الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقرون يجوز بيعها؟ مثل الظفر الذي انفصلت عن الحياة لا يجوز وما لا فلا، يقاس على الميتة ما كان ضارًّا بالبدن، فكل ما يضر بالبدن فإنه يدخل في حكم الميتة مثل الدخان؛ لأنه مضر، ولا شك في ضرره فيحرم بيعه، وإذا حرم بيعه حرم تأجير المحلات لمن يبيعه؛ لأن هذا إعانة على الإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى:{وتعاونوا على البِّر والتَّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدان} [المائدة: 2]. وحرم أيضًا إعانة شاربه على حصوله لأي سبب، وبناء عليه لو قال الأب لابنه: خذ يا بني هذه العشرة ريالات واشتر لي علبة دخان يلزمه طاعته؟ لا يلزمه، ويحرم عليه؛ لأن الله تعالى قال:{وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما} [لقمان: 15]. إذا قال له: اشتر لي وإلا طلقت أمك هل هذا ضرورة؟ الظاهر أنه ضرورة؛ لأنه ربما يتجرأ هذا الغشيم -الأب- ويطلق الأم وقد تكون هذه آخر التطليقات فتنفصم عرى الأسرة.
المهم: إذا دعت الضرورة إلى ذلك فهو كغيره من المحرمات التي تبيحها الضرورة، أما إذا لم يكن ضرورة فإنه يجب عليه أن يعصي والده في ذلك، فإن قال: أفلا أعد عاقًّا إذا كان والدي لا يستطيع أن يخرج إلى السوق ويشتري لمرض أو كبر؟ فالجواب: أنه لا يعد عاقًّا لوالديه.
وهل يقاس على الميتة السُّم؟ إن اشترى للمضرة فهو حرام، كذا وإن اشترى للمنفعة فهو حلال، ومن ذلك المبيدات التي تشتري لأمراض الأعشاب والزهور وما أشبهها، فنقول: هذه الأشياء إذا كان لا يمكن الانتفاع بها إلا على سبيل المضرة فبيعها حرام وإلا فبيعها حلال؛ لأن فيها منفعة. والدم هل يجوز بيعه أو لا؟ بيع الدم حرام سواء بيع للأكل أو الشرب أو الحقن لا يجوز بيعه، في الأكل كيف ذلك يمكن أن يكون جامدًا ويأكله الإنسان أكلًا أو يشربه شربًا إذا كان ساخنًا حقنًا إذا كان مريضًا يحتاج إلى حقن دم، نقول: بيعه حرام.
فإن قال قائل: أليس الدم يجوز عند الضرورة؟
قلنا: أوليس الميتة تجوز عند الضرورة؟ فسيقول: بلى في المسألتين، نقول: إذا كانت الميتة تباح للضرورة ومنع الشارع بيعها فكذلك الدم لا يجوز، فإن اضطر إنسان إليه ولم يجد من يبذله له إلا بعوض فالإثم على البائع، أما هو فيجوز أن يدفع ضرورته بذلك وهذا على أي دم: دم الإنسان دم البهيمة.
تحريم بيع الأصنام وما يلحق بها من الكتب المضلة والمجلات الخليعة:
الأصنام قلنا: إن كل ما اتُّخذ ليعبد من دون الله فهو صنم، سواء على صورة إنسان أو شجر أو حجر أو غير ذلك، وذكرنا في أثناء الشرح أن العلة في ذلك حماية الأديان وعلى هذا نقول: الأصنام يحرم بيعها، لكن لو أراد شخص أن يصنع صنمًا لمن يعبد الأصنام مثل أن يصنع صورة بوذا لمن يعبده نقول: هذا حرام لا يجوز بيعه حتى على من يعبده؛ لأن عادة
الأصنام ما أحلت بأي شريعة كانت، كل الشرائع تحارب الشرك، ليس هناك شريعة أنزلها الله عز وجل تبيح الأصنام، فإن اشتريت الأصنام لتكسر وينتفع بموادها فظاهر الحديث أن ذلك حرام، ويحتمل أنه ليس بحرام؛ لأنه ليس المقصود من الشراء هنا شيئًا محرمًا؛ إنما المقصود شيئًا مباحًا، ومثل ذلك لو اشتراها ليتلفها فإن هذا لا بأس به بشرط أن يعلن ذلك حتى لا يظن أحدٌ أنه اشتراها من أجل الانتفاع بها على وجه محرم، إذن يستثنى من الأصنام شيئان: الشيء الأول: إذا كانت مادتها ينتفع فاشتراها ليكسرها وينتفع بمادتها كما لو كانت من حديد أو خشب يصلح أن يكون ألواحًا أو أبوابًا أو ما أشبه ذلك.
ثانيًا: إذا اشتراها ليتلفها يعني: هو لا ينتفع بمادتها لكن اشتراها ليتلفها فهذا لا بأس به، بشرط أن يبين ذلك ويظهره لئلا يتخذ ذريعة إلى جواز بيعها، ويقاس على ذلك.
من فوائد الحديث أيضًا: أنه يحرم بيع الكتب المضلة الداعية للبدع أيًّا كانت إلا إذا اشتراها ليعرف ما فيها من بدع ثم يرد عليها، فهذا لا بأس به إذا كان لا يتوصل إلى ذلك إلا بالشراء، كما لو اشترى الأصنام من أجل إتلافها ولا يتوصل إلى إتلافها إلا بذلك، ويقاس على ما سبق من بيع الخمر والأصنام، أيضا لا يجوز شراء الكتب المدمرة للأخلاق مثل المجلات والصحف التي تشتمل على صور خليعة مغرية مفسدة للأخلاق، فإن شراءها لا يجوز وبيعها حرام، فإن اشتراها لإتلافها ولا يتمكن من إتلافها إلا عن طريق الشراء فلا بأس؛ لأن هذا لا يقصد به اقتناؤها، وإنما يقصد به إتلافها وإزالتها، وكل شيء ذكرناه من الأصنام وغيرها مما قلنا يجوز شراؤه لإتلافه وهذا إذا لم يتمكن من إتلافه بغير الشراء، فإن تمكن فإن شراءها إضاعة مال ولا يجوز له أن يشتريها في هذه الحال.
ومن فوائد الحديث: حماية الإسلام للعقول والأبدان والأخلاق والأديان والأموال والفرد والمجتمع والفطر؛ لأن كل هذا تفسد ما ذكر، فإذا حرم الشارع بيعها فإنما ذلك لحماية هذه الأمور التي لا بد للمجتمع من حمايتها.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز تأجير المحلات لمن يبيعون هذه الأشياء، من أين يؤخذ؟ من أن الإعانة على المحرم حرام؛ لقوله تعالى:{ولا تعاونوا على الإثم والعدان} [المائدة: 2]. فلا يجوز أن يؤجر الإنسان بيته لبائع الخمر أو لبائع الخنزير أو لبائع الأصنام أو لبائع المجلات الخليعة أو لبائع الكتب المنحرفة، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا من باب التعاون على الإثم والعدوان.
ومن فوائد الحديث: فقه الصحابة رضي الله عنهم وذلك من قولهم: "أرأيت شحوم الميتة؟
…
إلخ"، وجه ذلك: أنهم أرادوا أن يجعلوا من الانتفاع بهذه الأشياء -هذا الانتفاع المباح- سببًا لحل بيعها؛ لأنه يتوصل بيعها إلى شيء مباح وهو طلي السفن ودهن الجلود والاستصباح.
