الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لحديث الصحيحين مع أن الحديث ليس واحدًا، وكذلك أيضًا قال شيخنا عبد العزيز بن باز في أحاديث النهي عن التختم بالذهب المحلق: إنها شاذة؛ لمخالفتها للأحاديث الصحيحة، فتبيِّن لي بعد ذلك أن الشاذ ما خالف الأحاديث الصحيحة سواء كان المتن وأحدًا أم مختلفًا.
وهل في الحديث دليل على أن اليسار ليس شرطًا في الكفاءة؟ الجواب: لا، ليس فيه دليل.
أولًا: لأنه لا يمكن أن يقال: إن المرأة التي عندها حلي تعتبر من الأغنياء، كم من امرأة عندها حلي ولكنها في تعداد الفقراء!
ثانيًا: ربما هذا الإعسار حدث لابن مسعود فيما بعد.
ثالثًا: أننا إذا قلنا إنه شرط في الكفاءة فالصحيح أن الكفاءة ليست شرطًا للصحة إنما هي شرط للزوم على خلاف ذلك أيضًا.
ويؤخذ منه: أنه لا مانع أن تذكر المرأة زوجها باسمه.
ومن فوائده: جواز التثبت في فتوى العالم، يعني: معناه أنك إذا أفتيت وشككت في الفتوى فيجب عليك أن تتثبت ولا تأخذها على أنها مقولة حق بكل حال.
ويؤخذ منه: أنه لا حجر على المرأة في تصرفها في مالها ولو متزوجة، خلافًا لمن قال من أهل العلم: إن المرأة إذا تزوجت لا تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها، ففيه دليل على أن الزوجة حرَّة في مالها تتصرف بما شاءت.
ويتفرع على هذا فائدة: وهي أن بعض الأزواج الذين يأخذون الرواتب من زوجاتهم قهرًا عليهم يعتبرون ظلمة، وأن هذا لا يحل لهم، لكن لو اصطلحا على أن يمكنها من التدريس بنفس الراتب فهذا جائز ما لم يشترط عليه في العقد أنها تدرس، فإن اشترط عليه في العقد وجب تنفيذ هذا الشرط.
ومن فوائده أيضًا: أنه يجوز ذكر المفتي الأول عند المستفتي، ولا يعد ذلك غيبة وإن كان يحتمل أنه اخطأ؛ لأن المقصود الوصول إلى الحق، وممكن أن يكون هناك فوائد أخر تستخرج بالتأمل والاستنباط.
كراهية سؤال الناس لغير ضرورة:
608 -
وعن ابن عمر رضي اله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم". متفق عليه.
"لا يزال"، "يزال" مضارع زاًل، و"زال" لها مضارعات ثلاثة: يزول، يزال، يزيل، فهنا "يزال"، وليست "يزول"، وهي من أفعال الاستمرار إذا دخل عليه النفي، فمعنى "لا يزال يفعل كذا"، أي: أن
فعله مستمر دائم، وهي من أخوات "كان" ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، فـ"الرجل" هنا اسمها، والخبر "يسأل".
وأما قوله: "حتى يأتي يوم القيامة"، فـ"يوم" هنا فيها إشكال فهي هنا منصوبة، وهل الفاعل يكون منصوبًا؟ لا يكون منصوبًا إذن كيف جاع منصوبًا هنا؟ الفاعل هنا مستتر تقديره هو، و"يوم" ظرف.
قوله: "مزعة" بمعنى: قطعة؛ لأن وجهه- والعياذ بالله- حيث أذله أمام الناس في سؤال الدنيا جاء يوم القيامة وقد أزيل لحمه حتى كان عظامًا- والعياذ بالله- عقوبة له على ما حصل منه في الدنيا من إذلال وجهه، هذا هو الصحيح في تفسير الحديث وهو ظاهره.
ففي هذا الحديث عدة فوائد؛ منها: أن سؤال الناس من كبائر الذنوب، وجهه: الوعيد عليه وأن الإنسان السئول الذي لا يزال يسأل الناس يعاقب بهذه العقوبة العظيمة.
ومنها: إثبات البعث لقوله: "حتى يأتي يوم القيامة".
