الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يختص به هذا الرجل، وأن الواجب على من عنده كلب معلم أو حرث أو ماشية إذا استغنى عنه أن يبذله مجانًا لمن أراده أو يسيبه؛ لأنه لا يجوز اقتناء الكلب إلا لحاجة من الحوائج الثلاثة.
جواز اشتراط منفعة المبيع للبائع:
752 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أنه كان يسير على جملٍ له قد أعيا، فأراد أن يسيِّبه، قال: فلحقني النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فدعا لي، وضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، قال: بعنيه بأوقِّيَّةٍ، قلت: لا. ثمَّ قال: بعنيه فبعته بأوقيَّةٍ، واشترطت حملانه إلى أهلي، فلمَّا بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثمَّ رجعت فأرسل في أثري. فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك. فهو لك". متَّفقٌ عليه، وهذا السِّياق لمسلمٍ.
الجمل: هو ذكر الإبل، والغالب أن الجمل أقوى من الناقة من وجه، وهي أقوى منه من وجه آخر، فمن جهة التحمل يكون هو أشد قوة، ومن جهة المتعة يعني: أنها تبقى تكد أكثر فالناقة، هذا الجمل كان يسير عليه في سفر، فما هو هذا السفر؟ قيل: إنه في غزوة تبوك وقيل: إنه في غزوة ذات الرِّقاع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لحقه وهو راجع إلى المدينة، والأصح -كما حققه ابن حجر-: أنه في غزوة ذات الرِّقاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جابرًا في هذه القصة: "هل تزوجت؟ " قال: نعم، قال:"أبكرًا أم ثيبًا؟ "، قال: بل ثيبًا، قال:"فهلا بكرًا تلاعبك وتلاعبها"، فبيّن له رضي الله عنه أنه تزوج الثيب؛ لأن أباه ترك بناتًا صغارًا، فأراد أن تقوم بمصالحهن، وهذا يدل على أنها في غزوة ذات الرقاع؛ لأن غزوة ذات الرقاع كانت بعد أحد بسنة، فإن أبا جابر رضي الله عنه استشهد في أحد والمعروف أنه إذا كان زواجه من أجل حاجة أخواته أنه سوف يبادر بهذا الزواج، فهذا يؤيد أنها كانت في غزوة الرقاع، أما غزوة تبوك فكانت في السنة التاسعة من الهجرة فهي بعيدة، وعلى كل حال: فتعيين الغزوة في تبوك أو ذات الرقاع ليس بذي أهمية كبيرة، ولكن العلم بالشيء ولا الجهل به، المهم القصة.
وقوله: "قد أعيا" أي: تعب؛ لأنه ضعيف، "فأراد أن يسيِّبه" يعني: يتركه ويمشي على قدميه أو يردفه مع أحد الصحابة، المهم: أن يدع هذا الجمل؛ لأنه لا نفع فيه.
يقول: "فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه"، "لحقني" يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متأخرًا، وهذه عادته صلى الله عليه وسلم أن يكون في أخريات القوم ليتفقد الضعيف والمحتاج صلى الله عليه وسلم، يقول:"فدعا لي وضربه"، وهذا الوصف مختصر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله ما هذا الجمل؟ وبيَّن له
حاله، وأنه قد أتعبه، فأمره أن يعطيه المحجن -يعني: العصا- فأعطاه، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم لجابر أن يبارك الله له في جمله، وضرب الجمل.
يقول: "فسار سيرًا لم يسر مثله"، وكان بالأول لا يمشي، يقول:"سار سيرًا لم يسر مثله"، حتى إنه كان يجر الزمام له ليستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سبق القوم.
يقول: "فقال: بعنيه بأوقية. قلت: لا، ثم قال: بعنيه، فبعته بأوقية". قال: بعنيه، فقال: بل أهبه لك يا رسول الله، فقال: بل بعنيه ثم طلب أن يبيعه بأوقية، والأوقية: أربعون درهمًا، وهي بالنسبة لدراهمنا كم تساوي؟ عندنا مائتا درهم يعادل ستًّا وخمسين ريالًا يعني: هذه الأوقية تكون إحدى عشر ريالًا وأربع قروش، وكانت الإبل رخيصة في ذلك الوقت، يعني: ليس كالإبل في وقتنا هذا. يقول: "قلت: لا، ثم قال: بعنيه فبعته بأوقية"، أعاد عليه الطلب فباعه، وكلمة "بعنيه" من الرسول صلى الله عليه وسلم ليست أمرًا، ولكنها أمر بمعنى العرض، يعني: أتبيعه علي؟ إذ لو كانت أمرًا لوجب على جابر طاعته، ولكنها عرض، فهو أمر بمعنى العرض كما تقول مثلًا لأي واحد من الناس: بع علي كذا وكذا، ليس هذا أمر ولكنه عرض، وهذه فائدة يقلُّ من يذكرها من علماء البلاغة: أن الأمر يأتي بمعنى العرض.
