المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - باب صفة الحج ودخول مكة - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

-

- ‌[كتاب الزكاة]

- ‌مفهوم الزكاة:

- ‌فائدة الزكاة:

- ‌متى فرضت الزكاة

- ‌حكم الزكاة:

- ‌مسألة: هل تُؤخذ الزكاة قهرًا

- ‌مسألة: هل يمنع الدَّين وجوب الزكاة

- ‌زكاة بهيمة الأنعام:

- ‌أحكام مهمة في السوم:

- ‌زكاة الفضة والمعتبر فيها:

- ‌حكم الخلطة في السائمة وغيرها:

- ‌زكاة البقر ونصابها:

- ‌مشروعية بعث السُّعاة لقبض الزكاة:

- ‌لا زكاة على المسلم في عبيده وخيله:

- ‌للإمام أن يأخذ الزكاة قهرًا ويعاقب المانع:

- ‌شروط الزكاة:

- ‌حكم زكاة البقر العوامل:

- ‌فائدة فيما لا يشترط فيه الحول:

- ‌الزكاة في مال الصبي:

- ‌الدعاء لمخرج الزكاة:

- ‌حكم لتعجيل الزكاة:

- ‌زكاة الحبوب والثمار:

- ‌مسألة: اختلاف العلماء في نصاب الفضة

- ‌أنواع الحبوب التي تجب فيها الزكاة:

- ‌خرص الثمر قبل نضوجه:

- ‌حكم زكاة الحلي:

- ‌فائدة في جواز لبس الذهب المحلق:

- ‌زكاة عروض التجارة:

- ‌كيف نؤدي زكاة عروض التجارة

- ‌زكاة الركاز:

- ‌زكاة الكنز والمعادن:

- ‌1 - باب صدقة الفطر

- ‌صدقة الفطر من تجب

- ‌فائدة: الواجبات تسقط بالعجز:

- ‌الحكمة من صدقة الفطر

- ‌مقدار صدقة الفطر ومما تكون

- ‌وقت صدقة الفطر وفائدتها:

- ‌2 - باب صدقة التَّطوُّع

- ‌مفهوم صدقة التطوع وفائدتها:

- ‌استحباب إخفاء الصدقة:

- ‌فضل صدقة التطوع:

- ‌اليد العليا خير من اليد السفلى:

- ‌أفضل الصدقة جهد المقل:

- ‌فضل الصدقة على الزوجة والأولاد:

- ‌حكم صدقة المرأة من مال زوجها:

- ‌جواز تصدق المرأة على زوجها:

- ‌كراهية سؤال الناس لغير ضرورة:

- ‌مسائل مهمة:

- ‌3 - باب قسم الصدقات

- ‌أقسام أهل الزكاة:

- ‌متى تحل الزكاة للغني

- ‌من اللذين تتجل لهم الصدقة:

- ‌فائدة في أقسام البيئات:

- ‌الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لآله:

- ‌مسألة مهمة:

- ‌آل النبي الذين لا تحل لهم الصدقة:

- ‌حكم أخذ موالي آل الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقة

- ‌جواز الأخذ لمن أعطي بغير مسألة:

-

- ‌كتاب الصيام

- ‌مفهوم الصيام وحكمه:

- ‌فوائد الصيام:

- ‌النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين:

- ‌كيف يثبت دخول رمضان

- ‌يقبل خبر الواحد في إثبات الهلال:

- ‌حكم تبييت النية في الصيام:

- ‌مسألة: ما الحكم إذا تعارض الرفع والوقف

- ‌حكم قطع الصوم

- ‌فضل تعجيل الفطر:

- ‌فضل السُّحور:

- ‌النهي عن الوصال:

- ‌حكمة مشروعية الصيام:

- ‌هل تبطل الغيبة الصيام

- ‌حكم القبلة للصائم:

- ‌حكم الحجامة للصائم

- ‌فائدة في ثبوت النسخ في الأحكام:

- ‌حكم الفصد والشرط للصائم:

- ‌حكم الاكتحال للصائم:

- ‌حكم من أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم:

- ‌حكم من استقاء وهو صائم:

- ‌حكم الصيام في السفر:

- ‌جواز فطر الكبير والمريض:

- ‌حكم من جامع في رمضان:

- ‌مسألة: هل المرأة زوجة الرجل عليها كفارة

- ‌هل على من تعمد الفطر كفارة

- ‌حكم الصائم إذا أصبح جنبًا:

- ‌حكم من مات وعليه صوم:

- ‌1 - باب صوم التَّطوُّع وما نهي عن صومه

- ‌فضل صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء:

- ‌فائدة: حكم الاحتفال بالمولد النبوي:

- ‌فضل صيام ستة أيام من شوال:

- ‌فضل الصوم في شعبان:

- ‌حكم صوم المرأة بغير إذن زوجها:

- ‌فائدة: حكم سفر المرأة بغير إذن زوجها:

- ‌النهي عن صيام يوم الفطر ويوم النحر:

- ‌النهي عن صيام أيام التشريق:

- ‌فائدة في حقيقة الذكر:

- ‌حكم صيام يوم الجمعة:

- ‌حكم صيام يوم السبت والأحد تطوعًا:

- ‌حكم الصيام إذا انتصف شعبان:

- ‌النهي عن صوم يوم عرفة للحاج:

- ‌النهي عن صوم الدهر:

- ‌2 - باب الاعتكاف وقيام رمضان

- ‌مفهوم الاعتكاف وحكمه:

- ‌فضل العشر الأواخر من رمضان:

- ‌فائدة في ذكر أقسام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌آداب الاعتكاف وأحكامه:

- ‌مسألة مهمة:

- ‌ليلة القدر

- ‌فضل المساجد الثلاثة:

- ‌فائدة:

-

- ‌كتاب الحج

- ‌تعريف الحج لغةً واصطلاحًا:

- ‌متى فرض الحج

- ‌1 - باب فضله وبيان من فرض عليه

- ‌شروط الحج المبرور:

- ‌جهاد النساء: الحج والعمرة:

- ‌حكم العمرة:

- ‌حكم حج الصبي:

- ‌حكم الحج عن الغير:

- ‌حكم سفر المرأة بغير محرم للحج والخلوة:

- ‌حكم من حج عن غيره قبل الحج عن نفسه:

- ‌فرض الحج في العمر مرة واحدة:

- ‌2 - باب المواقيت

- ‌المواقيت: تعريفها وبيان أقسامها:

- ‌3 - باب وجوه الإحرام وصفته

- ‌4 - باب الإحرام وما يتعلق به

- ‌استحباب رفع الصوت بالتلبية:

- ‌جواز استعمال الطيب عند الإحرام:

- ‌النهي عن النكاح والخطبة للمحرم:

- ‌من محظورات الإحرام قتل الصيد:

- ‌ما يجوز للمحرم قتله:

- ‌فائدة: أقسام الدواب من حيث القتل وعدمه:

- ‌حكم الحجامة للمحرم:

- ‌تحريم مكة:

- ‌تحريم المدينة:

- ‌5 - باب صفة الحج ودخول مكة

- ‌صفة دخول مكة:

- ‌صفة الطواف:

- ‌وقت رمي جمرة العقبة والوقوف بعرفة والمزدلفة:

- ‌متى تقطع التلبية

- ‌صفة رمي الجمرات ووقته:

- ‌وقت الحلق أو التقصير:

- ‌صفة التحلل عند الحصر وبعض أحكامه:

- ‌التحلل الأصغر:

- ‌عدم جواز الحلق النساء:

- ‌مسألة حكم قص المرأة لشعر رأسها

- ‌استحباب الخطبة يوم النحر:

- ‌حكم طواف الوداع في الحج والعمرة:

- ‌فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي:

- ‌6 - باب الفوات والإحصار

- ‌الاشتراط عن الإحرام وأحكامه:

- ‌أسئلة مهمة على الحج:

- ‌كتاب البيوع

- ‌1 - باب شروطه وما نهي عنه

- ‌أطيب الكسب:

- ‌تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام:

- ‌تحريم بيع الميتة مثل الدخان والدم:

- ‌تحريم بيع الأصنام وما يلحق بها من الكتب المضلة والمجلات الخليعة:

- ‌النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن:

- ‌جواز اشتراط منفعة المبيع للبائع:

- ‌جواز بيع المدبَّر إذا كان على صاحبه دين:

- ‌حكم أكل وبيع السمن الذي تقع فيه فأرة:

- ‌بطلان مخالفة الشرع:

- ‌حكم أمهات الأولاد:

- ‌النهي عن بيع فضل الماء وعسب الفحل:

- ‌النهى عن بيع الولاء وهبته:

- ‌النهي عن بيع الحصاة وبيع الغرر:

- ‌مسألة: هل يجوز بيع المسك في فأرته

- ‌بيع الجهالة:

- ‌النهى عن بيعتين في بيعة:

- ‌السلف والبيع:

- ‌بيع العُربان:

- ‌حكم بيع السلع حيث تُبتاع:

- ‌مسألة بيع الدَّين:

- ‌بيع النَّجش:

- ‌النهي عن المحاقلة والمزابنة وما أشبهها:

- ‌النهى عن تلقِّي الرُّكبان:

- ‌بيع الرجل على بيع أخيه المسلم:

- ‌حكم التفريق بين ذوي الرحم في البيع:

- ‌حكم التسعيرة:

- ‌ الاحتكار

- ‌بيع الإبل والغنم المصرَّاة:

- ‌تحريم الغش في البيع:

- ‌جواز التوكيل في البيع والشراء:

- ‌بيع الغرر:

- ‌بيع المضامين:

الفصل: ‌5 - باب صفة الحج ودخول مكة

والشاهد من هذا قوله: "إني حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة"، وهذا تشبيه لأصل التحريم بأصل التحريم؛ وذلك لأن تحريم حرم مكة أشد وأشمل، لأن حرم المدينة يستثنى منه أشياء هي حلال وهي في حرم مكة حرام، فيكون التشبيه هنا في أصل التحريم لا في وصفه، فإن حرم المدينة فيه أشياء تحل ولا تحل في حرم مكة، وحرم المدينة من عير إلى ثور، وعير وثور جبلان معروفان في المدينة، قال العلماء: والمسافة -أي مسافة حرم المدينة- بريد في بريد، والبريد: أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، فيكون البريد اثنى عشر ميلاً؛ يعني: اثنى عشر ميلاً في اثنى عشر ميل في واحد وستة من عشرة يساوي ثماني عشرة كيلو وزيادة.

من فوائد الحديث: أولاً: نسبة الشيء إلى من بلغه لقوله: "إن إبراهيم حرّم مكة"، ومثله أن الله نسب القرآن إلى جبريل ونسبه أيضًا إلى محمد -عليهما الصلاة والسلام- فقال تعالى:{لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} بالتكوير: 19 - 20]. فنسبة هنا إلى جبريل، وقال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41]. فنسبة إلى محمد، فنسبة الشيء إلى المبلغ سائغة شرعًا ولغة.

ومن فوائد الحديث: رحمة هذين الرسولين بأهل هاتين البلدتين وشفقتهما على أهلهما، فإبراهيم دعا لأهل مكة، ومحمد صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة.

ومن فوائدة: ثبوت الحرم للمدينة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إني حرمتها كما حرم إبراهيم مكة".

ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خصّ الدعوة للمدينة بالمدّ والصاع وهو الطعام الذي يقدر بالأصواع والأمداد، وهذا لا يستلزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم دعا في كل شيء وإنما دعا بالطعام، ولذلك نجد أن الطعام في المدينة يكون دائمًا متوفرًا ويكون أيضًا مباركًا في زرعه وجنيه.

ومن فوائد حديث عليّ بيان حد حرم المدينة، وأنه ما بيبن عير إلى ثور، ثم قال المؤلف:

******

‌5 - باب صفة الحج ودخول مكة

نقول: إنه من شروط العبادة: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما الركنان الأساسيان في كل عبادة، فلا تقبل عبادة بشرك، ولا تقبل عبادة ببدعة، فالبدعة تنافي الاتباع، والشرك ينافي الإخلاص، ومن ثم احتاج العلماء رحمهم الله إلى بيان صفات العبادات، فبينوا صفة الوضوء، وصفة الصلاة، وصفة الصيام، وصفة الحج، وصفة الزكاة

وغير ذلك حتى يعبد الناس الله عز وجل على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 394

وقول المؤلف: "ودخول مكة" يعني: كيف يدخل مكة؟ ومن أين يدخل مكة؟ ومتى يدخل مكة؟ ثلاثة أشياء: ثم بدأ المؤلف بحديث جابر الطويل المشهور في صفة الحج الذي جعله بعض العلماء عمدة صفة الحج وجعله منسكًا كاملًأ؛ لأن جابرًا رضي الله عنه ضبط حج الرسول صلى الله عليه وسلم من أوله إلى آخره، فذكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في المدينة عشر سنين لم يحج، وأذن في الناس في العاشرة، إذن بهم أنه حاج، قال: فقدم المدينة بشر كثير يشهدون حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون أحكامه من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة حتى قدروا بمائة ألف من مائة وأربع وعشرين ألفًا كل الصحابة، يعني: يمثل خمس أسداس المسلمين تقريبًا حتى كانوا -كما قال جابر- بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفه وعن يمينه وعن شماله مد البصر، عالم عظيم يريدون أن يأخذوا من إمامهم -صلوات الله وسلامه عليه- كيف يعبدون الله عز وجل بهذا النسك العظيم، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وقد بقى خمسة أيام من ذي القعدة خرج في الخامس والعشرين في يوم السبت بعد أن أذن الناس في خطبة الجمعة كيف يحرمون، وسئل: ماذا يلبس المحرم؟ وأوضح للناس مبادئ النسك وبقي في ذي الحليفة صلى الله عليه وسلم وبات بها، وفي اليوم التالي اغتسل ولبس إحرامه ثم أحرم، والمؤلف رحمه الله اختصر الحديث اختصارًا تامًا ولم يأت منه إلا ما يتعلق بالحج.

707 -

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج، فخرجتا معه، حتى إذا أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس، فقال: اغتسلي واستثفري بثوب، وأحرمي، وصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء حتَّى إذا استوت به على البيداء أهل بالتَّوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك. حتَّى إذا أتينا البيت استلم الرُّكن، فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم أتى مقام إبراهيم فصلَّى، ورجع إلى الرُّكن فاستلمه، ثمَّ خرج من الباب إلى الصَّفا، فلمَّا دنا من الصَّفا قرأ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. أبدءوا بما بدأ الله به فريقي الصَّفا، حتَّى رأى الببيت، فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كلِّ شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثمَّ دعا بين ذلك ثلاث مرَّات، ثمَّ نزل من الصَّفا إلى المروة، ففعل على المروة حتَّى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى حتَّى إذا صعد سعى إلى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصَّفا

". وذكر الحديث، وفيه: "فلما كان يوم التَّروية توجَّهوا إلى منى، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى بها الظُّفر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر،

ص: 395

ثم مكث قليلاً حتَّى طلعت الشَّمس، فأجاز حتَّى أتى عرفة، فوجد القبَّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتَّى إذا زالت الشَّمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب النَّاس، ثمَّ أذَّن ثمَّ أقام، فصلَّى الظُّهر، ثم أقام فصلَّى العصر، ولم يصلِّ بينهما شيءًا، ثمَّ ركب حتَّى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتَّى غربت الشَّمس، وذهبت الصُّفرة قليلاً، حتَّى إذا غاب القرص، دفع، وقد شنق للقصواء الزِّمام حتَّى إنَّ رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيُّها النَّاس، السَّكينة، السَّكينة، وكلَّما أتى جبلاً أرخى لها قليلاً حتَّى تصعد، حتَّى أتى المزدلفة، فصلَّى بها المغرب والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ولم يسبِّح بينهما شيئًا، ثمَّ اضطجع حتَّى طلع الفجر، فصلَّى الفجر حين تبيَّن له الصبح بأذانٍ وإقامةٍ ثمَّ ركب حتَّى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا، وكبَّر، وهلَّل، فلم يزل واقفًا حتَّى أسفر جدُّا، فدفع قبل أن تطلع الشَّمس، حتَّى أتى بطن محسِّر فحرَّك قليلاً، ثمَّ سلك الطَّريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتَّى الجمرة الَّتي عند الشَّجرة، فرماها بسبع حصبات، يكبِّر مع كلِّ حصاةٍ منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثمَّ انصرف إلى المنحر فنحر، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلَّى بمكَّة الظُّهر". رواه مسلم مطولاً.

قوله: "حتى إذا أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء"، أتى بكلمة فاء؛ لأنها معطوفة على جملة هي جواب الشرط، يعني: حتى إذا أتينا ذا الحليفة نزل وصار كذا وكذا فولدت، و"ذو الحليفة" هي مهل أهل المدينة، وتعرف الآن بأبيار على، "وأسماء بنت عميس" هي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولدت محمد بن أبي بكر، فأرست إلى النبي ماذا تصنع، ومن شرط صحة الطهارة عن موجب للطهارة أن ينقطع ذلك الموجب، ولهذا لا يصح التوضؤ عن البول والإنسان يبول ولا يصح التوضؤ عن لحم الإبل والإنسان يأكل اللحم، فالطهارة عن موجب لها لا تصح إلا بعد انقطاع الموجب؛ إذن فالغسل الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أسماء للإحرام.

قال: "واستثفري بثوب وأحرمي"، كيف تصنع من الآن إلى انقطاع النسك أو كيف؟ ولهذا لم يبين لها النبي صلى الله عليه وسلم كيف تصنع في المستقبل، لم يقل لها كما قال لعائشة:"افعلي كما يفعل الحاج غير ألَاّ تطوفي بالبيت"؛ لأنها تريد حل المشكلة الحاضرة، وبه نعرف خطأ ابن حزم رحمه الله

ص: 396

في هذه المسألة حيث قال: إن النفساء يجوز لها أن تطوف بالبيت بخلاف الحائض، قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل لأسماء: لا تطوفي بالبيت وقاله لعائشة، والجواب على هذا سهل أن نقول: إن أسماء إنما أرادات أن تسأل عما تصنع الآن، وبينهما وبين مكة والوصول للبيت مفاوز بخلاف عائشة فإن ذلك كان بسرف قريبة من مكة، قال:"اغتسلي واستثفري بثوب" يعني: تلجمي به، ويسمى باللغة الحاضرة: التحفض؛ يعني: تضع على فرجها شيء لأجل أن تمنع الخارج عند الاغتسال.

قال: "وأحرمي"، وأطلق الإحرام؛ لأنه في ذي الحليفة أحرم الناس على الوجوه الثلاثة التي سبق في حديث عائشة بحج وعمرة وبهما.

يقول: "وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به"؛ يعني: لما اقترب من الحديبية أهلّ بالتوحيد أي رفع صوته بالتوحيد قائلاً: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، رفع صوته بهذه الكلمات العظيمة التي سمّاها جابر توحيدًا؛ لأنه تضمنت التوحيد والإخلاص. قال:"لبيك اللهم لبيك" هذا حرف جواب للداعي؛ ولهذا حتى الآن إذا دعاك شخص فقلت: "لبيك" يعني: أجبت دعوته، ولكن التثنية هنا يراد بها مطلق التكرار لا حصره، فهي بمعنى إجابة بعد إجابة؛ وهي منصوبة على الفعل المطلق المحذوف عامله، يعني: ألبي لك تلبية بعد تلبية، وقوله:"اللهم" يعني: يا الله، فهي منادى حذفت منها ياء النداء وعوض عنها الميم، وقوله:"لبيك" من باب التوكيد؛ لأن المقام مقام عظيم ينبغي فيه توكيد القول، "لبيك لا شريك لك لبيك" هذا توكيد آخر "لا شريك لك" في أي شيء؟ في كل شيء، فلا شريك لله تعالى في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته، ولا يستثنى من ذلك شيء؛ لأن الله لا يشركه أحد في هذا أبدًا، ثم ثال:"إن الحمد والنعمة لك والملك"، "إنّ" أفصح وأعم من "أنّ" وإلا فإن بعض النحويين أجاز الفتح، والصواب الكسر لأنه أعم؛ لأن "إنّ" هنا اسئنافية، لكن "أنّ" تعليلية، كأنه لو قال:"أنّ الحمد والنعمة لك" كأنه يقول بناء على ذلك: أن الحمد والنعمة لك، مع أن الله تعالى يحمد على كل شيء فهي أعم، "إنّ الحمد والنعمة لك"، "الحمد" وصف المحمود بالكمال على كماله وعلى إنعامه، والنعمة: العطاء، وكل ذلك لله وحده، فالمنعم هو الله، والمحمود هو الله، هو المستحق لذلك وحده، ولذلك قال:"والملك"، لله أيضًا ملك الذوات والأعيان وملك التصرف والأفعال، فالله مالك للسموات والأرض في أعيانها والتصرف فيهما، قال:"لا شريك لك" أي: في ملكك ولا في نعمتك ولا في الحمد الذي تستحقه، كانوا في الجاهلية يلبون بنحو هذه التلبية، لكن يقولون:"لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك"، ما دام أنه له ومملوك فكيف

ص: 397

يكون شريكًا؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28]. ما الجواب؟ الجواب واضح؛ يعني: هل عبيدكم يشاركونكم في الأموال التي بين أيديكم التي أعطيناكم إياها، ما هو الجواب؟ الجواب: لا هذا تعرفه أنت بنفسك، كيف تجعل لله عز وجل شريكًا يكون مملوكًا له في عبادته، أظن الإلزام واضح، إذا كنتم أنتم لا تجيزون ولا تسوغن أن يكون لكم شريك فيما رزقكم الله، فكيف تسوغون أن يكون لله شريك في ملكه الذي خلقه، هذه الجملة لبي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يسمع الناس يقولون:"لا إله إلا الله"، وآخرون يكبِّرون ولا ينكر عليهم؛ لأن المقصود هو الذكر وتعظيم الله، ولكن لا شك أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أولى.

يستفاد من هذه الجملة من الحديث: أنه إذا أحرم من ذي الحليفة فلا يلبِّي إلا إذا استوت به على البيداء، ولكن ابن عمر أنطر ذلك وقال:"بيداؤكم هذه التي تقولون -يعني: ينكر هذا -ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد"؛ إذن أهل قبل أن تستوي به ناقته على البيداء، ولكن الجمع بين قول جابر وقول ابن عمر قريب وظاهر؛ وهو أن ابن عمر سمعه حين استوت به ناقته عند المسجد، وجابر سمعه حين استوت به على البيداء، وكل إنسان حكى ما سمع، وهذا هو الواجب على كل إنسان أن يحكي ما سمع أو ما ثبت عنده بطريق صحيح فلا منافاة؛ ولهذا وردت أحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أهلّ دبر الصلاة قبل أن يركب، ومع هذا فالجمع بينه وبين حديث جابر وابن عمر قريب أيضًا، كما جمع ذلك ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه الحاكم وغيره، وهو أن الناس يدركون النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، فأدركه قوم عند صلاته وقالوا: أهلّ بعد الصلاة، وأدركه قوم بعد أن ركب عند المسجد وقالوا: أهلّ حين استوت به ناقته عند المسجد وصدقوا، وأدركه آخرون حين استوت به على البيداء وقالوا: أهل حين استوت به على البيداء وصدقوا، والجمع هذا قريب وليس فيه إشكال.

ومن فوائد الحديث: إنه ينبغي للإنسان أن يستحضر في مجيئه إلى مكة وإحرامه، إنما يفعل ذلك تلبية لدعاء الله، فأين الدعاء؟ قال الله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] فالأذان بأمر الله يعتبر أذانًا من الله، فإذا كان الله هو الذي أذن فأنا أجيبه وأقول: "لبيك اللهم

الخ".

ص: 398

ثم قال جابر رضي الله عنه: "حتى إذا أتينا البيت استلم الركن" يعني: الكعبة، "استلم الركن" أي: مسحه بيده، أي اليدين؟ اليمنى؛ لأن اليد اليمنى تقدم للإكرام والتعظيم، واليد اليسر، في الإهانة، فمسحه بيده اليمنى، قال:"فرمل ثلاثًا ومشى أربعً"، قال العلماء: الرّمل هو سرعة المشي مع مقاربة الخطا، "ثلاثا" أي: ثلاثة أشواط، "ومشى أربعًا" يعني: أربعة أشواط، وفيه دليل على أن الطواف سبعة أشواط، وأن طواف القدوم يرمل فيه الإنسان الأشواط الثلاثة الأولى، ويمشي في الأشواط الأربعة الباقية، وفيه دليل أيضًا على أن الرّمل من الحجر إلى الحجر وليس من الحجر إلى الركن اليماني كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء.

فإن قلت: ما الحكمة من الرّمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى دون الأربعة الباقية؟

فالجواب: أن الحكمة تذكير المؤمنين بأصل هذا الرّمل؛ لأن أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قاضي أهل مكة في غزوة الحديبية على أن يرجع من العام القادم معتمرًا، أهل مكة أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والعدو يحب الشماتة بعدوه، فقال بعضهم لبعض: دعونا نجلس هنا ننظر إلى هؤلاء القوم الذين وهنتهم حمى يثرب كيف يطوفون؛ لأن عندهم أن هؤلاء قوم أصابهم المرض وأنهك قواهم، يريدون بذلك الشماتة، وجلسوا في شمال الكعبة وقالوا: ننظر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ليظهروا الجلد والقوة والنشاط ليغيظوا الكفار، وإغاظة الكفار أمر مقصود لله عز وجل كما قال الله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29].

وقال تعالى: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]. أراد النبي صلى الله عليه وسلم من قومه أن يغيظوا الكفار، لكنه أمرهم أن يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني دون ما بين الركنين؛ لأنهم بين الركنين يختفون عن المشركين، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفق بأصحابه، ولهذا جعل الرَّمل في الأشواط الأولى؛ لأن الثلاثة أقل من الأربعة، فاعتبر الأقل في جانب الصعوبة، الرّمل أصعب من المشي العادي، فجعل له الأقل وهي ثلاثة من سبعة، ثم إن اختيار الثلاثة دون الأربعة فيه القطع على وتر، والله سبحانه وتعالى إذا تأملنا مشروعاته وجدنا غالبها مقطوعًا على وتر، ففيه فائدتان؛ يعني: في كون الرّمل خاصًّا بالثلاثة الأولى فقط، أولاً: أن اعتبار الأخذ بالأقل في باب المشقة، وثانيًا: القطع على وتر، لكن في حجة الوداع رمل النبي صلى الله عليه وسلم في الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر؛ لأن العلة التي من أجلها شرع الحكم -وهو إغاظة الكفار الذي يشاهدوه- انقطعت، فصار الرّمل من الحجر إلى الحجر؛ لأنه صار الآن عبادة ولم يكن القصد منه الإغاظة؛ لأن الإغاظة

ص: 399

انتهت، لكن الآن عبادة فأكملت الأشواط الثلاثة فصار الرّمل من الحجر إلى الحجر، هل أنا أذكر في هذه الحال حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قدموا في عمرة القضاء، أو أنني أذكر المعنى الأصلي المقصود وهو إغاظة الكفار، أو الأمرين؟ إذا تذكرت الأمرين فهو خير؛ يعني: أتذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأقتدي بهم، وأيضًا أتذكر أن من شأن المسلم أن يفعل ما يغيظ الكفار.

ثم قال: "فرمل ثلاثًا ومشى أربعًت"، وجعل المشي في الأربعة إبقاء على أصحابه حتى لا يتعبوا من الطواف في جميع البيت على وجه الرمل.

"ثم أتى مقام إبراهيم" وهو الذي قام عليه حين بناء الكعبة، فإن الكعبة لما ارتفع بناؤها احتاجت إلى شيء يقوم عليه حتى يدرك أعلى البناء وهو حجر، وهذا الحجر جعل الله فيه آية وهي أثر قدمي إبراهيم، وقد شهده أوائل هذه الأمة، ولكنه انمحى بكثرة مسه من الناس انمحى وزال، وقد أشار إلى هذا أبو طالب في قوله:[الطويل]

ومواطئ إبراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافسًا غير ناعل

تقدم إلى مقام إبراهيم يقول: "فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} " لم يذكرها المؤلف، حذف المؤلف لهذه الآية حذف مخل رحمه الله، وكان عليه أن يقولها؛ لأنها من صفة الحج، فإنه يسن للإنسان إذا فرغ من الطواف أن يتقدم إلى مقام إبراهيم وأن يقرأ الآية، وفائدة قراءتها: شعور الإنسان بأنه يتقدم إلى هذا المقام فيصلي به امتثالاً لأمر الله عز وجل، ولا شك أن شعور الإنسان حين يفعل العبادة بأنه يفعلها امتثالاً لأمر الله أن هذا يزيد في إيمانه بخلاف الذي يفعل العبادة وهو غافل عن هذا المعنى، فإن العبادة تكون كالعادة؛ ولهذا قال المتكلمون عن النيات: إن النية نوعان: نية العمل، ونية المعمول له، والأخيرة أعظم مقامًا من الأولى، لأن نية العمل تأتي ضرورة، فما من إنسان عاقل يقوم بعمل إلا وقد نواه وقصده، حتى قال بعض العلماء: لو كلَّفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف ما يطاق، فالمقام الأسمى والأعلى نية المعمول له التي تغيب عنا كثيرًا، لو أننا عندما نتوضأ نشعر بالإخلاص والمتابعة فكيف نتذكر؟ نتذكر أن الله أمرنا بالوضوء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. هذا الإخلاص، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ أمامنا هذا هو المتابعة؛ إذن إذا فرغت من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم واقرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].

فيستفاد من هذا: أنه ينبغي إذا فرغ من الطواف أن يتقدم فورًا إلى مقام إبراهيم بدون تأخر ويقرأ هذه الآية، كلمة "تقدم إلى مقام إبراهيم" هل تشعر بأن المقام في مكانه الحالي أو يحتمل أنه في مكانه كما قيل الذي عند باب الكعبة؟ الحقيقة أنها لا يستفاد منها ولا هذا؛ لأن التقدم

ص: 400

في كلا الأمرين إن كان في مكانه الآن فهو يتقدم، إن كان كما قيل: إنه لاصق بالكعبة فهو أيضًا يتقدم، المقام اختلف المؤرخون فيه هل هو في مكانه الحالي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنه كان لاصقًا بالكعبة وأخّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين كثر الناس وكثر الطائفون الذين يطوفون بين يدي المصلين؟ وأكثر المؤرخون على أنه في مكانه الحالي وأنه لم يجر فيه تغيير.

قال: "ثم رجع إلى الركن فاستلمه" أي: بعد أن صلى ركعتين، واعلم أن المشروع في هاتين الركعتين التخفيف، وأن يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وأنه ليس قبلهما دعاء، ولا بعدهما دعاء والحكمة من تخفيفهما: أن تفسح المجال لمن هو أحق منك، فالناس ينتهون من اطواف أرسالاً، فإذا انتهى الطائفون وأنت حاجز المكان تطيل الصلاة، فمعناه: أنك حجزت مكانًا لمن هو أحق منك فلا تطل الصلاة، ثم إنه قد يكون المطاف مزدحمًا فيحتاج الطائفون إلى المكان الذي أنت فيه أيضًا، فمن ثم خفف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة واختار أن يقرأ بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ لأن إمام الحنفاء هو صاحب هذا المقام وهو إبراهيم الذي قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]. بعد الركعتين لا يدعو وهل للمقام دعاء؟ إني وجدت كتابًا مكتوب فيه "دعاء المقام"، مكتوب مطبوع بحرف جيد، فهذا ليس له أصل، لا يوجد دعاء للمقام ولا دعاء قبل الركعتين ولا بعدهما، ولكن المشكل أن مثل هذه البدع صارت كأنها قضايا مسلمة مشروعة، حتى إن الحاج يرى أن حجه ناقص إن لم يفعل هذا، وكل هذا بسبب تقصير العلماء أو قصورهم، وإلا فمن الممكن أن يعطى هؤلاء الحجاج مناسك من بلادهم، يقول:"ثم رجع إلى الركن فاستلمه" الركن؛ يعني: الحجر الأسود.

وفيه: استحباب الرجوع إلى الركن بعد الركعتين لاستلامه، فإن لم يتمكن فلا إشارة؛ لأن العبادات مبنية على النقل فقط، فإذا لم يتمكن فلا إشارة؛ لأن ذلك لم يرد، ولهذا قلنا: إن الركن اليماني إذا لم يستطع استلامه فإنه لا يشير إليه فيكون هنا استلام بلا تقبيل ولا إشارة عند التعذر.

قال: "ثم خرج إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ابدءوا بما بدأ الله به"؛ قوله: "قرأ: {إِنَّ الصَّفَا} فائدة القراءة بهذه الآية إشعار نفسه بأنه إنما اتجه إلى السعي امتثالاً لما أرشد الله إليه في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. وليعلم الناس أنهم يسعون بين الصفا والمروة من أجل أنهما من شعائر الله، وليعلم الناس أيضًا أنه ينبغي للإنسان إذا فعل عبادة أن يشعر نفسه بأنه يفعلها طاعة لله عز وجل كما لو توضأ الإنسان

ص: 401

فينبغي أن يستشعر عند وضوئه أنه يتوضأ امتثالًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. ويشعر أنه يتوضأ وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه يتّبعه في وضوئه، وهكذا جميع العبادات، فإذا استشعر الإنسان عند فعل العبادة أنه يفعلها امتثالًا لأمر الله فإنه يجد لها لذة وأثرًا طيبًا وقوله:"ابدءوا بما بدأ الله به"؛ لأن الله بدأ بالصفا فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} وفيه إشارة إلى أن الله إذا بدأ بشيء كان دليلًا على أنه مقدم إلا بدليل.

يقول: "فبدأ بالصفا فرقي الصفا" يعني: رقي عليه، "حتى رأى البيت"؛ أي: الكعبة، "فاستقبل القبلة فوحد الله وكبّره"؛ أي قال:"الله أكبر"، ووحد الله يعني: بالذكر مثل: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".

وقال -يعني: بعد التكبير والتوحيد-: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، وقد سبق لنا مرارًا شرح هذه الجملة.

وقوله: "لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" في هذا دليل على جواز السجع بشرط أني كون غير متكلف، "لا إله إلا الله وحده" يعني: لا معبود حق إلا الله وحده، "أنجز وعده" بماذا؟ بنصر المؤمنين، فإن الله أنجز لرسوله ما وعده، "ونصر عبده" يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد به الجنس، أي: نصر كل عبد له، "وهزم الأحزاب وحده"، الأحزاب في غزوة الأحزاب، فإنه عز وجل هزمهم بالريح التي أرسلها عليهم والرعب الذي ألقاه في قلوبهم، ويحتمل أن يراد بالأحزاب هنا ما هو أعم؛ يعني: كل حزب يحارب الله فالله سبحانه وتعالى يهزمه كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20]. ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات؛ إذن يقول هذا الذكر ثم يدعو، ثم يقوله مرة أخرى ثم يدعو، ثم يقوله مرة ثالثة ثم ينزل؛ لأنه قال:"ثم دعا بين ذلك"، والبينية تقتضي أن يكون محاطًا بالذكر من الجانبين، فيكون الدعاء مرتين والذكر ثلاث مرات.

"ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة" يقول: "نزل إلى المروة ماشيًا" بدليل قوله: "حتى إذا نصبت قدماه في بطن الوادي سعى"، وبطن الوادي هو مجرى السيل ومكانه ما بين العلمين الأخضرين الآن، وكان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مسيل المياه النازلة من الجبال، وإنما سعى؛ لأن أصل السعي من أجل سعي أم إسماعيل رضي الله عنها فإن أم إسماعيل لما وضعها إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي وولدها في هذا المكان وجعل عندهما ماء وتمرًا، فجعلت الأم تأكل من التمر وتشرب من الماء وترضع الطفل، فنفذ التمر والماء وجاعت الأم وعطشت ونقص لبنها فجاع الطفل، فجعل الطفل يصبح

ص: 402

ويتلوَّى من الجوع، فأمه -من أجل الأمومة- رحمته وخرجت إلى أدنى جبل إليها لعلها تسمع أحدًا أو ترى أحدًا، فصعدت الصفا وجعلت تستمع وتنظر فلم تجد أحدًا، فرأت أقرب جبل إليها بعد الصفا المروة فاتجهت إليه تمشي وهي تنظر الولد فلما نزلت بطن الوادي احتجب الولد عنها فجعلت تركض ركضًا شديدًا من أجل أن تلاحظ الولد، فلما صعدت من المسيل مشت حتى أتت المروة ففعلت ذلك سبع مرات وهي في أشد ما يكون من الشدة بالنسبة إليها جائعة عطشى وبالنسبة إلى الولد، وعند الشدة يأتي الفرج؛ فبعث الله عز وجل جبريل فضرب بجناجه الأرض في مكان زمزم فنبع الماء بشدة فجعلت أم إسماعيل تحجز الماء تخشى أن يضيع من شدة شفقتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عينًا معينا لكنها حجزتها ثم شربت من هذا الماء، فكان هذا الماء طعامًا وشرابًا، وجعلت تسقي الولد، والحديث ذكره البخاري- مطولًا، المهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما انتحبت قدماه في بطن الوادي سعى من أجل أن الناس إنما سعوا من أجل سعي أم إسماعيل، يقول: "حتى أتى المروة"،

"ففعل على المروة كما فعل على الصفا" فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سبع مرات، فلما كان آخر طواف على المروة نادى وهو على المروة وأمر الناس أن من لم يسق الهدي منهم أن يجعلوا نسكهم عمرة، فجعلوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالوا: الحلّ كله يا رسول الله؟ قال: "الحلِّ كله"، قالوا: نخرج إلى منى وذكر أحدنا يقطر منيًّا؛ يعني: من جماع أهله؟ قال: "افعلوا ما آمركم به، فلولا أني معي الهدي لأحللت معكم"، فأحلّوا رضي الله عنهم، أما النبي صلى الله عليه وسلم ومن ساق الهدي فلم يحلّ، ثم نزلوا بالأبطح في ظاهر مكة، فلما كان يوم التروية خرجوا إلى منى، فمن كان منهم باقيًا على إحرامه، فهو مستمر في إحرامه ومن كان قد أحل أحرم بالحج من جديد.

يقول: "فلما كان يوم التَّروية توجهوا إلى منًى" ويوم التّروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، وسمي بذلك؛ لأن الناس يتروون فيه الماء لموسم الحج، ومن هذا اليوم إلى اليوم الثالث عشر، ولكل يوم من هذه الأيام الخمسة اسم خاص، فالثامن يوم التروية، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم القر، والثاني عشر يوم النّفر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني.

يقول: "توجهوا إلى منًى وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر"، قصرًا بلا جمع، "ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس"، فأجاز حتى أتي عرفة فوجد قبة قد ضربت له بنمرة، "أجاز" بمعنى: تعدّى، وإنما قال: أجاز يعني تعدَّى؛ لأن قريشًا كانوا يقفون يوم عرفة في مزدلفة ويقولون: إنا أهل مكة وأهل الحرم لا نقف في الحلّ، وهذا من

ص: 403

الحّمية الجاهلية والعياذ بالله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز حتى أتى عرفة، وكان قد أمر أن تضرب له قبة بنمرة وهي قرية قرب عرفة، فضربت له القبة بنمرة فنزلها حتى زالت الشمس، وهذا النزول فيه استراحة بعد التعب من المشي من منّى إلى عرفة؛ لأن هذا أطول مسافة في الحج من منّى إلى عرفة، من منّى إلى مكة قريب، ومن منّى إلى مزدلفة قريب، ومن عرفة إلى مزدلفة قريب، وأطول ما يكون من منّى إلى عرفة، فبقى النبي صلى الله عليه وسلم هنالك واستراح.

يقول: "حتى إذا زالت الشمس أمّر بالقصواء فرحلت له""القصواء" اسم ناقته، "فرحلت له" أي: جعل رحلها عليها، ثم ركب عليه الصلاة والسلام "فأتى بطن الوادي"، أي: وادي عرنة، "فخطب الناس، ثم أذّن ثم أقام"؛ أذن؛ يعني: أمر من يؤذن، وكذلك في الإقامة، "فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر"، ففي هذه الجملة أنه ينبغي الإحرام بالحج في اليوم الثامن، وأن يبقى الإنسان الحاج في منى يوم الثامن وليلة التاسع، وأن ينزل بنمرة إلى زوال الشمس، وهذا على سبيل الاستحباب، ثم فيه أيضًا: أنه ينبغي أن يخطب خطبة، هذه الخطبة قال بها حتى من لم يقولوا بخطبة صلاة الكسوف، والصحيح: أن الخطبة في صلاة الكسوف سنة، وكذلك الخطبة هنا سنّة، هذه الخطبة بين فيها الرسول صلى الله عليه وسلم قواعد الإسلام وشيئًا من الفروع المهمة كتحريم الربا الذي قال فيه:"ربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع من ربانا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله".

"وصلى الظهر والعصر جمع تقديم"، وفيه: أنه يسن جمع التقديم في يوم عرفة، وإنما صلى جمع تقديم من أجل اجتماع الناس؛ لأن الناس إذا تفرقوا بعد الصلاة تفرقوا في موافقهم، فلو أخرت صلاة العصر لكان كل طائفة يصلون وحدهم في مكانهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يجتمع الناس حتى وإن أدى ذلك إلى جمع الصلوات التي يجمع بعضها إلى بعض، أرأيتم جمعة في المدينة من أجل المطر ما المقصود منه؟ حرصًا على الجماعة، وإلا ففي إمكانهم أن يذهبوا إلى بيوتهم ويصلُّوا فيها، وهم معذورون في هذه الحال لكن من أجل الجماعة، هذا مثله كذلك أيضًا أبدى بعض العلماء حكمة أخرى قال من أجل أني طول زمن الوقوف والدعاء حتى لا يشتعل الناس بالطهارة للصلاة والنداء لها والاجتماع إليها ويبقون في الدعاء والتفرغ لله من حين يصلون الظهر والعصر جمع تقديم.

يقول: "ولم يصل بينهما شيئًا"؛ وذلك لأن سنة الظهر تسقط عن المسافر.

ص: 404

"ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بن ناقته القصواء إلى الصَّخرات وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة"، ذهب عليه الصلاة والسلام إلى موقفه إلى أقصى عرفة من الشرق من خلف الجبل جعل بطن الناقة إلى الصَّخرات، يعني: يلي الصَّخرات وجبل المشاة، وهو طريق يمشي به الناس جعله بين يديه عليه الصلاة والسلام، واستقبل القبلة ولم يزل على بعيره حتى غربت الشمس وهو مشتغل بالابتهال إلى الله عز وجل والتضرع إليه، رافعًا يديه إلى الله تبارك وتعالى حتى غربت الشمس، ولم يمل ولم يتعب مع طول القيام، ولكن الله عز وجل أعانه على طاعته عونًا، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام سقط خطام ناقته فأخذه بإحدى يديه وهو رافع الأخرى، وهذا يدل على تأكد رفع اليدين هنا، المهم: أنه بقي يدعو.

يقول: "لم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصُّفرة قليلًا حتى غاب القرص ودفع".

في هذا من الفوائد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى ذلك الموقف؛ لأنه -والله أعلم- كان من عادته أن يكون في أخريات القوم، وهذا هو آخر حدود عرفة من الناحية الشرقية أو هو آخر ما يصل إليه الحجاج في ذلك الوقت، ووقف هذا الموقف وقال للناس:"وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف"، حتى لا يجتمع الناس إلى هذا المكان فيحصل الضيق والعنت عليه، كأنه يقول: الزموا أماكنكم فإن عرفة كلها موقف.

ويستفاد من ذلك: استقبال القبلة حال الدعاء يوم عرفة ورفع اليدين، وأن الإنسان إذا تشاغل بما ينفع المسلمين من إجابة سؤال أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فإن ذلك لا يقطع دعاءه؛ لأن نفع هذا متعدًّ، والدعاء نفعه خاص غير متعدًّ، فلا ينبغي للإنسان مثلًأ إذا اشتغل بالدعاء في عرفة وجاء شخص يسأله أن يكشر في وجهه أو يقول: لا تشغلني أو ما اشبه ذلك، اللهم إلا في مسائل لا تفوت، وهذا السائل الذي معك سيدركك ويسألك في وقت آخر، فهنا ربما نقول: إنه يسوّغ لك أن تقول: لا تشغلني واشتغل بالدعاء وقد يكون السائل من رفقتك ويكون السؤال لا حاجة لبيانه في هذا الوقت؛ لأن المسألة علمية تناقشوا فيها واختلفوا وجاءوا إليك يسألونك فلكل مقام مقال، لكن لو تكون مسألة واقعة حادثة تحتاج إلى حل فإن التشاغل إلى إجابة السائل هنا أفضل من التشاغل بالدعاء.

ومن فوائد هذه الجملة: أنه لا دفع من عرفة إلا بعد الغروب لقوله رضي الله عنه: "حتى غاب القرص ودفع" ولا يجوز الدّفع قبل الغروب، لكن لو دفع فهو آثم والحج صحيح لحديث عروة بن مطرف رضي الله عنه سيأتي إن شاء الله، الدفع قبل الغروب فيه عدة مفاسد:

ص: 405

الأولى: أنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أنه موافق لهدي المشركين؛ لأن المشركين كانوا يدفعون من عرفة إذا كانت الشمس على الجبال كالعمائم على الرءوس فدعوا.

الثالث: أن فيه نقصًا في الوقوف الذي هو الركن، ومعلوم أن الأركان أفضل من الواجبات، والواجبات أفضل من السنن؛ لأنه كلما تأكدت العبادة كانت أفضل لقوله تعالى في الحديث القدسي:"ما تقرّب إلىّ عبدي بشيء أحبُّ إلىّ مما افترضته عليه".

قال رضي الله عنه: "ودفع وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله"، "شنقه" يعني: جذبه "حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله" يعني: رقبتها؛ لماذا؟ لئلا تندفع؛ لأن دفع الناس جميعًا والإبل ومشيها، يعني: يأخذ بعضها بعضًا حتى تسرع كما يقول العامة: "إن بعضها يشيل بعض"، لكن الرسول شنق لها الزمام لئلا تسرع، وهو يقول بيده اليمنى:"أيها الناس السكينة السكينة".

"وهو يقول بيده اليمنى: يا أيها الناس، السكينة السكينة" يعني: اسكنوا، اطمئنوا.

يقول: "وكلما أتى جبلًا من الجبال أرخى لها قليلًا حتى تصعد" في هذه الجملة كيف يدفع الإنسان من عرفة؟ يدفع بسكينة بقدر ما يستطيع ويأمر الناس بالسكينة ليسكنوا، يأمرهم بصوته إن تمكن أو بمكبر الصوت.

وفيه أيضًا: حسن رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم لما هو مولِّى عليه هذه البهيمة، "إذا أتى جبلًا من الجبال" يعني: شيئًا مرتفعًا أرخى لها قليلًا حتى تصعد رفقًا بها، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه إذا وجد فجوة نص؛ أي أسرع السير، فيؤخذ من هذا وذاك أنه ينبغي للإنسان مراعاة ما هو راكب عليه وأنه إذا وجد فجوة ومتسعًا فليسرع.

يقول: "حتى إذا أتى مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذنان وإقامة، ثم ركب حتى إذا أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا وكبَّر وهلل، فلم يزل واقفًأ حتى أسفر جدُّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس". هذا موقف مزدلفة، دفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة بسكينة وهو يسكن الناس عليه الصلاة والسلام، وفي أثناء الطريق نزل فبال وتوضأ وضوءًا خفيفًا، فقال

ص: 406

له أسامة -وكان رديفة-: يا رسول الله، قال: الصلاة أمامك؛ لأنه لا يمكن الصلاة في الطريق؛ لأن إيقاف الناس -وهم مندفعون- فيه شيء من الصعوبة ثم المبادرة ما دام ضوء النهار باقيًا أرفق بالناس؛ ولهذا قال: الصلاة أمامك، فلما وصل إلى مزدلفة أمر بلالًا فأذن، ثم أقام فصلى المغرب ثم أناخ كل واحد بعيره ثم صلى العشاء.

وفيه أيضًا: دليل على أنه لا ينبغي في ليلة المزدلفة أن يشتغل الناس بالذكر أو بالقرآن أو بالصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع حتى طلع الفجر، وهذا من حسن رعايته لنفسه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه بعد التعب في المسير من عرفة إلى مزدلفة وفي النهار كان مشتغلًا بالدعاء وبتعليم الناس وتوجيههم تحتاج النفس إلى راحة فنام كل الليل، ولم يذكر جابر ولا غيره فيما أعلم هل أوتر النبي صلى الله عليه وسلم أو لا، والظاهر أنه أوتر؛ لأنه لم يكن يدع الوتر لا حضرًا ولا سفرًا.

وفيه: أنه ينبغي تقديم صلاة الفجر في يوم العيد في مزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر من حين تبين له الفجر، ولكن يجب الحذر من الاغترار بفعل بعض الناس، فإنه في ليلة المزدلفة تسمع بعض الناس يؤذن قبل الوقت بساعة أحيانًا يستطيلون ثم يقوم يؤذن ويصلي الفجر ويمشي وليته لم يضر إلا نفسه، لكن إذا سمعه يؤذن أذن وتتابع الناس؛ ولهذا يجب الحذر في صلاة الفجر ليلة مزدلفة.

وفيه: أنه ينبغي للإنسان أن يتقدم إلى المشعر الحرام إما براحلته إن كان على راحلة أو بقدمه إن كان ماشيًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم إليه ومع ذلك قال: "وقفت ها هنا وجمع كلها موقف" ويدعو إلى أن يسفر جدَّا ويتبين النهار تمامًا ثم يدفع إلى منى.

قال رضي الله عنه: "حتى أتى بطن محسر .... الخ""أتى بطن محسر" هذا بطن الوادي، وسمي محسرا؛ لأ، هـ سالكه؛ لأن فيه رملًا ودعثًا فيحسر سالكه، "فحَّرك قليلًا" لماذا؟ قيل: لأن هذا هو المكان الذي نزلت فيه عقوبة أصحاب الفيل فأسرع فيه، ولهذا أمر أن يسرع الناس إذا مروا بديار ثمود، وقيل: إنه أسرع فيه من أجل أنه دعث وعادة يكون المشي في الدعث بطيئًا فحَّرك، وقيل: إنه حرك؛ لأن قريشًا كانوا ينزلون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم يفتخرون بهم، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعاكسهم وأن يسرع بدلاً من وقوف قريش، على كل حال: كل هذا ممكن إلا أن القول بأنه أسرع؛ لأن الله أنزل فيه عقوبة أصحاب الفيل كانت في المغمَّس وليست هنا.

قال: "ثم سلك الطريق الوسطى"؛ لأن منى فيها ثلاثة طرق شمالية وجنوبية ووسطى، فسلك

ص: 407

- عليه الصلاة والسلام الوسطى "التي تخرج على الجمرة الكبرى" الجمرة؛ يعني: مكان اجتماع الناس؛ لأن الناس كلهم ينصبون في هذه الجمرة، ورماها صلى الله عليه وسلم وهو راكب وكان معه أسامة وبلال أحدهما يقود به راحلته، والثاني يظلله بثوب يستره من الحر حتى رمى الجمرة -صلوات الله وسلامه عليه-.