ومنها: أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن هذا الرجل لمَّا أذل وجهه في الدنيا أمام عباد الله، أذله الله يوم القيامة أمام عباد الله، وذلك بنزع لحم وجهه.
ومنها: أنه يجب على الإنسان أنه إذا سأل أن يسأل الله؛ لأن الإنسان لا بد أن يكون في حاجة، فإذا كان ممنوعًا من سؤال الناس، فمن يسأل؟ يسأل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس:"إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". فأنت إذا ألجأتك الضرورة فلا تسأل إلا الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الملاذ، وهو الذي يؤمل في كشف الضر وجلب الخير.
أورد المؤلف هذا الحديث والمناسبة فيه ظاهرة؛ لأن الباب صدقة التطوع، والناس يعطون السائلين، ففي هذا تحذير للسائلين من أن يسألوا ما لا يستحقون، ولكن بالنسبة للمسئول فإنه يعطي ما دام يغلب على ظنه أن هذا الرجل فقير في هيئته ولباسه، فإن غلب على ظنه أنه غني فهل يعطه أو لا؟ ينظر في ذلك للمصلحة إن كان في إعطائه مصلحة أعطاه، وإلا منعه ونصحه، بل حتى وإن أعطاه فلينصحه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئًا عن الإسلام إلا أعطاه حتى كان يعطي المؤلفة قلوبهم يعطيهم الشيء الكثير من الإبل والغنم والمتاع والدراهم تأليفًا لقلوبهم، فإذا جاء هذا السائل ورأيت من المصلحة أن تؤلف قلبه بإعطائه، وإن كنت يغلب على ظنك أنه ليس أهلًا فإن إعطاءه لا بأس به؛ لأن بعض الناس قد يسأل وهو غني، فإذا لم تعطه ذهب يٌسيء إليك ينشر اسمك بالسوء بين الناس؛ فإذا أعطيه اتقاء شره وتأليفًا لقلبه فهذا لا بأس به.
609 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يسأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا فليستقَّل أو ليستكثر". رواه مسلمٌ.
"من" شرطية بدليل جزم الفعل؛ لأن اقتران الفاء بالجواب قد يكون هذا واقعًا فيما إذا كانت "من" اسمًا موصولًا، إذن هي شرطية.
وقوله: "تكثرًا" هذا مفعول لأجله؛ يعني: لأجل التكثر بجمع المال.
وقوله: "فإنما يسأل" هذا هو جواب الشرط، وقوله:"جمرًا" الجمر معروف وهي القطعة من النار، وهي حامية كما هو ظاهر، ولكن ما معنى قوله:"فإنما يسأل جمرًا" هل معناه أنه كسائل الجمر، أو المعنى أن هذا الذي يعطاه يكون يوم القيامة جمرًا يعذَّب به؟ الثاني هو الأقرب، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن اقتطعت له شيئًا من مال أخيه فإنما اقتطع له جمرًا فليستقل أو ليستكثر". وفي رواية: "فليأخذ أو ليذر".
وقوله: "فليستقل أو ليستكثر" اللام هنا لام الأمر، لكن ما المراد بالأمر؟ المراد به: التهديد، فهو كقوله:{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. وليست اللام هنا للتخيير إن شاء أقل، وإن شاء أكثر، بل إنها للتهديد.
هذا الحديث كالحديث الذي قبله، إلا أنه يزيد على ما قبله أنه مقيد بما إذا كان يسأل تكثر فهل يحمل الأول على الثاني، أو يقال: إن العقوبة مختلفة، وإذا اختلفت العقوبة لا يحمل المطلق على المقيد، ويكون هذا الحديث إذا سألهم تكثرًا وإن لم يكن مستمرًّا في السؤال حتى ولو لم يسأل إلا مرة واحدة، وهذا هو الأقرب الَاّ يقيد الأول بالثاني نظرًا لاختلاف العقوبة.
والعلماء يقولون: إن من شرط حمل المطلق على المقيد: أن يتفقا في الحكم، لا في السبب؛ يعني: لو اختلف السبب فيحمل المطلق على المقيد، فإن اختلفا في الحكم لم يحمل المطلق على المقيد. مثال ما اختلف في الحكم: طهارة التيمم والوضوء، ففي الوضوء قال الله تعالى:{فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} . وفى التيمم قال: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} . السبب واحد وهو الحدث هو سبب الطهارة، والحكم مختلف؛ لأن طهارة الماء تتعلق بأعضاء أربعة وهي: الوجه، واليدان، والرأس، والرجلان.