يقول: "فبعته بأوقيه واشترطت حملانه إلى أهلي"، "حملان" مصدر كالغفران والشكران والكفران والنكران وما أشبه ذلك وهي مصدر حمل يحمل حملًا وحملانًا، وقوله:"حملانه" من باب إضافة المصدر إلى فاعله، يعني: اشترطت حمله إياي، فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله، "حملانه إلى أهلي" يعني: في المدينة.
"فلما بلغت -يعني: وصلت إلى المدينة- أتيته بالجمل فنقدني ثمنه"، يعني: أعطاني نقدًا، وهذه الرواية -كما قلت- فيها شيء من الاختصار؛ فإن المطوَّل فيها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن يزن له؛ لأنه يقول: أوقية، وأمره أن يرجح في الميزان ولكنه أضافه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن بلالًا كان وكيلًا له، وفعل الوكيل فعل للموكل، يقول:"فنقدني ثمنه ثم رجعت"؛ يعني: انصرف من عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سلمه المبيع، واستلم الثمن، ولم يبق لأحد على أحد شيء.
يقول: "فأرسل في أثري" يعني: أرسل إنسانًا في أثري يتبع أثري ليدعوني إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء جابر، وهذا فيه حذف ويسمى في البلاغة إيجاز بالحذف لأن قوله:"فأرسل في أثري" تقديره: فأتيت، أو بعدما قلت: هناك شيء آخر فأرسل في أثري فأبلغني الرسول بذلك فأتيت، أو يوجد أيضًا زيادة: فأرسل في أثري فلانًا يطلبني، فلما وصل إليّ وأخبرني رجعت. فقال:
"أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ "، الاستفهام هنا للنفي أو للتقرير؟ هل الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي أنه يظن أو يثبت أنه يظن؟ يثبت أنه يظن، وإن كان المتبادر للإنسان أن الرسول ينفي، لكن الرسول ينفي المماكسة، وليس ينفي ظن هذا أن الرسول ماكسه ليأخذ الجمل، فهنا شيئان ظن الرجل وهذا ظن جابر، وهذا ثابت أو غير ثابت؟ أما المماكسة لأخذ الجمل هذا غير ثابت، إذن الاستفهام ليس منصبًّا على المماكسة لأخذ الجمل، إنما الاستفهام بالنسبة لظن جابر، يعني: هل تظن أنني ماكستك لأخذ جملك؟ لا، وإن كنت أنت تظن هذا الشيء.
وقوله: "تراني" يعني: تظنني، ومفعولها الأول: الياء، ومفعولها الثاني: جملة "ماكستك"، والمماكسة: المناقصة في الثمن أو الأجرة أو ما أشبه ذلك، كأن يقول لك: أبيعه عليك بمائة فتقول بل بثمانين أو بسبعين، وهكذا حتى يبيع عليك.
وقوله: "لآخذ جملك" كيف قال: لآخذ جملك وقد باعه للرسول صلى الله عليه وسلم؟ نقول: باعتبار ما كان؛ ولأن المماكسة كانت قبل عقد البيع، فهو إذ ذاك هو المالك له.
"خذ جملك ودراهمك"، خذ جملك باعتبار ما كان، ودراهمك باعتبار الحاضر أو باعتبار ما كان أيضًا؟ الآن الدراهم موجودة لكن العقد سابق، فهل الإنسان يملك الثمن إذا كان غير معين بالتعيين، أو يملكه بالعقد، هذا محل خلاف بين الفقهاء سنذكره -إن شاء الله- في الفوائد.
قال: "فهو لك"، الضمير يعود على الجمل.
قوله: "هذا السياق لمسلم" أفادنا المؤلف؛ لأن سياقات البخاري لهذا الحديث تختلف عن سياق مسلم رحمه الله، هذا الحديث -كما ترون- أدخله المؤلف في كتاب البيع؛ لأن فيه عقد بيع وهو شراء النبي صلى الله عليه وسلم الجمل من جابر، وفيه أيضًا شرط في البيع، وهو اشتراط جابر حمل الجمل إياه حتى يصل إلى المدينة، فلهذا وضع المؤلف هذا الحديث في كتاب البيع.
