز بيع المدبَّر إذا كان على صاحبه دين:

- ‌حكم أكل وبيع السمن الذي تقع فيه فأرة:

- ‌بطلان مخالفة الشرع:

- ‌حكم أمهات الأولاد:

- ‌النهي عن بيع فضل الماء وعسب الفحل:

- ‌النهى عن بيع الولاء وهبته:

- ‌النهي عن بيع الحصاة وبيع الغرر:

- ‌مسألة: هل يجوز بيع المسك في فأرته

- ‌بيع الجهالة:

- ‌النهى عن بيعتين في بيعة:

- ‌السلف والبيع:

- ‌بيع العُربان:

- ‌حكم بيع السلع حيث تُبتاع:

- ‌مسألة بيع الدَّين:

- ‌بيع النَّجش:

- ‌النهي عن المحاقلة والمزابنة وما أشبهها:

- ‌النهى عن تلقِّي الرُّكبان:

- ‌بيع الرجل على بيع أخيه المسلم:

- ‌حكم التفريق بين ذوي الرحم في البيع:

- ‌حكم التسعيرة:

- ‌ الاحتكار

- ‌بيع الإبل والغنم المصرَّاة:

- ‌تحريم الغش في البيع:

- ‌جواز التوكيل في البيع والشراء:

- ‌بيع الغرر:

- ‌بيع المضامين:

الفصل: ‌حكم الحجامة للصائم

ثالثًا: أن بعض العلماء حكى الإجماع على أن الإنزال بالمباشرة والتقبيل يفطر، ففي الحاوي للشافعية نقل الإجماع على أنه يفطر، والموفق في المغني قال: لا نعلم فيه خلافًا، والمذاهب الأربعة كلها متَّفقٌة على أن الإنزال بالمباشرة والتقبيل مفطر، فالصواب عندي: أن الإنزال بالمباشرة والتقبيل مفطر للصائم، والجواب عما أورد سمعتموه.

مسألة: هل الإمذاء يفطر؟ لا يفطر، لا شك في هذا خلافًا للمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والصواب: أنه لا يفطر للفرق العظيم بينه وبين الإنزال فإن بينهما فروقًا كثيرة، ولا يمكن إلحاق المذي بالمني لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الأثر على الجسم ولا من ناحية الأحكام المترتبة على ذلك.

فالحاصل: أن لدينا الآن: مباشرة وتقبيل بدون إنزال ولا مذي لا يفسدان الصوم قولًا واحدًا في المذهب، المباشرة والتقبيل مع الإمذاء الصحيح لا يفسدان الصوم، مع الإنزال يفسدان الصوم على القول الصحيح، وهو إما إجماع أو على الأقل المخالف في ذلك نادر.

‌حكم الحجامة للصائم

؟

634 -

وعن ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرمٌ، واحتجم وهو صائم". رواه البخاريُّ.

"احتجم" افتعل، يحتمل أن المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم طلب من يحجمه وهو كذلك، والحجامة: إخراج الدم من البدن بطريق معروف، وهو أن يجرح مكان الحجامة ويؤتى بوعاء صغير فيه أنبوبة متصلة به فيأتي الحجام بعد أن يجرح المكان ثم يضع هذا الوعاء الصغير.

المهم: هذه الحجامة معروفة عن عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن أدركناها نحن في هذا العصر، ومن كانت عادته الحجامة مرض وصار فيه دوخة وتعب حتى يحتجم، فالنبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، وبالضرورة سيحلق مواضع المحاجم من أجل الحاجة.

وقوله: "واحتجم وهو صائم" أيضًا جملة حالية، وهنا أطبق الصيام، فيحتمل أنه في رمضان ويحتمل أنه في غيره، وهل الرسول صلى الله عليه وسلم كان محرمًا في غير رمضان؟ نعم أحرم في غزوة الحديبية في ذي القعدة، وفي عمرة القضاء كذلك في ذي القعدة، وفي عمرة الجعرانة في ذي القعدة وفي حجته في ذي القعدة أيضًا.