وطهارة التيمم تتعلق بعضوين وهما: الوجه، واليدان، فالحكم مختلف، ولما اختلف الحكم فإنه لا يحمل المطلق على المقيد؛ ولهذا نقول: إن المطلق في قوله في التيمم: {فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم منه} لا يحمل على المقيد في الوضوء في قوله: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. ويختصُّ التيمم بالكفين فقط.
هنا نقول: الحكم مختلف؛ لأن عقوبة الأول أنه ينزع لحم وجهه، والثاني أنه يعذب بجمر يلقى في يده نظير ما أخذه، فلا يقيد الثاني بالأول، لكن فيه زيادة على الثاني، وهو أن يكون دائمًا يسأل الناس.
من فوائد هذا الحديث: الأولى أن سؤال الناس للتكثر وجمع المال محرم، بل هو من كبائر الذنوب للوعيد عليه.
ثانيًا: أن من سأل الناس للحاجةّ فلا إثم عليه؛ لأن الحديث قيد بقوله: "تكثرًا"، فدل ذلك على أنه إذا سألهم لدفع الحاجة والضرورة فلا إثم عليه.
ثالثًا: أن الجزاء من جنس العمل.
رابعًا: أن سياق الكلام يعيِّن المراد به، فإن اللام للأمر والأصل في الأمر أن معناه: طلب الفعل على وجه الاستعلاء، لكن هنا لا يراد به الأمر الحقيقي لقرينة السياق، فالسياق يعيُّن المراد سواء كان في كلام الله، أو في كلام رسوله، أو في كلام الآدميين. السياق يعيُّن المراد والنية أيضًا تعيِّن المراد.
ومن فوائد الحديث أيضًا: استعمال التهديد في المخاطبة لقوله: "فليستقل أو ليستكثر".
ومن فوائده: الإشارة إلى القناعة، وأن الإنسان ينبغي أن يكون قانعًا بما أعطاه الله عز وجل ومن أعطي القناعة بقي غنيًّا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى القلب". فإذا كان الإنسان غني القلب فهو في الحقيقة هو الغني، وكثير من الناس عنده من الأموال ما عنده ولكن قلبه فقير- والعياذ بالله- دائمًا يطلب المال ويلهث وراءه، وكم من إنسان ماله قليل وهو يرى أنه من أغنى الناس، وقد استغنى عن الناس، وهذا من نعمة الله على الإنسان؛ لأن الإنسان إذا أعطي القناعة بقي غنيًا منشرح الصدر لا ينظر إلى غيره، ويدل لذلك أن من كمال نعيم أهل الجنة أنهم {لا يبغون عنها حولا} [الكهف: 108]. حتى أدناهم لا يريد تحولًا عما هو عليه، ويرى أنه ليس في الجنة أحد أنعم منه، وهذا من نعمة الله على العباد أن يوفق للقناعة سواء كان ذلك في ماله، أو في مسكنه، أو في ملبسه، أو في مركوبه، أو في أولاده، أو في زوجته، أو غير ذلك، إذا أعطى الإنسان القناعة فيما أعطاه الله بقي غنيًّا، أما إذا نزعت القناعة من قلبه فإنه فقير مهما كان عنده من الأموال وغيرها.
610 -
وعن الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها، فيكفَّ بها وجهه؛ خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". رواه البخاريُّ.
هذا حديث عظيم ولننظر في إعرابه، قوله:"لأن يأخذ" اللام لام الابتداء، لأنها دخلت على المبتدأ، وقد تدخل على الخبر بالتزحلق ومنه قول الشاعر:[الرجز]
أمُّ الحليس لعجوزٌ شهربه
…
ترضى من اللَّحم بعظم الرَّقبة
أصل هذا البيت لو مشى على الترتيب أن يقول: لأم الحليس .... الخ، لكن قال: أم الحليس فاللام في قوله: "لأن يأخذ" لام الابتداء؛ لأنها دخلت على المبتدأ، ولكن كأني بكم تقولون: أين المبتدأ؟ فنقول: المبتدأ المصدر المؤول من أن والفعل، وهذا موجود في القرآن:{وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 184]. أي: صومكم خير لكم. إذن "لأن يأخذ" تقديره: لأخذ أحدكم، "فيأتي" معطوفة على "يأخذ"، وقوله:"خير له" هذه خبر المبتدأ.
في هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا مؤكدًا باللام، لو أن الإنسان لم يكن عنده مال فإنه لا يسأل الناس، بل يسعى أولًا بنفسه لطلب الرزق فإذا تعذر فليسأل، لكن طلب الرزق كيف؟ يقول: لو وصل به طلب الرزق إلى هذه الحال التي تعتبر في نظر الناس دنيئة يأخذ الحبل ويخرج إلى البر يحتطب، ويأتي بحزمة الحطب على ظهره ليس عنده سيارة، ولا حمار، ولا بغل هو بنفسه يحملها على ظهره.
يقول: "فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس"؛ لأن هذا الرجل اعتمد على ما منحه الله تعالى من القوة والكف فاكتسب بفضل الله عز وجل، ولم يلتفت إلى أحد من الناس فكان ذلك خيرًا له.
سواء "أعطاه الناس أو منعوه" أيهم أشد عليه أن يعطى أو يردُّ؟ أن برد أشد؛ لأن الذي يردك كأنه صفعك على وجهك وردَّك، لكن الذي يعطيك كأنه جبر خاطرك أهون، ولكن لننظر إذا قال الرجل: أنا رجل شريف ومن قبيلة شريفة ذات شرف وجاه كيف أذهب احتطب، لو احتطبت لكان الصبيان يدجلون ورائي، يقولون: خبل فلان، فماذا أصنع؟ هل نقول: لكل مقام مقال، وأن مثل هذا الرجل الذي لا يليق به أن يحتطب، نقول له: اسأل الناس؟ لا، نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق الكلام، فأنت وإن خرجت إلى البر واحتطبت وجئت بهذا لو لم تجد مهنة إلا هذا لكان ذلك خيرًا لك من سؤال الناس، إن وجد عمل غيره أشرف من هذا، ولكن
عمل يده فليفعل، ولا ينبغي إذا وجد عملًا أشرف من هذا أن يتنزل إلى هذا العمل، يعني مثلًا إن وجد أنه يخرج إلى السوق ويكون دلالًا- الذي يحمل أمتعة الناس- هذا لا شك أنه أشرف من الاحتطاب، نقول: ما دمت تعد نفسك أعلى من الاحتطاب فافعل، لكن إذا لم تجد إلا الاحتطاب فهو خير لك من سؤال الناس سواء أعطوك أو منعوك، لو وجد مهنة أنه يجلد الكتب فهلا طيب، وجد مهنة أنه يكتب الكتب هذا أفضل، لأنه يحصل العلم، يكتب الكتب فيحصل العلم من كتابته إياها.
المهم: لو قال قائل: كيف يجوز أن يأخذ أجرًا على كتابة الكتب الشرعية؟
نقول: نعم هو أخذ على عمله حتى لو أنه جلس مدرسًا يدرس القرآن بأجرة فلا بأس له أن يفعل؛ لأن تعليم القرآن بالأجرة جائز، لو جلس يقرأ للموتى، إذا مات الميت جاءوا به ليقرأ للميت ويأخذ أجرة؟ فهذا لا يفعل الاحتطاب أحسن؛ لأن هذه المهنة حرام، حرام أن يأخذ الإنسان أجرًا لمجرد القراءة، أما على تعليم القرآن فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن مهرًا في النكاح، وما صح أن يكون عوضًا في النكاح فيصحُّ أن يؤخذ عليه المال؛ لأن الله قال:{وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24]. فجعل الله المهر مالًا.
يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد أولًا: التفاضل بين الأعمال والمهن لقوله: "لأن يأخذ أحدكم حبله
…
الخ".
ثانيًا: أن العمل الذي يكف وجهك عن سؤال الناس مهما كان دنيئًا فهو خير، ولا تقل: هذا لا يصح لمثلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق.