والحديث فيه فوائد كثيرة جدًّا تتعلق بالبيوع وغيرها فمنها: جواز الركوب على الجمل الضعيف التعبان لقوله: "كان على جمل له قد أعيا"، لكن قواعد الشريعة تقتضي شرطًا في ذلك وهو ألا يشق عليه، فإن كان يشق عليه فإنه لا يجوز أن يكلفه ما لا يطيق، أما إذا كان يشق عليه مشقة محتملة فإن هذا لا بأس به، وهل يجوز لمن كان على مثل هذا الجمل أن يضربه حتى يلحق بالركب؟ الجواب: لا؛ لأن هذا إيلام بلا فائدة، ولهذا جابر ما كان يضربه حتى يلحق بالقوم، بل أراد أن يسيبه.
ومن فوائد الحديث: جواز تسييب المال إذا لم يكن فيه منفعة، وإن شئت فقل: الحيوان إذا لم يكن فيه منفعة؛ لقوله: "فأراد أن يسيبه".
فإن قال قائل: هذا يعارض قول الله تعالى: {ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ
…
} [المائدة: 102].
أي: ما جعل الله ذلك شرعًا، فكيف الجمع؟
نقول: السائبة التي في القرآن والتي نفى الله تعالى مشروعيتها هي أن العرب إذا ولدت الناقة عندهم ما ولدت أو أضرب الجمل ما أضرب سيبوه وحرموا ركوبه وحرموا أكله، وقالوا: هذا أتى بالواجب عليه سواء كان فحلًا أو كان أنثى، وولدت ما ولدت فيقول: هذا قضى الذي عليه فيجب أن يسيب أو يترك، وهذا يستلزم تحريم ما أحل الله من أكله ومنافعه؛ فلهذا نفى الله مشروعيتها، أما هذا فليس سيبه تحريمًا له، ولكنه سيبه لانعدام فائدته، ومع ذلك فيه مشقة على جابر أن يبقى متأخرًا عن القوم على هذا الجمل، لو قال قائل: تسييبه كيف تجوزونه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت" وتسييبه تضييع له؟ قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة التي حبستها المرأة وعذبت عليها بالنار: "لا هي أطعمتها -إذ هي حبستها ولا أطعمتها-، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، وهذا يدل على أن الإنسان إذا ترك البهيمة لم يسجنها ولم يحبسها فليس عليه منها شيء، وأيضًا إذا كان هذا لا مصلحة وفيه مضرة على الإنسان فماذا يصنع؟ وإذا كان الله خلق هذه لمنافعنا فلدفع مضراتنا من باب أولى؟ إذ قال قائل: لو انكسر البعير هل يجوز لصاحبه أن يدعه؟
الجواب: لا، لا يجوز؛ لأن بإمكانه أن ينحره وينتفع بلحمه، لكن الذي تعب وأعيا الغالب أن لحمه ليس بجيد فلا ينفع، لو انكسر الحمار ماذا نصنع؟ الحمار لا يمكن أن يجبر هذا من طبيعته، فهل يتركه أو يقتله؟ يقتله هذا لا بأس تفاديًا من نفقاته وشره ووجوده يحتاج إلى نفقات فليس له إلا قتله؛ لأنه لو خرج به إلى البر وسيبه لا يستطيع أن يعيش؛ لأنه مكسور فأحسن شيء في هذا أن يقتل.
قوله: "فأراد أن يسيبه" فيه أيضًا دليل على أن إضاعة المال إذا كان تفاديًا لما هو أعظم فلا بأس به، يعني: إذا أتلف بعض ماله تلافيًا فيما هو أعظم فلا بأس به، كيف ذلك؟ بتسييب الجمل.
هل يؤخذ منه: جواز بيع الوقف إذا تعطلت منافعه؟ يجوز أن يباع ويجوز أن يترك، وخير الأمرين أن يباع ويشترى بقيمته ما يقوم مقامه.
بقي علينا بحث مسألة ثانية وهي: هل إذا وجدها أحد تكون له؟ غير الإبل؛ لأن الإبل الرسول
صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الإبل الضائعة، فنهى عن أحدها وقال:"ما لك ولها؟ "، لكن المتروكة رغبة عنها قال أهل العلم: إنه يملكها واجدها أيًّا كانت سواء كانت شاة أو بعيرًا أو خشبًا أو حديدًا كل شيء تركه صاحبه وأنت تعرفه أنه راغب عنه فهو لك، يتفرع على هذا: السيارات التي تصدم في الخطوط هل هي لمن وجدها؟ الظاهر لي: أن هذه إذا كانت الصدمة قوية ليس فيها شيء ينتفع به إلا صندوقها والهيكل فصاحبها لا يريدها، وإن كانت بسيطة فمعروف أن صاحبها يريدها، على كل حال: القاعدة في هذا إذا غلب على الظن أن هذا متروك رغبة عنه فهو لمن وجدها.
قال: "فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم
…
إلخ"، يستفاد من هذه الجملة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في أخريات القوم؛ لقوله: "فلحقني"، وإذا كان جمله قد أعيا، فإن من لازم ذلك أن يكون في أخريات القوم قطعًا.
ويتفرع على هذه الفائدة: حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وصحبه الذين معه، وأنه كان يكون خلفهم.
ويتفرع عليها أيضًا: أنه ينبغي لأمير الجيش أن يكون هكذا خلف جيشه أو خلف صحبه ورفقته ليتفقد أحوالهم بنفسه.
ويتفرع من هذا أيضًا: تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن بإمكانه أن يكون في مقدمة القوم ويكون شخصًا يكون في أخريات القوم، لكن من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب أن يكون في أخريات القوم.
ومن فوائد الحديث: شفقه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ولا سيما المستضعف منهم؛ لقوله:"فدعا لي".
ومنها: الإحسان إلى الغير بالدعوة له غائبًا أو حاضرًا، لكنه في الغيب أفضل؛ لأن الغيب أقل منَّة من الحضور؛ إذ إن الحاضر إذا دعا للإنسان الحاضر قد يستشعر أنه له منَّة عليه بهذا الدعاء، وكذلك المدعو له قد يشعر بهذه المنَّة فتنكسر نفسه أمامه، لكن إذا كان في الغيب زال هذا المحظور.
في الدعاء بالغيب فائدة أخرى: أن الملك يؤمِّن ويقول: "ولك مثله"، ولكن إذا كانت الدعوة للحاضر فيها مصلحة أو كان هناك مناسبة كان ذلك أفضل، ولهذا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لجابر بهذه المناسبة.
ومن فوائده: جواز ضرب الحيوان ليسير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضربه، لكن يشترط لذلك شرطان: الأول: ألا يكون ضربًا مبرحًا كما يفعل الناس يأخذ خشبة له ويضرب الجمل
أو الحمار أو ما أشبه ذلك، والثاني: ألا يكون فوق طاقة ذلك الحيوان، فإن كان فوق طاقته بأن يكون الحيوان قد بذل الطاقة ولكن ليست عنده قدرة فحينئذٍ يكون ضربه مجرد تعذيب ليس فيه فائدة، والمقصود من الضرب الفائدة.
ومن فوائد الحديث: ظهور آية من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أنه حين دعا لجابر وضرب جمله صار الجمل سيرًا لم يسر مثله قط، وهذا من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، والآية: كل علامة يتبين بها صدق المدعي هذه الآية، والتعبير بآية فيما يظهر من خوارق العادات على أيدي الأنبياء أولى من التعبير بالمعجزة لوجهين:
الوجه الأول: أن ذلك هو التعبير القرآني، والتعبير النبوي، حتى إن الله عز وجل جعل الآية فيما دون ذلك:{وءايةٌ لَّهم أنَّا حملنا ذريَّتهم فى الفلك المشحون} [يس: 41]. وقال: {أولم يكن لَّهم ءايةً أن يعلمه علماؤا بنى إسراءيل} [الشعراء: 197].
والوجه الثاني: أن المعجزة قد تقع من غير نبي، قد تقع من ساحر ومستخدم للشياطين، فلهذا كان التعبير بالآية أولى لهذين الوجهين.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يعين أخاه المسلم في مركوبه لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لجابر وضربه للجمل، ومعونة الإنسان في هذه الأمور من الصدقة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة".
