الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فضل السُّحور:
629 -
وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحَّروا فإنَّ في السَّحور بركةً". متَّفقٌ عليه.
قوله: "في السحور" هل هي السَّحور أو السُّحور؟ يحتمل أنه السَّحور، أي: ما يتسحر به، أو السحور الذي هو الأكل في آخر الليل، قوله صلى الله عليه وسلم:"تسحروا"، أي: كلوا السحور وهو الأكل في السَّحر، أي: في آخر الليل، والخطاب هنا موجَّه للصائمين، لأنهم هم الذين يتسحرون، أما غيرهم فإنهم لا يتسحرون بل يتغدون ويتعشون.
وقوله: "فإن في السحور بركة"، هذا تعليل للأمر، وهو بيان أن في السُّحور بركة، والبركة كثرة الخير ودوامه، ومنه البركة: مجتمع الماء؛ لأن الماء فيها ثابت قار، ولأنه يكون كثيرًا، وقوله:"فإن في السحور بركة"، "بركة" بالنصب على أنها اسم "إن" مؤخرًا.
من بركات السحور أولًا: امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "تسحروا"، وكل شيء تمتثل به أمر النبي بل أمر الله ورسوله فإنه بركة وخير، ولهذا جرب نفسك عندما تفعل العبادة وأنت تستحضر أنك تفعلها امتثالًا لأمر الله تجد فيها من اللذة والانشراح والطمأنينة والعاقبة الحسنة ما لا يوجد فيما إذا فعلتها على أنها مجرد شيء واجب.
ومن بركته: أن فيه حفظًا لقوة النفس وقوة البدن؛ لأن النفس كلما نالت حظها من الأكل والشرب استراحت، وكذلك البدن كلما نال حظه من الأكل والشرب نما وبقيت قوته، ولهذا يكره أو يحرم للإنسان أن يصلي بحضرة طعام يشتهيه؛ لأن ذلك يوجب تشويش قلبه واشتغال ذهنه.
ومن بركته: أن فيه عونًا على طاعة الله؛ لأنك تأكله لتستعين به على الصيام، وهذا لا شك أنه بركة. ومنها: أن البركة حسية ظاهرة، فإن الإنسان إذا كان مفطرًا يأكل في اليوم مرتين أو ثلاثة ويشرب مرارًا، وإذا تسحر وصام لا يأكل ولا مرة واحدة ولا يشرب ولا مرة واحدة، ولهذا يتعجب كيف أمس أشرب سبع مرات في اليوم والآن أصبر على الأكل، وهذا من بركته.
ومن بركته: أن فيه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتسحر، ولا شك أن الفعل الذي تقتدي فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم خير وبركة.
ومن بركته أيضًا: أن فيه الفصل بيننا وبين صيام أهل الكتاب، فإن فصل ما بيننا وبين أهل الكتاب-كما في صحيح مسلم-: أكلة السحور"، وهذا لا شك أنه من بركاته، فكل شيء يميز
المسلم من الكافر سواء في اللباس أو في الحلي أو في أي شيء فإنه خير وبركة؛ لأنه لا خير في موافقة المشركين أبدًا أو اليهود والنصارى في أي شيء، أما في العبادات فهذا قد يؤدي إلى الشرك والكفر، وأما في العادات؛ فلأن التشبه بهم في الأمور الظاهرة قد يوصل إلى التشبه في الأمور الباطنة، والغالب أنه ما من شخص يتشبه بإنسان إلا وهو يجد في نفسه إعجابًا به، وأنه أهل لأن يشتبه به ويقتدي به، أو ربما يكون في قلبه محبة له، وهذا شر مما قبله بالنسبة للكافرين، إذن هذه ستة أوجه كلها يشملها قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"فإن في السحور بركة"، وربما يكون هناك بركات أخرى معنوية غير ظاهرة لنا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمر به وعلَّله بهذه العلة إلا لما فيه من منافع كثيرة للعباد.
هذا الحديث كما نراه فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحور، هذا الأمر هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ يرى بعض العلماء أنه للوجوب، وهذا على رأي من يرى أن الوصال حرام؛ لأنه إذا كان الوصال بين اليومين حرامًا فالأكل بينهما واجب، فإذا لم يأكل في الليل وجب أن يتسحر لئلا يواصل، ولكن جمهور أهل العلم على أن الأمر هنا للاستحباب.
لو قلت: هل هذا الرأي يؤيده قوله: "فإن في السحور بركة"؟
فالجواب: أن كونه فيه بركة لا ينافي الوجوب، بل هذا ربما نقول: إنه يؤيد القول بالوجوب.
ومن فوائد الحديث أيضًا: إثبات البركة في بعض الأطعمة؛ لقوله: "فإن في السحور بركة"، وإذا كان السحور بركة وهو طعام فقد يكون في الإنسان أيضًا بركة وذلك بأن يكون الإنسان مباركًا على من له اتصال به، كما في حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه في قصة ضياع عقد عائشة رضي الله عنه حتى انحبس الناس على غير ماء، فانزل الله آية التيمم، قال أسيد:"ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكره"، وأمَّا من أنكر أن يكون في الإنسان بركة فهذا إن أراد بإنكاره إنكار أن يكون به بركة جسدية بمعنى: أن جسده مبارك فهذا حق؛ لأنه لا أحد يتبرَّك بجسده أو عرقه أو فضلاته إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يتبرك بفضل وضوئه وكذلك بريقه وعرقه وما أشبه ذلك، أما بوله وغائط، فالصحيح: أن نجس كغيره من البشر، وإن أراد في البركة نفي ما يحصل منه من خير وعلم ونفع مالي أو بدني فهذا غير صحيح، فإن من الناس من يكون فيه بركة على جليسه إما بعلمه أو بخلقه أو بماله أو بنفعه.
بعلمه: كأن ينشر علمًا في الحاضرين فيستفيد الناس منه. هذه بركة، ولهذا وصف الله القرآن بأنه مبارك لما فيه من العلم والخير.
وإما أن يكون فيه بركة بماله مثل: صادقات، هدايا، هابات، وما أشبه ذلك.
وإما أن يكون فيه بركة بنفعه مثل: أن يخدمك ويساعدك وما أشبه هذا.
وإما أن يكون فيه بركة بخلقه: يكون الرجل على خلق حسن ويتعلم مصاحبه منه الأخلاق، وكم من أناس تعلَّموا حسن الأخلاق بمصاحبة من هم على خلق وهذا كثير، حتى إن الإنسان الذي عنده علم قد يصحب عاميًّا فيرى من حسن أخلاقه وبشاشته وطلاقة وجهه وكلامه اللين للناس ما يأخذ منه أسوة، كل هذه من البركات بلا شك.
والحاصل: أن البركة تكون في المخلوقات، ولكن من الذي جعلها فيها؟ الله عز وجل.
ومن فوائد الحديث أيضًا: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم، لكونه يقرن الحكم بالعلة في قوله:"فإن في السحور بركة"، والعلة تختلف قد تكون العلة مما يحث الإنسان على الفعل أو ينفره من الفعل، ففي هذا الحديث الغرض من العلة: الحث على الفعل، وفي قوله تعالى:{إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مفسوخا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]. للتنفير منه، ومثل إلقاء النبي صلى الله عليه وسلم الروثة حين جاء بها ابن مسعود ليستنجي بها فألقاها الرسول وقال:"إنها ركس أو رجسه" للتنفير من ذلك.
* وقد ذكرنا- فيما سبق- أن لتعليل الحكم ثلاث فوائد:
الأولى: سمو الشريعة، ووجهه: أن الشريعة لا تأمر ولا تنهي إلا لحكمة.
الثانية: القياس إذا وجدت العلة في الفرع المقيس؛ يعني: إمكان إلحاق غيره به.
والثالثة: زيادة اطمئنان المكلف.
استحباب الفطر على تهر أو ماء:
630 -
وعن سلمان بن عامرٍ الضَّبِّيِّ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمرٍ، فإن لم يجد فليفطر على ماءٍ فإنَّه طهورٌ". رواه الخمسة، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان والحاكم.
"سلمان" من أقل ما يكون ورودًا في أسماء الصحابة، ولكن يمكن حصرهم إذا رجعنا إلى مثل: كتاب "الإصابة"، قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أفطر" أي: أراد أن يفطر، "فليفطر على تمر"، والخطاب هنا "أحدكم" يعود إلى الصائمين، "فليفطر على تمر" ويحتمل أن يعود على الجميع ويكون "إذا أفطر أحدكم" إن صمتم، وقوله:"فليفطر على تمر"، الفاء هنا رابطة للجواب، واللام لام الأمر، قد يشكل كونها هنا ساكنة والمعروف أنها مكسورة، أما في قوله تعالى:{لينفق ذو سعةٍ من سعته} [الطلاق: 7].
فلماذا كانت ساكنة؟ تسكن لام الأمر إذا دخلت عليها الفاء أو الواو أو ثم، بخلاف
لام التعليل فإنها تكسر مطلقًا، ولهذا نقول: إن من قال: {ليكفروا بما ءاتيناهم وليتمتعوا
…
} [العنكبوت: 66]. من سكن فهو خاطئ؛ لأن اللام للتعليل، فيجب أن تُكسر، أما في قوله تعالى:{فليمدد بسببٍ إلى السماء} [الحج: 15]. صح أن تسكن. وهنا يقول: "فليفطر" لأنها بعد الفاء.
وقوله: "على تمر" التمر الظاهر لي أنه إن فرن مع الرطب صار المراد بالتمر الجاف الذي قد كمل استواؤه وبالرُّطب الرَّطب، أما إذا أطلق فالظاهر أنه يشمل الرطب والتمر الجاف، لكن قد دل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الرطب مقدم على التمر إذا وجد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر على رطب، فإن لم يجد فعلى تمر، فإن لم يجد حسى حسوات من ماء.
وقوله: "فإن لم يجد" هل التمر أو ثمن التمر؟ قد يجد التمر لكن ليس عنده الثمن، وقد يكون عنده الثمن لكن ليس في السوق شيء.