الفائدة الثالثة: ضرب المثل بالأدنى ليكون تنبيهًا على ما فوقه، يؤخذ من ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أدنى مثل لاكتساب المال ليكون في ذلك إشارة إلى ما فوقه.
ومن فوائد الحديث أيضًا: الإشارة إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يهين وجهه بسؤال الناس لقوله: "ليكف بها وجهه".
ومن فوائده أيضًا: مباشرة العامل لبيع صنعته، ولا يقال: إن بيعه إيَّاها لنفسه قد يكون فيه غش؛ لأن من أراد الغش سواء باعه هو أو باعه وكيله؛ لأن الغالب أن الغاش يكتم العيب ولا يبينه وهذا يحصل في بيع الوكيل كما يحصل في بيع الإنسان لنفسه.
ومن فوائد الحديث: أن اكتفاء الإنسان بنفسه خير من سؤال الناس وإن أعطي لقوله: "أعطوه أو منعوه"، هل يؤخذ من الحديث أنه ينبغي للإنسان اقتناء آلة الكسب؟ نعم يؤخذ من قوله:"حبله".
ومن فوائد الحديث: إضافة الأفعال إلى الفاعل، وهو رد على الجبرية.
وفيه أيضًا: حث النبي صلى الله عليه وسلم على الاكتساب للضرورة، وهل يؤخذ منه أن الإنسان إذا كان غنيًا يكسبه لا يجب الإنفاق عليه؟ نعم، يؤخذ منه لقوله:"فيبيعه فيكفَّ بها وجهه"؛ ولهذا اشترط العلماء في باب النفقات أن يكون هذا الذي تجب له النفقة عاجزًا عن التكسب مع الفقر. ولهذا أيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تحل لغني، ولا لقوي مكتسب".
611 -
وعن سمرةً بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطانًا أو في أمر لا بد منه". رواه الترمذي وصححه.
هذا الحديث يشبه حديث ابن عمر أن الإنسان لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم، فالمسألة كدُّ يكدُّ الإنسان بها وجهه- والعياذ بالله-.
وقوله: "الرجل" هذا لا يعني تخصيص الحكم بالرجال؛ لأن كثيرًا من الأحكام علِّقت بالرجال؛ لأن جنس الرجال أشرف من جنس النساء، ولكن القاعدة العامة أن ما ثبت في حق النساء يثبت في حق الرجال، وما يثبت في حق الرجال يثبت في حق النساء إلا بدليل؛ ولهذا قال الله تعالى:{من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى} [النحل: 97]. وهذا يشمل جميع الأعمال، وأن النساء والرجال مشتركون فيها.
وقوله: "يكدُّ الرجل مها وجهه" يعني: لو أن الإنسان كدَّ وجهه بمشاقص حديد ما يبقى اللحم، فهكذا المسألة كدُّ يكدُّ الإنسان بها وجهه، فهل أحد يرضى أن يكدَّ وجهه بيده حتى تتمزق لحومه؟ الجواب: لا؛ إذن كيف ترضى أن تسأل الناس، وهذا ما يحصل، ويظهر أثر ذلك ليس في الدنيا، في الدنيا- نسأل الله العافية- الذي يعتاد على سؤال الناس لا يهتم، الإنسان الشريف إذا سال تجده إذا أضطر وأراد أن يسأل تجده يتعب ويتردد يقدم رجلًا ويؤخر أخرى، لكن الإنسان الذي عوَّد نفسه ذلك لا يهمه أن يسأل، إنما هو في الواقع وإن كان لا يهتم ولا يتألم ولا يحمرَّ وجهه، ولا يغار دمه فإن الواقع أنه في كل مسألة يكدُّ وجهه بهذه المسألة.
استثنى النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا أن يسأل الرجل سلطانًا"، "السلطان" هو ولي الأمر، أكبر ولاة الأمور في البلد، ويحتمل أن يراد به كل ذي سلطة في مكان كالأمير مثلًا في بلد فيسأل، ومع ذلك فإن بعض أهل العلم قيَّد ذلك بما إذا سأل سلطانًا ما يستحقه من بيت المال، فإّن هذا لا بأس به، وعليه فيكون الحديث استثنى مسألتين: