الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النهي عن بيع الحصاة وبيع الغرر:
764 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر". رواه مسلمٌ.
سبق لنا مرارًا وتكرارًا معنى النهي وأنه طلب الكف على وجه الاستعلاء، وأن الأصل فيه التحريم إلا بدليل، فهنا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن نوعين من البيع، أحدهما داخل في الآخر: عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر، ما معنى بيع الحصاة؟
هل يعني هذا أنه إذا كان عندي حصاة لا يجوز لي أن أبيعها؟ لا، بل يجوز أن أبيع الحصاة، لكن النهي هنا عن البيع المنسوب للحصاة، فهنا الإضافة ليست إضافة على تقدير اللام، بل هو على تقدير "من"؛ يعني: بيع من الحصاة، يعني: من أنواع البيوع التي للحصاة، فالإضافة هنا لأدنى ملابسة، وبيع الحصاة له صور:
الصورة الأولى: أن يقول: ارم هذه الحصاة فعلى أي شاة من هذا القطيع وقعت فهي لك بكذا، فرمى الحصاة وسقطت على شاة هزيلة جدًّا اشتراها بمائة وهي لا تساوي عشرين، فيكون قد خسر، جاء عبد آخر فقال: بعت عليك الشاة التي تصيبها هذه الحصاة إذا رميتها، فرمى الحصاة وقد اشترى الشاة بخمسين فوقعت على شاة تساوي مائة فقد غنم المشتري وخسر البائع عكس الأولى، إذن هذا ضرر؛ لأن كل عقد دار بين الغنم والغرم فهو ضرر ميسر لا يجوز.
الصورة ثانية: عندي أرض فجاء إنسان فقال: أريد أن أشتري منك قطعة من الأرض فقلت: خذ هذه الحصاة وارمها وإلى أي مدى تصل من الأرض فهو عليك بكذا، فرماها وكان نشيطًا وكانت الريح مستديرة له، يعني: تأتيه من ورائه، فرماها فوصلت إلى مائة متر، وهو اشترى بمائة درهم -مائة المتر تساوي ألف درهم- إذن كان غانمًا، العكس لو أنه قال: بعت عليك ما تصل إليه هذه الحصاة بألف درهم فرمى الحصاة وكانت الريح مستقبلة له، وعندما رمى أحسّ بأن كتفه انزلق، والحصاة وصلت قريبة جدًّا فيكون هنا خاسرًا، إذن هو ميسر لا يجوز.
الصورة الثالثة: أن يأتي إلى صاحب دكان عنده بز فيقول: ارم هذه الحصاة فعلى أي خرقة أو ثوب تقع فهو عليك بعشرة، فرمى الحصاة فأصابت ثوبًا يساوي عشرين، من الغانم؟ المشتري، ورجل آخر رمى الحصاة فأصابت ثوبًا يساوي خمسًا: الغانم البائع، إذن هذا ميسر لا يجوز، هذه ثلاث صور.
الصور الرابعة: أن يضم يديه على حصى، يعني: أن يأخذ كومة من الأرض حصى، ولنفرض أن أرضًا فيها حصباء فأخذ بيده وقال: بعتك من هذا القطيع عدد ما في يدي من الحصاة بألف درهم فقال: قبلت، عدّ فعدّ يمكن الحصى أن يطلع كثيرًا ويمكن أن يطلع قليلًا حسب اليد وحسب صغر الحصى وحسب جودة الكمش، هذا أيضًا غرر، والعكس لو قال: بعتك هذا القطيع بعدد ما في يدك من الحصى من الدراهم، الأول قدَّرنا المبيع، وهنا قدَّرنا الثمن، نقول: هذا أيضًا لا يجوز من أجل الجهالة، هذه خمس صور.
وهناك أيضًا صورة سادسة: بأن يقول: بعت عليك ما يزن مائه من الحصى ومن هذه الأرض بكذا وكذا، وهو لم يعين الحصاة، نقول: هذا أيضًا لا يجوز؛ لأنه مجهول، وبهذا تبين أن بيع الحصاة داخل في قوله:"وعن بيع الغرر"، وهذا في الحقيقة يعتبر قاعدة؛ أي: أن كل بيع فيه غرر فهو منهيٌّ عنه، والغرر كل ما فيه جهالة واحتمال فهو غرر، وعلى هذا فعطفه على بيع الحصاة من باب عطف العام على الخاص، وهذا سائغ في اللغة العربية، فيكون الخاص الذي ذكر كأنه مثال مقدم لهذه القاعدة العامة.
كلمة "غرر" قلنا: كل ما فيه جهالة واحتمال للغنم أو الغرم؛ لأن ذلك من الميسر، فإن حقيقة الميسر هي أنها معاملة تقع بين متغالبين، يكون أحدهما إما غانم وإما غارم، فبيع الغرر إذن من الميسر، والحكمة في النهي عنه ظاهرة جدًّا؛ لأنه إذا كان غانمًا أدّاه ذلك إلى الجشع والطمع والانسياق وراء المادة والدنيا؛ لأنه كسب، فيريد أن يستمر هذا الكسب، فتجده يلهو بدنياه عن دينه، وإن كان الأمر بالعكس بأن كان غارمًا ألحقه من الندم والحزن وكراهة صاحبه الذي غلبه ما يوجب العداوة بينهما، ولهذا قال الله تعالى:{إنَّما يريد الشَّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر} [المائدة: 91]. فقال: {فى الخمر والميسر} ، وواضح في هذا أن المغلوب -حتى وإن كانت المعاملة باختياره- لا بد أن يقع في قلبه شيء، فتبيّن أن الميسر ضرر على المغلوب والغالب جميعًا؛ لأن الغالب يكون في نفسه حب الغلبة والظهور والجشع والطمع وحب المال والانصراف به عما خلق له لأنه يكسب، والنفوس مجبولة على محبة المال:{وتحبُّون المال حبًّا جمًّا (20)} [الفجر: 20]. {وإنَّه لحبِّ الخير -يعني: المال- لشديدٌ} [العاديات: 8]. لهذا نهى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، فالحكمة إذن تقتضي النهي عن ذلك، وهذا النهي للتحريم، وقد علمنا من القاعدة المعروفة عند الفقهاء رحمهم الله أن كل شيء نهي عنه إذا فعل صار حرامًا من جهة الحكم التكليفي وفاسدًا من جهة الحكم الوضعي، والحكم الوضعي هو ما
يوصف به العقد أو الفعل من صحة أو فساد أو شرط أو مانع أو سبب، يعني: هذه الأشياء ليست تكليفية فلا يقال فيها حرام أو واجب، فهي أحكام وضعية بمعنى: أن الشارع وضعها علامة على النفوذ أو عدم النفوذ، المهم: أنه إذا وقع بيع الغرر فهو حرام، والمتعاقدان آثمان، والبيع فاسد باطل يجب ردّه.
"بيع الحصاة"، هذه البيوع السابقة كلها فاسدة مع الإثم ويجب ردّها، "بيع الغرر" كثير جدًّا له مئات الصور نذكر منها الآن، أولًا: بيع الحمل غرر؛ لأنه إن ظهر سالمًا متعددًا غنم المشتري، والعكس بالعكس، ومن بيع الغرر: أن يبيع العبد الآبق؛ أي: الذي هرب عن سيده هذا إذا باعه فإنه لا يجوز، لماذا؟ لأنه غير مقدور على تسليمه، يمكن أن يأتي ويمكن ألَّا يأتي، إن جاء فالغانم المشتري وإن لم يأت فالغانم البائع، والمشتري غارم.
فإن قال قائل: لا يمكن أن يكون المشتري غانمًا لأن المشتري قد بذل الثمن.