قال: "حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصى"؛ يعني: يقول: "الله أكبر""كل حصاة منها مثل حصى الخذف".

قال: "ثم رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر" رمس صلى الله عليه وسلم من بطن الوادي؛ لأنه أيسر، وكانت جمرة العقبة في ذلك الوقت في سفح جبل -وأنا أدركت ذلك- فرمى من بطن الوادي؛ لأنه أيسر من أن يرمي من فوق، ولكن كيف رمى؟ جعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه والجمرة أمامه، هذا هو الذي ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود، رمى بسبع حصيات.

فيستفاد من هذا: أنه ينبغي للإنسان في أسفاره أن يسلك أقرب الطرق إلى حصول المقصود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الوسطى التي تخرج رأسًا على الجمرة الكبرى.

وفيه أيضًا: المبادرة برمي جمرة العقبة، يرميها قبل أن ينزل من رحله.

وفيه أيضًا: أنها ترمى بسبع حصيات ويكبّر مع كل حصاة.

وفيه: أن هذا الحصى ليس بالكبير ولا بالصغير، بل هو مثل حصى الخذف، قال العلماء:

وهو بين الحمص والبندق.

وفيه أيضًا: أنه يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، فلو رماها من فوق الجبل فالرمي صحيح، لكن ينبغي للإنسان أن يسلك الأشق مع إمكان الأسهل، إلا أنه يقال: ربما يكون رميها من فوق الجبل أسهل إذا كثر الزحام كما كان الناس يفعلونه من قبل، لكن هنا بنوا هذا الجدار من خلفها لما أزالوا الجبل، لئلا ترمى من الخلف، ومع الأسف أنها صارت الآن من الخلف، لاسيما في يوم العيد يأتي الناس بكثرة وزحام ويرمونها.

قال: "ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم

الخ"، انصرف إلى منحر، يعني: مكان نحر الإبل، وكان صلى الله عليه وسلم قد أهدى مائة بعير والواحد منا الآن يتعثر على شاة واحدة واجبة أيضًا، ويقول: أي الأنساك الثلاثة أسهل، وأيها الذي لا يوجد فيه ذبح؟ فيختاره خوفًا من هذه

ص: 408

الشاة، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أهدى مائة بعير وأشرك علي بن أبي طالب في هدية، ونحر منها ثلاثًا وستين بيده، وأعطى عليُّا فنحر الباقي، ثم أمر لكل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها، وشرب من مرقها تحقيقا لقوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]. قال العلماء: ومن الأمور العجيبة أنه نحر ثلاثًا وستين بيده الكريمة، وكان هذا العدد مطابقًا لسنين عمره صلى الله عليه وسلم، ثم إنه عليه الصلاة والسلام حلّ من إحرامه بعد أن رمى ونحر وحلق وتطيَّب ونزل إلى البيت فطاف وصلى بمكة الظهر.

والحقيقة: أنه عند التأمل يجد الإنسان بركة عظيمة في هذا الوقت الموجز، وكانت حجة الرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتدال الربيعي، يعني: وقت النهار والليل فيه متساويات تقريبًا في هذه المدة الوجيزة عمل هذه الأعمال الكثيرة: دفع من مزدلفة ورمى ونحر ثلاثًا وستين بل مائة وأمر أن تطبخ وأكل من لحمها، وشرب من مرقها، وحلق وحل، ووقف الناس يسألونه، ونزل إلى مكة وطاف وسعى وصلى الظهر في مكة، هذه كلها -في الحقيقة- أعمال عظيمة لكن ببركة الله تمت من زمن قليل، ويؤخذ منه: أن الله عز وجل إذا بارك للإنسان صار يفعل في الوقت القصير أفعالًا كثيرة، وهذا شيء مشاهد، نسأل الله أن يبارك لنا ولكم في الأعمار والأعمال.

يقول هنا: "فصلى بمكة الظهر"، وفي حديث أنس في الصحيحين: أنه صلى الظهر في منى، فاختلف العلماء في ذلك؛ فقال بعضهم: نقدم حديث أنس؛ لأنه في الصحيحين، وقال آخرون: نقدم حديث جابر؛ لأن جابرًا ضبط الحج ضبطًا وافيًا فكان أعلم بذلك من غيره، وقال بعضهم: بل نجمع بينهما فنقول: صلى الظهر في مكة في وقتها، ولما خرج إلى منى وجد جماعة من أصحابه لم يصلوا فصلى بهم فيكون صلى بهم مرتين.

هنا يقول: "فطاف بالبيت" ولم يذكر السعي؛ لماذا؟ لأنه سعى بعد طواف القدوم، والقارن إذا سعى لعد طواف القدوم كفاه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة:"طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك"، فقد أدى الواجب، وكذلك أصحابه الذين لم يحلِّوا طافوا معه ولم يسعوا؛ لأنهم كانوا قد سعوا، وعلى هذا يحمل حديث جابر:"لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافه الأول" فيعني بأصحابه هنا: الذين لم يحلُّوا معه

ص: 409

ويتعين هذا؛ لأن الذين حلوا ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه لما كان عشية يوم التروية امرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأحرموا، فلما قضوا المناسك طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، هكذا جاء في صحيح البخاري في حديث ابن عباس قال:"طافوا بالبيت وبالصفا والمروة"، وهو صريح في أنهم طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وكذلك ثبت في الصحيح من حديث عائشة أن الذين أحرموا بالعمرة طافوا بالصفا والمروة مرتين، وما دام عندنا حديثان صحيحان صريحان في أن المتمتع يطوف ويسعى مرتين فإن حديث جابر يتعين أن يحمل على الذين لم يحلوا، وبهذا نعرف أن ما ذهب إليه جماعة من أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في أن المتمتع يكفيه سعي واحد أنه قول ضعيف، ويتبين لنا أيضًا أن الإنسان مهما بلغ من العلم والفهم فإنه لا يسلم من الخطأ؛ لأنه لا معصوم إلا من عصم الله عز وجل، والإنسان يخطئ ويصيب، وحديث ابن عباس وعائشة كلاهما في البخاري، ومثل هذا لا يخفى على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه رحمه الله من حفاظ الحديث، حتى قال بعضهم: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، لكن الإنسان بشر فالصواب بلا شك أن المتمتع يلزمه طوافان وسعيان، والقياس يقتضي ذلك؛ لأن العمرة انفردت وفصل بينهما وبين الحج حلُّ كامل وأحرم الإنسان بالحج إحرامًا جديدًا.

708 -

وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حجٍّ أو عمرة سأل الله رضوانه والجنَّة واستعاذ برحمته من النَّار". رواه الشافعي بإسناد ضعيف.

إذا كان بإسناد ضعيف فلا يكون ذلك سنة، بل يلبي بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا سأل الله الجنة واستعاذ به من النار لا معتقدًا أنه سنّة فلا بأس.

709 -

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحرت ها هنا، ومنى كلُّها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا وعرقة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف". رواه مسلم.

هذا من تيسير الله عز وجل أن الرسول نحر في مكان معين، ولكن قال للناس:"منى كلها منحر"، انحروا في أي مكان منها، وكذلك الوقوف في عرفة وفي مزدلفة، وهذا من يسر الشريعة

ص: 410