ومن فوائد الحديث: جواز اختبار الإنسان بما لا يراد حقيقته؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بعنيه"، فإن الرسول طلب أن يبيعه منه لا لأخذ الجمل، ولكن يختبره، فإن جابرًا كان يريد أن يسيبه رغبة عنه وزهدًا فيه، ولا يريده بل يريد التخلص منه، ثم لما بلغ إلى هذه الحال فسار سيرًا لم يسر مثله أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختبره فقال:"بعنيه بأوقية" قال: "لا"، هذا هو أحسن ما يحمل عليه الحديث، وأما قول بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبر جابرًا ولكنه خشي أن ينكسر قلبه إذا أعطاه فتحيل على عطيته بأن يظهر ذلك في صورة شراء الجمل فهذا بعيد، ويبعده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مناسبة ما حصل للجمل، وقال بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطيه زيادة نفل من الغنيمة، ولكن خاف أن يعطيه أمام الناس، فيقال: فضله علينا، فأراد أن يجعلها في صورة شراء لجمله، وهذا أيضًا بعيد فأظهر ما يحمل عليه الحديث ما ذكرته.
ومن فوائد الحديث أيضًا: جواز شراء الأكابر من الأصاغر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى من جابر، ويدخل فيه السنّ والمقدار، فعليه يجوز أن يشتري الأب من ابنه، والأخ الكبير من أخيه الصغير، والأمير من المأمور، ولا يدخل في ذلك السيد من عبده، لماذا؟ لأن العبد ملك لسيده.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه لا يعد من المعصية إذا امتنع البائع من البيع؛ لقول جابر: "لا" ولم يكن هذا معصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ما وبخه الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فلو قال لك أبوك: يعني كذا، فقلت:"لا" لم يعد هذا عقوقًا ولا قطيعة رحم؛ لأن هذه شئون خاصة، وما يفعله بعض الناس من الغضب على قريبه إذا طلب منه أن يبيع عليه شيء فقال: لا، فهو خلاف الشرع، بعض الناس يغضب يقول: هذا لا خير فيه ولا يصل رحمه، فنقول: بل أنت الذي أخطأت، فليس لك الحق في أن تغضب وتستنكر هذا الشيء، وقد وقع ذلك من الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: تقدير الثمن في المساومة لقوله: "بأوقية"، ولكن قد يقول قائل: هذه الفائدة بديهية كما يقال: السماء فوقنا والأرض تحتنا، فما الجواب؟ الجواب: أن في تعيين الثمن فائدة من أجل أن يقدم أو يحجم، يعني: ليس كما لو قلت: بع على بيتك، بع علي ساعتك، بع على قلمك، إذا بعت ففيه فائدة وهو أن البائع يقدم إن رأى الثمن مناسبًا أو يحجم إذا رآه غير مناسبٍ، وهل يمكن أن نقول: إن فيه دليلًا على اشتراط العلم بالثمن؟ الظاهر: أنه لا يؤخذ من هذا الحديث، لكن لا شك أنك إذا عينت الثمن أولى وأحسن.
ومن فوائد الحديث جواز تكرار طلب البيع أو الشراء؛ لقوله: "بعنيه، فقلت: لا، قال: بعنيه"، ولا يعد هذا من الإلحاح المكروه، فلو جئت إلى شخص وقلت: بع علي بيتك فقال: "لا"، ثم مضى زمن وقلت: بعه عليّ، وقلت مرة ثالثة ورابعة فلا حرج، ولا يعد هذا من الإلحاح المكروه؛ لأنني لا أريد أن يعطينيه بلا ثمن، بل أريد أن يعطينيه بثمن، ولهذا كرر الرسول صلى الله عليه وسلم طلب البيع قال:"بعنيه".
ومن فوائد الحديث: جواز اشتراط منفعة المبيع على وجه معلوم؛ لأن جابرًا اشترط حملان الجمل إلى المدينة، والعلم قد يكون بالزمن، وقد يكون بالعمل، وقد يكون بالمسافة، قد يكون بالزمن كما لو اشترطت علي أن أسكن هذا البيت لمدة شهر، هذا بالزمن، وقد يكون بالعمل كما لو بعت عبدًا واشترطت أن يخيط لي ثوبًا، هذا بالعمل، الثالث بالمسافة كما لو بعت سيارة واشترطت عليك أن تسافر بها إلى مكة.
الفرق بين هذه الثلاثة ظاهر، الزمن متى انتهى، انتهى الشرط سواء حصلت شيئًا كثيرًا أو لم تحصل، العمل كذلك متى انتهى، انتهى الشرط سواء طالت مدة العمل أم قصرت المسافة كذلك، يعني: لي هذه المسافة سواء طالت المدة أم قصرت.
ومن فوائد الحديث: أن اشتراط النفع لا بد أن يكون معلومًا لقوله: "إلى أهلي" فإن كان
مجهولًا فقال بعض العلماء بصحته، وقال آخرون بعدم صحته مثل: أبيعك بيتي وأستثني سكناه حتى أجد بيتًا، هذا فيه خلاف؛ منهم من قال: يجوز ويضرب له مدة يمكن أن يحصل على بيت في مثلها، ومنهم من يقول: لا يجوز، ولا شك أن تعيين المدة أقطع للنزاع وأبعد عن الاختلاف، وأنت إذا ظننت أنك لا تحصل بيتًا إلا في خلال شهر فاجعل المدة شهرين حتى إذا وجدته في خلال الشهر تكون لك المنة على صاحب البيت إذا أعطيته بيته وتنازلت عن بقية المدة، فلو شرط النفع في غير المبيت وقال: بعتك بيتي على أن تسكنني بيتك شهرًا؟ لا يصح ذلك، والفرق بينهما أنه في الأول استبقاء منفعة، أما هذا فهو تجديد منفعة، كيف استبقاء منفعة؛ لأنه عندما أبيعك البيت تملك عينه ومنافعه من حين العقد، فإذا استثنيت منفعة لمدة سنة مثلًا فاستثناني هذا استبقاء لمنفعة كنت أملكها أنا فاستبقيت النفع لهذه المدة فصار هذا جائز، أما إذا قلت: على أن تسكنني بيتك شهرًا، فهذه منفعة مستجدة ليس لها علاقة بالمبيت فليست استبقاء منفعة وإنما هي كعقد الإجارة، واشتراط عقد في عقد لا يصح، هذا هو الذي مشى عليه أصحابنا، وجعلوا هذا من باب بيعتين في بيعة، فقالوا: لا يصح اشتراط عقد في عقد.
والقول الثاني في المسألة: أن هذا صحيح أن أبيع عليك هذا البيت بشرط أن تسكنني بيتك لمدة شهر أو مدة سنة حسب ما نتفق عليه، وقالوا: إن أقصى ما في ذلك أن عقد جمع بين بيع وإجارة، ولا دليل على المنع من الجمع بين عقدين، ولهذا يجوز أن أقول: بعتك بيتي على أن تبيعني بيتك بثمن معلوم، وليس هناك دليل على المنع.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن نكاح الشغار؟
فالجواب: بلى، ولكن نكاح الشغار يتعلق به حق ثالث يخاف أن يمتهن حقه بهذا الشرط، من الثالث؟ المرأة، ربما يقول: أنا أزوجك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ويذكر المهر وكل شيء، لكن يكون في هذا إجحاف على المرأتين أو على إحدهما بخلاف هذه المسألة، فالصحيح: أنه ينشأ اشتراط عقد آخر مع هذا العقد، إلا إذا تضمن ذلك محظورًا شرعيًّا، كما لو قلت: أقرضتك ألف ريال بشرط أن تسكنني بيتك سنة، هذا لا يجوز؛ لماذا؟ لأنه قرض جر منفعة وأخرج القرض عن موضوعه؛ إذ إن الأصل في القرض الإرفاق والإحسان، والآن جعلته من باب المعاوضة والطمع، ولهذا نقول: كل قرض جر منفعة فهو ربا سواء صح، الحديث أم لم يصح، لكن معناه صحيح على كل حال نقول: إذا اشترط منفعة في البيع فهو جائز، دليله حديث جابر.
أما إن اشترط منفعة في غيره ففيه خلاف، والراجح جواز ذلك، بعض العلماء يقول: إن جواز هذا الشرط على خلاف القياس، ويأتون بأشياء من العقود يقولون: إنها على خلاف
القياس، يعني: أن القياس يقتضي بطلانها، لكن تبعنا النص فيها مثلًا المزارعة تكون على خلاف القياس، المساقاة على خلاف القياس، المضاربة على خلاف القياس، حتى إن بعضهم قال: الإجارة على خلاف القياس؛ لأنها إجارة على منافع معدومة قد تحصل، وقد تتلف العين المؤجرة ولا يحصل شيء، ويقولون أيضًا: هذا الشرط على خلاف القياس، نقول لهم، ما القياس الذي تريدون؟ قالوا: القياس أن العين إذا انتقلت بالبيع انتقلت بمنافعها، وهنا لم تنتقل بمنافعها، بل بقيت مصلحة مستحقة للبائع، فهذا خلاف القياس، فيقال لهم أولًا: ليس في السُّنة الصحيحة شيء على خلاف القياس، ومن ظن أن فيها شيئًا على خلاف القياس فإما أن يكون أخطأ في الظن، وإما أن يكون قياسه فاسد لماذا؟ لأن الشرع جاء على وفق العقول السليمة في أخباره وفي أحكامه، ولا يوجد شيء على خلاف القياس أبدًا، لكن فكر تجد أن القياس هو ما دل عليه الشرع، فهنا نقول: ليس هذا على خلاف القياس، لماذا؟ لأن انتقال ما يكون بالعقد على حسب ما جرى به العرف أو اقتضاه الشرع أو الشرط اللفظي؛ يعني: أن الشرع يحدد، والعرف يحدد، والشرط اللفظي يحدد، فهذا الذي باع ملكه واستثنى منفعته لمدة هو في الحقيقة ما عقد عليه عقدًا مطلقًا ولكن عقد عقدًا مقيدًا، ومقتضيات العقود ترجع إما إلى العرف أو الشرع أو الشرط، مثلًا: لو باع عليّ عبدًا واستثنى ولاءه، تقول: هذا لا يجوز؛ لأن هذا لا يقتضيه الشرع، لو باع عليه أمة واستثنى بضعها لا يصح؛ لأن هذا خلاف الشرع، إذ إنك إذا بعتها لم تكن ملكًا لك، والبضع لا يجوز إلا لزوج أو مالك، وعلى هذا فقس، هذا نقول: انتقل الملك من مالكه بمقتضى هذا الشرط، وإن شئت فقل: انتقل انتقالًا مقيدًا، كيف ذلك؟ يعني: مقيد بهذا الشرط أنا لم أبعه عليك على أن تستغل منفعته من الآن بل بعته عليك على أن منفعته لي إلى وقت محدود، وهذا موافق تمامًا للقياس.
وعلى هذا فتقول -في كل ما ذكر من أنه على خلاف القياس-: ليس في الشرع شيء على خلاف القياس، ومن ظن ذلك فإما أن يكون ظنه فاسدًا، وإما أن يكون قياسه فاسدًا، أما قياس صحيح فهو مع ظن صحيح، فلا يمكن في الشرع ما يخالف القياس.
من فوائد الحديث: فضيلة جابر رضي الله عنه؛ حيث وفَّى بالشرط فور انتهائه لقوله: "فلما بلغت أتيته بالجمل" بدون تأخير، حتى إنه في بعض سياق الحديث أنه أتى به قبل أن يذهب إلى أهله وأتى به والرسول صلى الله عليه وسلم عند المسجد فقال له:"صليت؟ "، قال:"لا". قال: "ادخل فصلّ ركعتين"؛ لأن الأفضل للإنسان إذا قدم البلد أن يبدأ قبل كل شيء بالصلاة في المسجد.
ومن فوائد الحديث: أن المعهود ذهنًا كالمذكور لفظًا؛ لأن اشتراط حملانه إلى أهله وهم في المدينة، فإذا كان بين الناس عرف معلوم فإنه يغني عن الذكر باللفظ لهذا الحديث:"إلى أهلي".
فيه أيضًا: جواز الشراء بالدين، يعني أن الإنسان يشتري الشيء ولو لم يكن عنده ثمنه؛ لأن الرسول ما نقده الثمن إلا في المدينة بعد أن رجع، فالظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معه حينذاك نقود؛ بدليل أنه في بعض السياقات أمر بلالًا أن يزن له ثمنه ويرجح ولو كان معه بيده شيء لكان أعطاه مما في يده، إذن يجوز الشراء بالدَّين، ولكنه ليس هذا على إطلاقه وإنما يجوز ذلك لمن له وفاء، أما من يأخذ أموال الناس وليس عنده وفاء يرفِّه نفسه ويفعل فعل التجار الأغنياء وهو فقير، ففي جواز ذلك نظر، وإن كان الأصل في المعاملات الحل لكن هذا فيه نظر.
رجل فقير رأى عند إنسان سيارة "كديلاك" وهو فقير، السيارة "الكديلاك" بمائة ألف وهو ما عنده، فذهب إلى المعرض واشترى منهم بمائة وعشرين ألفًا؛ لأن المعرض لا يعطيها للمؤجل مثل المنقود، وقال: أمشي مع الناس وكأني من الأغنياء، هذا لا يجوز؛ لأنه إسراف وأخذ لأموال الناس على وجه يخشى منه التلف، ولهذا لم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أراد أن يتزوج المرأة إلى الاستدانة لما قال: ما عندي شيء، مع أن النكاح من أهم المهمات، وقد يكون من الضروريات، ومع هذا ما أرشده، بخلاف الإنسان الذي عنده مال ولنفرض أنه موظف وعنده راتب لكن الآن ليس عنده شيء؛ يعني: ينتظر آخر الشهر ليوفي وهو شبه متيقن بأنه سيعطيه فلا بأس أن يأخذ شيئًا بدين.