"فإن لم يجد فليفطر على ماء"، ثم علل قال:"فإنه" أي: الماء "طهور"، وطهور بالفتح مطهر طاهر في ذاته، مطهر لغيرها كيف يصح أن يقال: طهور، فهل الإنسان نجس حتى يحتاج إلى أن يطهر معدته؟ لا، ولكنه طهور مطهر للمعدة والأمعاء مما قد يكون فيها من الأذى؛ لأن الماء-كما نعلم- جوهر سيال نافذ فإذا أتى على المعدة وهي خالية بعد الصيام فإنه بلا شك ينظفها، وهو وإن لم يكن فيه غذاء التمر لكن فيه التطهير للمعدة مما يكون من آثار الصوم، ولهذا المعدة في آخر النهار يفوح منها رائحة كريهة، وهذا الماء يطهرها ويزيل عنها هذه الرائحة وما لا نعلمه مما يكون داخلًا في قوله:"فإنه طهور".
ففي هذا الحديث: الإشارة، بل الأمر بالإفطار على التمر، وهل هو واجب؟ لا، ليس بواجب، ولكن الأكمل والأفضل أن يكون على التمر، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد من فوائد الإفطار على التمر: أنه يقوي البصر وهو كذلك مجرَّب، ولهذا كان كثير من الناس يفطرون قبل كل شيء إذا قاموا من النوم بسبع تمرات، وكان شيخنا رحمه الله يقول: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تصبَّح بسبع تمرات من العجوة لم يصبه ذلك اليوم سم ولا سحر". كان يقول شيخنا: الظاهر أن هذا على سبيل التمثيل وأن التمر كله يحصل به الفائدة، وسواء كان هذا القول صوابًا أم غير صواب فإنه يرجى في الإفطار على سبع تمرات أن يكون فيه الخير، ويكون داخلًا في قوله:{فاتقوا الله ما استطعتم} [الأنعام]. فإذا لم تجد العجوة فهذا بدل منها، وعلى كل حال: فإن
الإفطار به يزيد البصر، ونحن تعلم جميعًا أن للحلوى تأثيرا على الدم وقوته ولا سيما إذا كان من التمر، وأظنكم قد علمتم أن الله تعالى هيأ لمريم عند نفاسها الرُّطب الجني؛ لأن النفساء قد يخرج منها دم كثير فتحتاج إلى تعويض، وهذا يدل على أن التمر من أحسن ما يعوض عن هذا الدم الذي سال منها عند الولادة، وأيضًا التمر أسهل من غيره مؤنة؛ لأنه لا يحتاج إلى تعب مثل الرز وغيره لكن التمر لا، ولهذا:"بيت فيه تمر لا يجوع أهله وبيت لا تمر فيه أهله جياع"، وأيضًا فيقول ابن القيم رحمه الله: إن التمر فيه حلوى وفيه غذاء، وهو فاكهة إذا كان رطبًا فقد جمع بين الفاكهة والحلوى والغذاء، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا لم يجل التمر أفطر على ماء، إذا كان عنده ماء وخبز فعلى أيهما يفطر؟ على الماء أتباعا للسُّنة، إذا كان عنده ماء وحلوى يفطر على أي منهما؟ اختلف العلماء؛ منهم من قال: يقدم الحلوى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر التمر والحلوى تشاركه في الحلاوة، ويكون ذكر التمر هنا؛ لأنه أيسر ما يكون عند القوم، ومنهم من قال: نحن في هذه الأمور ينبغي أن نكون ظاهرية لا سيما وأن الرسول صلى الله عليه وسلم علل قال: "فإنه طهور"، ولم يعلل في التمر؛ لأن فائدته ظاهرة، لكن علل في الماء ترغيبًا فيه لئلا يقول قائل: ما فائدة الماء؟ فقال: إنه طهور، والذي يترجح عندي أن نقدم الماء، لكن يشرب من الماء بمقدار ما يحصل به الفطر ثم يأكل مما عنده.
ومن فوائد الحديث: بيان فائدة الماء وتطهيره لبدن الصائم إذا أفطر عليه؛ لقوله: "فإنه طهور".
ومن فوائده أيضًا: تعليل الأحكام الشرعية لقوله: "فإنه طهور"، وحسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قرن الحكم بالعلة.
ومنها أيضًا: اتخاذ ما يعين على امتثال الأمر، يعني: التشجيع على فعل الأمر والإغراء به، من أين يؤخذ؟ من قوله:"فإنه طهور"؛ لأن هذه العلة تبعث النفس على أن تفطر على ماء وإلا فقد يقول قائل-كما أسلفت قريبًا-: ما فائدة الماء؟ فتأخذ منه التشجيع على فعل الأمر، وأن هذا لا يدخل في باب الرياء، وبناء على ذلك يكون تشجيع حفظة القرآن بالمال أو بالكتب أو بغيرها مما يفرحون به ويشجعهم أمر له أصل في الشرع كما أن له أصلًا في الشرع من جهة سلب القاتل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل لمن قتل قتيلًا من الكفار له سلبه، يعني: ثيابه وما عليه خاصة به، وهذا بلا شك تشجيع، وكذلك جعل لكل من دل على حصن من حصون الكفار أو