لكن الصيام الذي ورد "احتجم وهو صائم" هل هو مقيد في إحرامه، أو هما جملتان منفصلتان؟

ص: 211

الواقع أن اللفظ الذي في أيدينا أنهما جملتان منفصلتان، وأما ما جاء في بعض الروايات أنه احتجم وهو صائم محرم فهذا لا يصح؛ لأنه لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم صائمًا محرمًا أبدًا؛ إذ إن ذهابه إلى مكة في وقت الصيام كان في غزوة الفتح ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم محرمًا، فالجمع بينهما وهم من بعض الرواة أنه احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم، يعني: فصل هذه عن هذه، فهذا- كما يقول المؤلف-: رواه البخاري.

فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد:

الأولى: جواز الحجامة للمحرم لقوله: "احتجم وهو محرم".

الثانية: أنه يجوز أن يحلق من الشعر ما يحتاج إليه في الحجامة، لماذا؟ لأنه من اللازم لذلك وجواز الملزوم يدل على جواز اللازم.

الثالثة: أنه إذا حلق من رأسه مثل هذا القدر فليس فيه فدية، وبه نعرف ضعف قول من يقول: إن الإنسان إذا أخذ شعرة واحدة من رأسه فعليه طعام مسكين، فإن أخذ اثنتين فطعام مسكينين، فإن أخذ ثلاث شعرات ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فهذا القول ضعيف، ولا يعد من أخذ ثلاث شعرات من رأسه حالقًا، والله عز وجل يقول:{ولا تحلقوا رءوسكم حتى تبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية} [البقرة: 196]. والكلام على حلق الرأس، إمَّا شعرة أو شعرتين فليس فيه شيء.

فإن قلت: إن الذي أسقط الفدية هنا الحاجة إلى أخذ الشعر.

فالجواب أن نقول: إن الحاجة لا تسقط الفدية؛ لأن الله قال: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية} [البقرة: 196]. وهذه الصورة تعدُّ حاجة؛ ولهذا حلق كعب بن عجرة رضي الله عنه رأسه؛ لأنه جئ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه من رأسه؛ لأنه كان مريضًا، والمريض تكثر معه الأوساخ، ويضعف بدنه ويكثر فيه القمل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى. ثم رخَّص له أن يحلق وأن يفدي بصيام أو صدقة أو نسك.

إذن نقول: إن الحاجة إلى حلق هذا الجزء اليسير من الرأس من أجل الحجامة لا تسقط الفدية؛ لأنها لو وجبت ما أسقطتها الحاجة، بدليل حديث كعب بن عجرة.

وعلى هذا فنقول: إن أقرب الأقوال في حلق الشعر مذهب مالك رحمه الله أنه إذا حلق ما يزول

ص: 212

به الأذى وجبت الفدية، وإن حلق دون ذلك فلا فدية عليه، لكن يحرم عليه أن يحلق إلا لحاجة.

وفي هذا الحديث أيضًا: دليل على جواز الحجامة للصائم لقوله: "احتجم وهو صائم"، وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء أن الحجامة للصائم لا تفطر؛ لأنها ليست أكلًا ولا شربًا ولا جماعًا، ولا بمعنى: الأكل والشرب، وعلى هذا فلا تفطر، والله عز وجل يقول:{فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187].

فإن قلت: ألا يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ثم قضى؛ يعني: أفطر ثم قضى؟

الجواب: نعم يحتمل لا شك هذا وارد، لكن لو كان الأمر كذلك لنقل، ثم إن مثل هذا السياق يقتضى أنه سيق للاستدلال به على أن الصائم لا تؤثر فيه الحجامة فيكون هذا الإيراد غير وارد، كما نقول في قوله:"احتجم وهو محرم" أفلا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد فدى؟ يجوز، لكن الظاهر خلاف ذلك؛ إذ لو فدى لنقل.

إذن يؤخذ من هذا الحديث: جواز الحجامة للصائم، وأنها لا تفطره.

فإن قلت: أفلا يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم احتاج إلى الحجامة، ومعلوم أن الصائم إذا احتاج إلى الأكل والشرب بحيث يتضرر بفقدهما في أثناء النهار يجوز له أن يأكل ويشرب، فيمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لكونه يحتجم كثيرًا يمكن أن يحتاج إلى الحجامة في ذلك اليوم فاحتجم.

فالجواب أن نقول: ليس الكلام في جواز الحجامة من عدمها، نحن نقول: ما احتجم إلا والحجامة جائزة له إما لكونها جائزة للصائم مطلقًا، وإما لكونها جائزة عند الحاجة، وليس كلامنا في هذا الكلام هل تفطر أو لا؛ فظاهر الحديث أنها لا تفطر؛ لأنها لو كانت تفطر لنقل عنه قضاء هذا الصوم وأنه أفطر ذلك اليوم.

635 -

وعن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم". رواه الخمسة إلا التِّرمذيَّ، وصحَّحه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبَّان.

هذا الحديث يقول: مرَّ على رجل بالبقيع، والمراد بالبقيع: ما حوله؛ لأن البقيع هي: مدفن موتى أهل المدينة، والظاهر أن الناس لا يكونون في نفس المقبرة، "يحتجمون" لما في ذلك من تلويث المقبرة بالدم وغير ذلك، إلا أن يراد بالبقيع كل ذلك المكان، يعني: ما فيه القبور وما كان خارجًا عنه فيصح، على كل حال: ليس للمكان أهمية في المسألة، المهم: أن

ص: 213

الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، "الحاجم": هو فاعل الحجامة، و"المحجوم" المفعول به، فـ"الحاجم" مثل الحلاق، و"المحجوم" مثل المحلوق، قوله صلى الله عليه وسلم:"أفطر الحاجم والمحجوم" هو كقوله: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم"، "أفطر" يعني: حل له الفطر، هنا "أفطر الحاجم والمحجوم" هل معناه حل لهما الفطر؟ لا، لكن هذا يختلف عن ذاك؛ لأن القول الراجح في ذلك- "فقد أفطر الصائم"- أي: حلَّ له الفطر، وليس المعنى: فقد أفطر حكمًا كما قيل به، أما هنا "فقد أفطر" يعني: أفسد صومه فأفطر.

وقوله: "أفطر الحاجم والمحجوم" فيه إفطار الرجلين، أما المحجوم فالفطر في حقه معقول ما هو المعنى؟ هو ما يحصل له من الضعف بخروج الدم، الضعف الذي يوجب ضرر البدن، وطلب البدن الأكل والشرب حتى يعوض ما نقص بخروج ذلك الدم، والإنسان في صومه جعله الله- سبحانه وتعالى وسطًا بين الإفراط والتفريط بين أن يأكل ويشرب ليقوي البدن بالغذاء، وبين أن يحتجم ويستقيء فيضرَّ البدن بفقد الغذاء في القيء أو بفقد الدم في الحجامة، فراعى الشرع جانب العدل بالنسبة للبدن لا إفراط ولا تفريط، فجعل ما أدخل البدن مما يقويه مفطرًا وما أخرجه مما يضعفه جعله أيضًل مفطرًا حتى يقوم البدن بالعدل لا إفراط ولا تفريط، وهذا من الحكمة العظيمة.

فعلى هذا نقول: الحكمة في كون المحجوم يفطر هو: لأجل ما يحصل للبدن من الضعف الذي يحتاج معه إلى مادة غذائية يستعيد بها قوته، وعليه فإن كان الإنسان في ضرورة إلى الحجامة احتجم، وقلنا له: كل واشرب ولو في رمضان إذا كان في ضرورة؛ لأن بعض الناس ولا سيما الذين يعتادون الحجامة إذا فقدوها أحيانًا يغمى عليهم ويموتون، فإذا بلغ الإنسان إلى هذا الحد فنقول: احتجم وكل واشرب وأعد للبدن قوته، وإذا لم يصل إلى هذا الحد وكان بإمكانه أن يصبر إلى غروب الشمس، قلنا له: في الفرض يحرم عليك أن تحتجم ولا يجوز بل تبقى إلى أن تغرب الشمس وتفطر إن كان في نفلٍ، فالأمر واسع فيه؛ لأن النافلة يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب ولو بلا عذر.

إذن عرفنا الحكمة بالنسبة للمحجوم، بالنسبة للحاجم قد تكون الحكمة خفية وهي كذلك في الحقيقة خفية جدًا؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن الحاجم لا يفطر والمحجوم يفطر، لكن هذا القول- كما تنظرون- ضعيف جدًّا، لماذا؟ مصادم؛ لأنه يأخذ ببعض النص ويترك البعض، وقال بعضهم: الحكمة في المحجوم ظاهرة، وفي الحاجم تعبدية نحكم بما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ندري، وبناء على قولهم فالحاجم يفطر بأي وسيلة حجم؛ لأن المسألة

ص: 214

تعبدية، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل الحكمة معقولة فيهما أما في المحجوم فقد سبقت، وهي الضعف الذي ينهك البدن، وأما بالنسبة للحاجم فلأن الحاجم يمصُّ القارورة والدم قد يكون غزيرًا ويخرج بسرعة وشدة فينفذ إليه من القارورة دم وهو لا يشعر لشدة المصَّ، فجعلت هذه المظنة بمنزلة المئنة، قال: ونظيره النائم ينام والنوم نفسه ليس بحدث لكنه مظنة الحدث، فصار النوم ناقضًا للوضوء وإن كان قد لا يحدث منه ناقض، فشيخ الإسلام رحمه الله يرى أن الحكمة معقولة في الطرفين في الحاجم والمحجوم قال: وبناء على ذلك لو حجم بغير هذه الطريقة المعروفة فإن الحاجم لا يفطر، وأنتم أخبرتموني الآن أنهم يحجمون بغير هذه الطريقة فلو فرض أنه حجم بآلة تمصُّ بدل مص الآدمي فإنه لا يفطر بناء على أن العلة معقولة، وإذا كانت العلة معقولة فالحكم يدور معها وجودًا وعدمًا، لكن المشهور من مذهب الحنابلة أن الحكمة غير معقولة، والغريب أنها عندهم غير معقولة في الطرفين، ولهذا قالوا: لو فصد أو شرط الإنسان فصدًا وخرج به من الدم أكثر مما خرج بالحجامة فإنه لا يفطر؛ لأن الحكمة غير معقولة، إنما هي تعبدية. والشرط هو: شق العرق طولًا حتى يخرج الدم، أما الفصد فهو: أن يشقه عرضًا حتى يخرج الدم.

قال شيخ الإسلام: والأصلح في البلاد الحارة الحجامة وفي البلاد الباردة الفصد أو الشرط؛ لأن البلاد الباردة يغور فيها الدم ينزل إلى باطن البدن من أجل البرودة الخارجية، فكان الفصد أو الشرط أبلغ من الحجامة في استخراج الدم الفاسد، وأما في البلاد الحارة فإن الدم يخرج ويبرز على ظاهر الجلد فتكون الحجامة أنفع وأفيد، على كل حال هذه مسائل طبية.

في هذا الحديث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم"، ونحن إذا أخذنا بظاهره قلنا: فسد صومهما، وقد عرفتم أن للعلماء في بيان العلة في ذلك ثلاثة أقول: قول: إنها معقولة فيهما، وقول: إنها غير معقولة فيهما، وهذان القولان متقابلان، والقول الثالث: إنها معقولة في المحجوم غير معقولة في الحاجم.

إذن هذا الحديث يستفاد منه: أن الحجامة تفطر على السبب الظاهر المعلوم، فقال بعض العلماء: لا ولكن كادا يفطران، فخرجوا عن ظاهر الحديث وقالوا: كادا يفطران أما الحاجم فقالوا: نعم يكاد يفطر؛ لأنه لو شفط بقوة دخل الدم إلى جوفه فأفطر، لكن لو شفط شيئًا فشيئًا لم يفطر، فالمعنى: كاد يفطر الحاجم؛ لأنه ربما شفط بقوة فأفطر، إذن على قول هؤلاء يكون:

ص: 215

"أفطر الحاجم والمحجوم" كادا يفطران ولم يفطرا؛ لأن المحجوم لو تصبَّر مع الضعف حتى غربت الشمس وأكل وشرب صحَّ صومه، والحاجم لو تأنى رويدًا رويدًا صح صومه.

وقلت: وإحالة الحكم على السبب الظاهر، ما هو السبب الظاهر في الحديث الذي أفطر به الحاجم والمحجوم؟ الحجامة هو يقولون: لا إن الرجلين كانا يغتابان الناس، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"أفطر الحاجم والمحجوم"، وهذا التأويل هو في الحقيقة تحريف. أولًا: لأنهم يقولون: إن الغيبة لا تفطر، وهذا من الغرائب، يقولون: إن الغيبة لا تفطر، ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"أفطر الحاجم والمحجوم" قالوا: كانا يغتابان الناس، وأنتم تقولون: الغيبة لا تفطر، يعني: لو اغتابا الناس بدون حجامة ما أفطرا، وإن اغتابوا الناس وحجموا أفطروا، هذا لا يستقيم.

الشيء الثاني: أنه من الجناية على النصَّ أن يلغى الوصف الذي علّق عليه الحكم ثم نذهب نلتمس وصفًا آخر نعلَّق به الحكم، فإن هذا جناية على النصوص، وما مثل هؤلاء إلا مثل من قالوا في المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده- فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها- إن هذه المرأة ما أمر الرسول بقطع يدها لأنها استعارت فجحدت، ولكن لأنها كانت تسرق، وما مثل هؤلاء أيضًا إلا كمثل قول من قال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"، أو "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر" قالوا: إن المراد منه: جحدها إذا كان المراد من جحدها، فالذي يجحد فلو صلَّى كل وقت في وقته ومع الجماعة فهو كافر، فكيف نلغي الوصف الذي علَّق عليه الحكم، ثم نجلب له وصفًا آخر لم يذكره الشرع؟ فالمهم أن مثل هذه الأمور من أهل العلم- عفا الله عنا وعنهم- يحمل عليها أنهم يعتقدون قبل أن يستدلوا فيكون عند الإنسان حكم معين تقليدًا لمذهب من المذاهب أو اختيارًا من عند نفسه ثم تأتي النصوص بخلاف ذلك المذهب أو ذلك الفهم، فيحاول أن يصرف النصوص إليها ولو بضرب من التعسف، والحقيقة أن هذه ليست طريقًا سليمًا إذ إن الإذعان والتسليم المطلق هو الذي يجعل النصوص متبوعة له لا تابعة، بمعنى أنه إذا دلَّت النصوص على شيء يأخذ به وهو سيحاسب على ما دلَّت عليه النصوص والحكم بين الناس إلى الله ورسوله، فإذا دلَّ كلام الله ورسوله على شيء من الأشياء فالواجب علينا أن نأخذ به مهما كان، والخطر علينا إذا خالفنا هذا الظاهر ليس إذا أخذنا به.

إذن فهذا الحديث يدل على أن الحاجم والمحجوم يفطران، ويبقى النظر في الجواب عن حديث ابن عباس السابق؟ الجواب عليه: أن الإمام أحمد رحمه الله ضعَّف رواية: "احتجم وهو صائم"، وقال: إن ذلك لا يصح وأنه انفرد به أحد الرواة عن ابن عباس، وأن غيره خالفه فيها، وإذا كان الأمر كذلك فإن المخالفة- مخالفة الثقات في نقل الحديث- تجعله شاذًا وإن كان

ص: 216

المخالف ثقة، والحديث الذي معنا- حديث شداد بن أوس- قال البخاري: إنه أصح شيء في الباب، والغريب أن هذا الحديث جعله بعض العلماء من المتواتر؛ لأنه رواه عدد كبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إفطار الحاجم والمحجوم، حتى قالوا: إنه من المتواتر، فالإمام أحمد رحمه الله ذهب إلى أن الحديث:"احتجم وهو صائم" وهم، وبعضهم قال: إن الحديث منسوخ بحديث شداد؛ لأن حديث شداد بن أوس كان في السَّنة الثامنة، وحديث ابن عباس كان في عمرة الحديبية، أو عمرة القضاء، فهو سابق، وعلى قاعدة بعض العلماء يقولون: حديث ابن عباس من فعل الرسول، وحديث شداد من قوله وفعله، ولا يعارض قوله، والحكم للقول لا للفعل، وهذه طريقة الشوكاني رحمه الله وجماعة من أهل العلم، ولكن هي ليست بطريقة مرضية عندنا كما سبق لإمكان الجمع، يبقى عندنا حديث آخر هو الذي قد يعارض الحديث الذي نحن الآن بصدده وهو:

636 -

وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: "أوَّل ما كرهت الحجامة للصائم؛ أنَّ جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائمٌ، فمرَّ به النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثمَّ رخَّص النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصَّائم، وكان أنسٌ يحتجم وهو صائمٌ". رواه الدَّارقطنيُّ وقوَّاه.

ذكرنا فيما سبق أن حديث ابن عباس كان متقدمًا، هذا على القول بأن الحجامة تفطر، وذكرنا لكم أن هذا هو قول فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل، وابن المنذر، وابن خزيمة، وكذلك هو قول الظاهرية، وأنه أرجح من القول بأنه لا يفطر، وذكرنا أيضًا أن هذا هو مقتضى النظر والقياس، قلنا: القياس يقاس على حديث القيء حديث أبي هريرة: "من استقاء عمدًا فليقض"، والعلة الجامعة بينهما: أن كل واحد منهما سبب للضعف، أما مقتضى النظر فلأن الشارع جعل الصائم يكون معتدلًا بالنسبة لشهواته، فلا ينال منها ما يشتهيه، ولا يحرم منها ما يضره فقده، فيكون متوازن الأكل والشرب يغذي البدن، والحجامة بالعكس، والاستقاء كذلك بالعكس، فجعل الشارع الأمر معتدلًا، ثم نقول: بناء على ذلك إن كنت محتاجًا إلى الحجامة- ولا بد- فاحتجم وكل واشرب ولو في رمضان واقض يومًا مكانه، وإن كنت غير محتاج إلى الحجامة فأبق على نفسك قوتها وانتظر حتى تغرب الشمس.

ص: 217

أما حديث أنس فقال: "أول ما كرهت الحجامة" ما إعراب "أول"؟ مبتدأ، والخبر "ما"، وما دخلت عليه في تأويل مصدر من الجملة، "أول ما كرهت"، الكراهة في لسان الشارع غير الكراهة في عرف الفقهاء، الكراهة في لسان الشارع للشيء المحرم الذي قد يكون شركًا أكبر، اقرأ قول الله تعالى: {* وقضى ربك ألا تعبدوا إلآ إياه وبالوالدين إحسانًا

} إلى قوله: {كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهًا} [الإسراء: 38]. واقرأ ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كره لكم وأد البنات"، وهو من كبائر الذنوب، فالكراهة في لسان الشارع غير الكراهة في عرف الفقهاء، عرف الفقهاء الكراهة منزلة بين التحريم والإباحة، فيعرفون المكروه بأنه:"ما نهي عنه لا على سبيل الإلزام بالترك"، ويقولون في حكمه: يثاب تاركه امتثالًا ولا يعاقب فاعله، فهنا الكراهة بلسان الشارع.

وقوله: "كرهت الحجامة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه احتجم وهو صائم"، جعفر بن أبي طالب كان أخًا لعلي بن أبي طالب، ولكن عليًا رضي الله عنه يكبره في المرتبة وسبق الإسلام وأنه أحد الخلفاء الراشدين، "احتجم وهو صائم" فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أفطر هذان" المشار إليهما الحاجم والمحجوم، "ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم".

نقول: هذا الحديث المشار إليه الحاجم والمحجوم فهل غيرهما مثلهما؟ الجواب: نعم، يعني: غير هذه الشخصين مثلهما في الحكم؛ لأنه سبق لنا قاعدة مهمة وهي أن ما ثبت في حكم الواحد من هذه الأمة فهو له ولغيره ممن ساواه في المعنى الذي علق عليه الحكم، مثال ذلك: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى رجلًا في السفر قد ظلَّل عليه، والناس زحام حوله قال:"ليس من البر الصيام في سفره"، هل نأخذ هذا على عمومه؟ لا، بل نقول: الرجل الذي يبلغ به الصيام كما بلع بهذا الرجل ليس الصوم في السفر بالنسبة إليه من البر.