ومنه أيضًا -من فوائد الحديث-: أن الشرع يأتي بما فوق العقل، بمعنى: أن العقل قد يدرك الشيء على وجه ناقص فيأتي الشرع ويكمله، وجه هذا: أن الصحابة قالوا: إذا كانت هذه الشحوم تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فهذا يقتضي جواز بيعها لتحصيل هذه المنافع، ولكن الشرع أقوى من ذلك وأعمق؛ حيث منع منها الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا لما في ذلك من الحماية التامة؛ لأنه لو أجيز بيع الشحوم لهذه الأغراض لتوصل الناس إلى شيء آخر ولقالوا: إذن يجوز بيع لحوم الخنزير لهذا الغرض، لكن الرسول بيّن أن هذا ممنوع.
ومن فوائد الحديث: جواز طلي السفن بشحوم الميتة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك.
ومن فوائد الحديث أيضًا: جواز الاستصباح بشحوم الميتة، لكن قال أهل العلم: إنه لا يجوز أن يستصبح بها في المساجد، وهذا القول مبني على أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة؛ لأن دخان النجاسة نجس، أما على القول بأنها تطهر بالاستحالة فإن دخانها طاهر، وحينئذٍ لا مانع من أن يستصبح بها في المساجد.
ومن فوائد الحديث: جواز الانتفاع بالنجس على وجه لا يتعدى لقوله هنا: "فإنها تطلى بها السفن"، فإن كان على وجه يتعدى مثل أن يستعمل النجس على ثوبه أو بدنه ويذهب إلى الصلاة، فإن هذا لا يجوز، أو يستعمل النجس في أكله وشربه فإن هذا لا يجوز؛ لأن التغذي بالنجاسة لا يجوز.
هل يستفاد منه: جواز استعمال الكحول على وجه لا يتعدى كما لو ادهن بها أو ما أشبه ذلك؟ نعم، قد يقال بذلك، وقد يقال: إن عموم قوله: {فاجتنبوه} [المائدة: 90]. يدل على أنه لا يستعمل لا شربًا ولا دهانًا.
ومن فوائد الحديث: جواز الدعاء على الأمة إذا عملت ما يكون معصية على سبيل العموم؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود"، فيجوز لك أن تقول: قاتل الله أهل هذا البلد إذا كانوا يتعاملون معاملة سيئة أو يفعلون معصية تدعو عليهم بأن يقاتلهم الله، وسبق معنى المقاتلة.
ومن فوائد الحديث: أن اليهود أصحاب مكر وخديعة؛ لأن الله لما حرم عليهم الشحوم صاروا يذيبونها ثم يبيعونها ويأكلوا ثمنها.
ومن فوائده: أن من تحيل على محارم الله من هذه الأمة ففيه شبه من اليهود، فيكن التحيل حرامًا؛ لأنه تحيل على المعصية، ولأن فيه مشابهة لمن؟ لليهود.
ومن فوائد الحديث: أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، وبناء على ذلك فإن ما ذكرناه قبل قليل من شراء الأصنام لإتلافها أو الكتب المنحرفة لإتلافها يكون الثمن حرامًا على البائع لماذا؟ لأن هذا حرام عليه فيحرم عليه ثمنه.
ومن فوائد الحديث: جواز تصرفات الكفار المالية لقوله: "ثم باعوه فأكلوا ثمنه"، فإن هذا البيع إذا قال:"أكلوا ثمنه" يدل على أن هذا البيع صح؛ إذ لا يحل الثمن إلا بعد صحة البيع. وهذه الفائدة فيها شيء من القلق لكن قد يوحي قوله: "ثم باعوه" على جواز تصرف الكفار، وهذا أمر لا شك فيه، يعني: من حيث الجملة، لكن هل هذا الحديث يدل عليه هذا هو محل قلق في النفس، وأما جواز تصرف الكفار ومعاملاتهم فهذا شيء معروف.