فالجواب: أن المشتري للآبق لا يمكن أن يشتريه بقيمة الحاضر المقدور عليه، إذا كان هذا العبد يساوي مائة فيشتريه بخمسين مثلًا فحينئذ إن وجده صار غانمًا، وإن لم يجده فهو غارم خمسين بدون فائدة، الجمل الشارد كذلك فمثلًا: إنسان له جمل شارد، يعني: هارب من أهله لا يجوز بيعه، لماذا؟ لأنه غير مقدور عليه قد يأتي وقد لا يأتي، والجمل في المرعى مقدور عليه، فلو باع عليه جمله الذي في المرعى صح؛ لأنه مقدور عليه بخلاف الشارد الذي هرب.
ومثله بيع طير في هواء، مثل: أن يكون له حمام ليس في الأبراج فيبيعه، هذا البيع أكثر العلماء على عدم الصحة وقالوا: لأن الطير في الهواء غير مقدور عليه، وبعضهم يقول: إن ألف الرجوع جاز بيعه، وإلا فلا يجوز، وهذا التفصيل لا شك أنه يجري على القواعد؛ لأنه إذا ألف الرجوع فهو كالبعير الذي في المرعى يأتي في آخر النهار وهذا أيضًا يأتي في آخر النهار
ويحصل، إذا باع عليه دينًا في ذمة شخص لا يجوز هذا هو المشهور من المذهب، مثل رجل يطلب شخصًا ليأخذ مائة صاع برّ له في ذمته فباعه على زيد فإنه لا يجوز؛ لأنه غير مقدور عليه، قد يحصل وقد لا يحصل، ربما يفتقر هذا المطلوب وربما يموت وينكر الورثة وربما يجحد، المهم: أنه غير مقدور عليه، فلا يجوز بيعه، أما بيعه لمن هو عليه فجائز بشرط ألا يربح البائع بأن يبيع بسعر المثل فأقلّ مثل لو كان في ذمته لي مائة صاع برّ، والصاع في السوق يساوي أربعة ريالات وقال: غدًا تبيع عليَّ الأصواع التي في ذمتي؟ قال: أبيع عليك الصاع بخمسة ريالات هذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه ربح فيما لم يدخل في ضمانه، وقد نهى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، والشيء الذي في ذمة غيرك لك ما دخل في ضمانك حتى الآن، فإذا بعته بربح فإنك تكون قد وقعت فيما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمر لما سأله أن يبيع الإبل بالدراهم ويأخذ معها الدنانير وبالدنانير ويأخذ عنها الدراهم قال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء، رجل باع دراهم له عند شخص بسعر يومها فهذا لا يجوز؛ لأن هذا فيه محظوران: المحظور الأول: عدم القبض وهذا يجري فيه الربا ربا النّسيئة، والثاني: أنه في ذمة الغير، فإن بعت هذه الدراهم بدراهم أو بدنانير على الذي في ذمته هذا يجوز:"ما لم تتفرقا وبينكما شيء"، فإذا كانت في ذمته لي ألف درهم وبعته عليه بمائة دينار يجوز، لكن بشرط أن يسلمني مائة الدينار قبل التفرق؛ لأن بيع الذهب بالفضة يجب فيه التقابض قبل التفرق.
يوجد شرط آخر: وهو أن تكون بسعر اليوم أو أقل لا بأكثر، فمثلًا الألف درهم إذا كانت تساوي مائة دينار وبعتها عليه بمائة وعشرين دينارًا فالبيع غير صحيح، لأني بعتها عليه بأكثر من سعرها، إن بعتها بمائة يصلح مع التقابض، إن بعتها بثمانين يصلح، لكن قد تقول: إنك إذا بعتها بثمانين خالفت ظاهر حديث ابن عمر: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها"، فإن ظاهره ألَّا تأخذ بأقل ولا بأكثر، والجواب على ذلك أن يقال: إن المقصود من قوله: "بسعر يومها" ألا يزيد، أما إذا كان ينقص فهذا إحسان، ويدل على ذلك أن المنهي عنه هو الربح فيما لم يضمن، أما إذا بعت بالمائة فجائز، وإذا بعت بأقل فيكون أجود؛ لأن هذا فيه رفق بالمطلوب بدل ما أبيع عليه ألف درهم بمائة دينار أبيع عليه بتسعين دينار، يكون في هذا إحسان إليه -والدراهم والدنانير ليس فيها ربا- ولهذا اشترطنا التقابض قبل التفرق.