إذن الحجامة لا نعقل لها معنى يختص بجعفر بن أبي طالب وحاجمه، بل نجد أن معناه شامل عام، فكل من حجم أو احتجم فإنه داخل في هذا الحكم، ولكن هل يدخل عليه بالنص، أو يدخل عليه بالقياس؟ كلمة "هذان" كما مرَّ علينا اسم الإشارة يعيَّن المشار إليه، ولهذا كان اسم الإشارة أحد المعارف فهو يعيَّن المشار إليه كما لو قلت: أفطر جعفر وفلان، أعني: الحاجم له، فهي تعيَّن المشار إليه، فهل نقول: إن الحكم في غيرهما ثابت للقياس عليهما؟ الجواب: هذا هو الظاهر أنه بالقياس. وقد يقول قائل: لا، بل إن الرسول صلى الله عليه والسلام إذا نص على شخص بعينه فهذا النص المعين لهذا الشخص كالتمثيل لقاعدة عامة، فعليه نأخذ بعموم

ص: 218

المعنى ويكون غيرهما داخلًا في العموم المعنوي، ويكون ذكر هذا الشيء المعين كالتمثيل فقط، ومن ثم قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أيًا كان، فإن الحكم لهما ولغيرهما، لكن يقول:"ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم"، وفي بعض ألفاظ الحديث:"إنما كرهت من أجل الضعف"، ثم رخص، فإذا كان كراهة الحجامة من أجل الضعف، فإن المعروف أن الضعف لا يزول، وما علق الحكم به على أمر لا يزول فإن نسخه لا يمكن إلا أن تزول تلك العلة التي من أجلها شرع الحكم، قال:"وكان أنس يحتجم وهو صائم"، لو صح هذا لكان فيصلًا في المسألة.

في هذا الحديث فوائد: منها: الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر هذان" بعد أن رآهما يحتجمان، ومن المعلوم أن هذين المحتجمين لا يعلمان الحكم؛ لأنهما لو علما الحكم ما فعلاه، ما احتجما، فكيف قال:"أفطر- هذان" والقاعدة عندنا: أن المحظور إذا فعل على سبيل الجهل فإنه لا يؤثر، فكيف نخرَّج هذا الحديث؟ لأنك إن قلت: إنهما كانا عالمين فهو بعيد، وإن قلت: غير عالمين فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما أفطرا؟ الجواب على هذا: أن المراد بقوله: "أفطر هذان": بمنزلة قوله: "أفطر الحاجم والمحجوم"، فيكون المراد: أفطر هذا النوع من الناس الذي حجم واحتجم، هذا قول.

والقول الثاني: أن المراد بيان أن الحجامة تفطر، وأن الحجامة سبب بقطع النظر عن كون هذين الرجلين ينطبق عليهما شروط الفطر أو لا ينطبق، فيكون هنا كأن في الحديث إيماء إلى بيان سبب الفطر لا إلى الحكم بكون هذين الرجلين قد أفطرا، وهذا هو ما نقله ابن القيم في إعلام الموقعين، عن شيخه ابن تيمية رحمه الله يقول: إن المراد بيان أن هذا الفعل مفطر، أما كون هذين الرجلين يفطران فهذا يعلم من أدلة الكتاب الأخرى، وهذا الحمل واجب؛ لأن لدينا نصوصًا عامة صريحة واضحة في أن الجاهل معذور بجهله، فيجب أن تحمل هذه النصوص المتشابهة على النصوص المحكمة إذا كان الحمل ممكنًا، أما إذا لم يكن ممكنًا فإن هذا يبقى مخصصًا للعموم، ويثبت الحكم فيه بخصوصه لا يتعداه إلى غيره، فلو فرض أننا لم نجد محملًا لهذا الحديث قلنا: نخصه بالحالة الواقعة فقط، ونقول: من أفطر بالحجامة ولو جاهلًا؛ لأنها تفطر فعليه القضاء يكون مفطرًا وفي غيرها لا قضاء عليه. إذن زال الإشكال مادام حملناه على الجنس أو النوع أو على بيان السبب.

ص: 219