ومنها: جواز استعمال "أرأيت" في مخاطبة الرؤساء وذي الشرف والجاه لقول الصحابة: "أرأيت شحوم الميتة؟ "، ولا يقال: إن هذا سوء أدب في الخطاب؛ لأن الصحابة -وهم أكمل الناس أدبًا- خاطبوا به من هو أعظم الناس في وجوب التأدب معه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنها: جواز توكيد الحكم لقوله: "لا، هو حرام"، فإن قوله:"هو حرام" تأكيد لقوله: "لا"؛ إذ لو اقتصر على قوله: "لا" لكفى، وقد يقال: إنه لا يكفي؛ لأن النفي قد يكون للكراهة لا للتحريم، وبناء على ذلك تكون الجملة -"هو حرام"- تأسيسية لا توكيدية.
750 -
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بيِّنةٌ، فالقول ما يقول ربُّ السِّلعة أو يتتاركان". رواه الخمسة، وصحَّحه الحاكم.
قوله: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة"، المتبايعان هما: البائع والمشتري، وأطلق عليهما اسم المتبايعين من باب التغليب على أننا نقول: البائع بائع، والمشتري مبتاع.
وقوله: "وليس بينهما بينة"، البيِّنة: ما يبين الحق ويوضحه وهي في الأموال: رجل وامرأتان أو رجلان أو رجل ويمين المدعي.
وقوله: "فالقول ما يقول رب السلعة"، من هو رب السلعة؟ فسرت ذلك في لفظ آخر وهو البائع وتفسيره يرد قول من يقول: إن المراد برب السلعة: المشتري؛ لأن مالك السلعة عند الاختلاف هو المشتري وليس البائع؛ لأن البائع قد باعه وانتقل ملكه عنه، ولكن تفسير اللفظ الثاني يأبى هذا المعنى، ويكون المراد برب السلعة: البائع على كل حال، وظاهر الحديث: أن هذا عام في جميع الاختلافات سواء كان البائع هو المدعي أو كان المشتري هو المدعي، وحينئذٍ يكون بينه وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه" يكون بينهما
عموم وخصوص من وجه، وجه ذلك: أن الحديث "البينة على المدعي" يعم كل السلع ويخص اليمين بالمدعى عليه، وأن هذا الذي معنا يختص بالمتبايعين ويعم كل اختلاف بينهما، إذن هنا عموم وخصوص، فإذا اتفقا في صورة ما فلا إشكال؛ يعني: بأن كان البائع هو المدعى عليه، فإذا كان البائع هو المدعى عليه فالقول قوله بيمينه على الحديثين، هذا والذي أشرنا إليه من قبل، وصورة ذلك: أن يقول المشتري للبائع: إنك قد اشترطت عليّ أن الشاة ذات لبن! فقال البائع: ما اشترطت عليك، فهنا القول قول البائع أنه لم يشترط على الحديثين جميعًا، يعني: على مقتضى هذا الحديث وعلى مقتضى البينة على المدعي، واليمين على المدعي عليه؛ لأن المدعي عليه الآن، هو البائع، وهنا يكون القول ما قال رب السلعة وهو البائع، فإذا اتفق مدلول الحديثين في صورة ما فالأمر واضح أن القول قول البائع، لكن المشكل إذا اختلفا مثل أن يقول البائع: قد بعتها عليك بعشرة، فيقول المشتري: بل بثمانية، فهنا البائع هو المدعي؛ لأنهما اتفقا على الثمانية واختلفا في الزائد في العشرة وما فوق بثمانية زائد، فالقول به دعوى، فهل نقول: القول قول البائع، أو نقول: القول قول المشتري؛ لأنه مدعى عليه؟ فيه خلاف؛ منهم من رجح اليمين على المدعى عليه، وقال: هنا المشتري مدعىٍ عليه؛ لأنه قد ادعى عليه أن الثمن عشرة فيكون القول قوله، ويحلف أنها ليست بعشرة وتكون له، ومنهم من يقول: بل القول قول البائع؛ لأن المشتري مدعٍ. ما وجه كونه مدعيًا. قالوا: لأنه ادعى أن البائع أخرجها من ملكه بثمانية، والأصل بقاء ملك البائع، فالبائع يقول: ما بعت إلا بعشرة، وهذا يقول: بعت بثمانية، إذن هو مدعٍ، وحينئذٍ يصدق الحديثان في هذه الصورة؛ لأن قولنا: القول قول البائع على حسب هذا الحديث، وعلى حسب حديث:"البينة على المدعي"، ولكن العلماء اختلفوا في هذه المسألة؛ فمنهم من قال: القول قول البائع بمقتضى هذا الحديث وقال: إن معنى حديث: "البينة على المدعي
…
إلخ" يطابق هذا الحكم؛ لأن المشتري يدعي أن البائع أخرجه من ملكه بثمانية، والبائع ينكر، والأصل بقاء الملك -ملك البائع- فيكون القول قول البائع كما سيأتي.