المهم: أن القاعدة في بيع الغرر صوره لا تحصى، بل القاعدة في ذلك: أن يكون مجهولًا ومحتملًا إنسان وقّف المبيع ومعه سيارة مشحونة بالحبحب أو بالجح، فقال له: أبيعك هذه كل واحدة بدرهم هل يجوز؟ لا يجوز، لماذا؟ لأنه يمكن أن يكون في الأسفل جح لوحده صغيرة
فتأخذ عليه دراهم كثيرة وهي لا تساوي ربع القيمة، لو قال: أبيعها عليك كلها هكذا كما ترى هذا جائز؛ لأنه باع عليه الكومة ما باع عليه بالعدد، رجل أراد أن يشتري من شخص البضاعة التي في الدكان وقال: آخذ منك هذه البضاعة كل حبة منها بدرهم هذا لا يجوز لأنه غرر، يمكن أن تكون حبة تساوي عشرة وحبة لا تساوي ريالًا، الآن هناك دكاكين يقولون: كل شيء بعشرة ريالات، هذا ليس فيه غرر؛ لأنه يقول: خذ الذي تبغي خذ ما تشاء، لكن لو قال قائل: يوجد غرر على البائع لأن البائع يوجد قطع اشتراها بعشرين مثلًا نقول: البائع لا بد أنه قد عرف كيف يخرج يعرف من أين تؤكل الكتف -والله أعلم- إن كل البضاعة التي عنده أعلاها بعشرة فيكون رابحًا.
على كل حال: إذن ليست في المسألة جهالة؛ لأن المشتري سوف يختار، والبائع نعلم -والعلم عند الله- أنه قد عرف المخرج، إذن القاعدة فهمناها، الصور لا تحصى وربما يأتي صور لا تخطر على بال العلماء ولكنها داخلة في هذه القاعدة العامة.
في هذا الحديث: نهي عن بيع الحصاة، ولقد سبق لنا شيء من صوره، والأصل في النهي التحريم، والأصل فيما كان محرمًا أن يكون فاسدًا، إذن فبيع الحصاة يترتب عليه أمران: إثم المتعاملين وفساد العقد، فإن كانا جاهلين سقط الإثم وفسد العقد.
ومن فوائده: النهي عن بيع الغرر كل غرر والنهي يقتضي الفساد.
ومن فوائده أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم، ويحب هو أيضًا جوامع الكلم حتى في الدعاء كان يدعو بجوامع الكلم ويدع ما سوى ذلك، وبهذا نعرف خطأ أولئك الذين يأتون بأدعية طويلة عريضة مسجوعة وهذا خلاف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: حرص الشارع على تجنب كل ما يكون سببًا للعداوة والبغضاء، ومن أجل ذلك نهى عن بيع الغرر والحصاة.
ومنها أيضًا: حرصه على أن ينهى عن كل شيء يكون سببًا للطمع والجشع والتكالب على الدنيا يؤخذ أيضًا من النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر.
ويستفاد من الحديث: بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يذكر بعض أفراد العام ليكون كالمثال له لقوله: بيع الحصاة وعن بيع الغرر.
ويستفاد من الحديث: النهي عن الإجارة إذا تضمنت غررًا، ووجهه: أن الإجارة نوع من البيع فهي بيع منفعة إلى أجل مسمى، الإجارة إلى مدة مجهولة لا تصح؛ لأنها غرر، وهل يستثنى من بيع الغرر شيء؟ الجواب: يستثنى منه ما جرى به العرف ولم يعده الناس غبنًا مثل