ومن العلماء من قال: إن القول قول المشتري؛ لأنهما اتفقا على البيع واتفقا على ثمانية واختلفا فيما زاد على الثمانية، فالمشتري يدعيها والبائع ينفيها، فالبينة على المدعي، فيقال للبائع هات البينة وإلا فليس لك إلا ثمانية.
ومنهم من قال: بل يتحالفان، وهذا هو المذهب، قالوا: لأن كل واحد منهما مدعٍ ومدعى عليه؛ فجمعوا بين القولين. وقالوا: إن البائع مدعٍ والمشتري مدعٍ أيضًا، والبائع مدعى عليه
والمشتري مدعى عليه، إذن كيف نعمل؟ قالوا: يتحالفان، فيحلف البائع أولًا ما بعته بثمانية وإنما بعته بعشرة، فإن رضي المشتري ثبت ما قال البائع، وإن لم يرض حلف المشتري ويقول: والله ما اشتريته بعشرة وإنما اشتريته بثمانية، وبعد التحالف يفسخ البيع وترد السلعة إلى ربها والثمن إلى ربه.
هذا الحديث لو نظرنا إلى عمومه لقلنا: كل اختلاف يقع بين المتبايعين فالقول قول البائع، فإن لم يحلف ترادَّا البيع، يعني: فسخاه، ولكن هذا الحديث ليس على هذا الإطلاق باتفاق العلماء، فإن العلماء لم يتفقوا على أن القول قول البائع في كل صورة، بل اتفقوا على أنه ليس القول قول البائع في كل صورة، وأن من الصور ما لا يمكن فيه قبول قول البائع بالاتفاق، ومن الصور ما القول فيه قول المشتري بالاتفاق، إذن صار هذا الحديث ليس على إطلاقه، وإنما يرجع فيه إلى الحديث الأصل وهو:"البينة على المدعي واليمين على من أنكر"، ثم إذا كان كل منهما مدعيًا ومدعى عليه فإننا نجري ما قاله الفقهاء رحمهم الله بأن نحلِّف كل واحد منهما على نفي دعوى صاحبه، وإثبات دعواه، وإذا وقع التحالف فلكل واحد منهما الفسخ، وإذا اختلف في عين، فقال المشتري: إني اشتريته وهو معيب، وقال البائع: بل اشتريته سليمًا من العيب، فمن القول قوله؟ هذا الحديث يدل على أن القول قول البائع، وهو كذلك مطابق للأصول؛ لأن الأصل عدم العيب، والأصل سلامة المبيع. وقال بعض الفقهاء: إن القول قول المشتري وهو المذهب، وإذا اختلفا في حدوث العيب فالقول للمشتري، لماذا؟ قالوا: لأن الأصل عدم قبض الجزء الفائت بالعيب، لأن العيب نقص في المبيع، والأصل عدم قبض هذا الجزء الفائت بالعيب، فإذا ادعاه المشتري وقال: ما قضيت هذا الجزء الفائت بالعيب فالقول قوله، لكن هذه العلة عليلة جدًّا؛ لأن كون الأصل سلامة البيع أقوى مما قالوه رحمهم الله هذا ما لم يكن هناك بينة على قول أحدهما كما لو كان العيب أصبعًا زائدًا، فهنا القول قول المشتري؛ لأن الزائد لا ينبت يكون من أصل الخلقة، أو كان العيب جرحًا طريًّا يثعب دمًا، والبيع له أربعة أيام، فهنا القول قول البائع؛ لأنه لا يمكن أن يبقى الجرح يثعب دمًا لمدة أربعة أيام، ولكن القول الصحيح: أن القول قول البائع؛ لما ذكرناه من أن الأصل سلامة المبيع، فإن اتفقا على أن العيب عند البائع وقال البائع: قد اشترطته عليك، وقال المشتري: لم تشترطه، فما هو الأصل؟ ننظر أولًا هل اتفقا على العيب؟ قال البائع: نعم، صحيح به عيب، لكنني اشترطت عليك. وقال المشتري: لم تشترطه علي ولا بينته، فالقول قول المشتري؛ لأن الأصل عدم الشرط إلا إذا وجدت قرينة قوية تشهد للبائع بأن يكون البائع معروفًا بالصدق وحسن المعاملة، وأنه لا يمكن أن يكتمه عليه، وأن المشتري معروف بسوء المعاملة أو قرينة أخرى
مثل: أن يكون قد باع عليه هذا الشيء والقيمة مرتفعة ورضي بالعيب، ولما نزلت القيمة ادعى أنه لم يشترطه عليه من أجل أن يرد البيع فهذه أيضًا قرينة، لكن إذا خلت المسألة من القرينة فإن القول قول المشتري؛ لأن الأصل عدم الشرط.
ومن فوائد الحديث: العمل بالبينة، وهل البينة معينة بالنوع أو عامة لكل ما يبين الحق؟ الصحيح: أنها عامة لكل ما يبين الحق، والمذهب: أنها في الأموال رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي، ولكن الصواب أن البينة: اسمٌ لما يبين الحق ويوضحه بأي وسيلة كانت.
ومن فوائد الحديث: جواز وصف الإنسان بالرب؛ لقوله: "رب السلعة"، وهذا جائز، وقد جاءت أحاديث كثيرة في هذا المعنى، منها قوله صلى الله عليه وسلم في علامات الساعة في رواية للبخاري:"أن تلد الأمة ربها"، وكذلك في اللقطة:"حتى يجدها ربُّها"، فوصف الإنسان بالرب لما يملكه جائز ولا بأس به، لكن من المعلوم أنه لا يجوز أن يقول: فلان رب كل شيء؛ لأن هذا وصف خاص بالله فلا يجوز أن يطلق على بشر، كما لا يجوز أن يقول: قاضي القضاة، وملك الملوك وما أشبه ذلك.
ومن فوائد الحديث: الرجوع إلى الأصل والعمل به لقوله: "القول ما قال ربُّ السلعة"؛ لأن الأصل أنه لم يخرج السلعة إلا على قوله هو، فالأصل مثلًا: أني ما بعتها عليك بثمانية، الأصل أني لا أخرج من ملكي إلا ما أرضاه وأنا ما رضيت إلا عشرة، فهذا عمل بالأصل، والعمل بالأصل موجود وله أدلة كثيرة في القرآن وفي السُّنة: أننا نعمل بالأصل وهو أيضًا مقتضى النظر؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان"، ومن أمثلة ذلك: رجل توضأ ثم شك هل أحدث أم لا؟ فالأصل بقاء طهارته، ورجل أحدث ثم شك هل توضأ أم لا؟ فالأصل بقاء حدثه، فلو تيقنت أنك أكلت لحم إبل بعد المغرب ثم شككت هل توضأت أو لا؟ فلا تصلي العشاء إلا بوضوء جديد، ولو توضأت لصلاة المغرب ثم شككت هل انتقض وضوءك أو لا؟ لم يلزمك الوضوء؛ لأن الأصل بقاء الوضوء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يشكل عليه أخرج منه شيء أو لا قال: "لا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يشم ريحًا".
أسئلة:
- ما المراد: بـ"المتابيعان"؟