الصورة التي وقعت هل هي بيع عين بعين، أو بيع دين بدين؟ عين بدين؛ إذن فيؤخذ من هذا أيضًا: جواز بيع العين بالدين، بيع الدَّين بالدَّين إن كان هناك تأجيل فإنه لا يجوز وإلا جاز، وعمل الناس على هذا الآن، الإنسان يقول مثلًا: اشتريت منك كذا وكذا بكذا وكذا، ويذهب للدكان ويحضره لهم، فالعقد وقع على دين بدين.
ومن فوائد الحديث: جواز توكيل الغير لقوله: "فأرسل في أثري"، ما قام الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه وقال: يا جابر، وإنما أرسل في أثره، ومثل هذا مما جرت به العادة لا بأس به، لا سيما إذا كان المكلَّف الذي كلفته بالشيء يفرح بهذا ولا يثقله فإن هذا لا بأس به ولا يعد هذا من السؤال المذموم الذي بايع الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألَّا يسألوا الناس شيئًا؛ لأن الصحابة بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يسألوا الناس شيئًا، حتى كان الرجل يسقط منه العصا فينزل من على بعيره ليأخذه ولا يقول: يا فلان أعطنيه، لكن الشيء الذي تعلم أن صاحبك الذي كلفته بالعمل يسرُّ بذلك ولا يثقله فإنه لا حرج عليك أن تسأله وأن تكلفه، فإن كنت تخشى أن يستثقل ذلك فلا تفعل، ويظهر ذلك بأمارات قولية أو نفسية، النفسية أنك إذا أمرته اصفر وجهه واكفهر، هذا بدل ما يقول: لا بلسانه هذا النفسي، أو لما أمرته قال:"أف" تأفف هذا
بلسانه هذا ابتعد عنه لا تكلفه، أما الرجل الذي يسارع في خدمتك ويفرح إذا كلفته فهذا لا بأس، وهذا من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وليس مثل سؤال الناس شيئًا.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن نقول للكبير: "لا" خلافًا لما عند العامة، العامة ما يقولون: لا، بل يقولون: سلامتك.
ومن فوائد الحديث: جواز التوكيل بالوفاء.
ويؤخذ منه أيضًا: جواز التوكيل في الاستيفاء: بأن يوكل شخصًا يستوفى حقه ممن هو عليه، وهل يملك من عليه الحق أن يمنع ويقول للوكيل: أنا لا أسلمه إلا لمن له الحق؟ الجواب: لا، ليس له أن يمنع؛ لأن الإنسان له أن يستوفي حقه بنفسه وبوكيله، نعم لو فرض أن الوكيل ليس معه إثبات شرعي بأنه وكيل فحينئذٍ له أن يمنع ويقول: لا أسلمك إياه إلا بإثبات شرعي على أنك وكيل له باستيفاء حقه، من أين أخذنا هذه الفائدة؟ أخذناها من أن التوكيل في الاستيفاء نظير التوكيل في الوفاء، والتوكيل في الإيفاء أجازه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد بالبيع حقيقتة لقوله: "أتراني ماسكتك لآخذ جملك؟ "، وهل أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق عليه فتوصل بهذا العقد الصوري إلى الصدقة؟ قيل بهذا، وقيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اشتراه حقيقة، لكن لما رأى عزته في نفسه -نفس جابر- وأن الجمل غالٍ عنده رده عليه، وهذا أحسن من الذي قبله، لكن يشكل عليه أن ظاهر الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينو البيع أصلًا؛ لقوله: "أتراني
…
" إلخ، فهذا يدل على أنه لم يرد إطلاقًا البيع.
إذن فالذي يظهر لي: أن المراد بذلك الاختبار لحال الإنسان من حيث هو إنسان، أن الإنسان قد يكون زاهدًا في الشيء ثم لا يلبث أن يكون راغبًا فيه حسب ما يتعلق به من الأوصاف التي ترغب فيه أو ترغب عنه؛ كما قال هنا:"بعينه" بعد أن كان يريد أن يسيبه فأبى أن يبيعه على الرسول صلى الله عليه وسلم بأوقية مع أنه كان أراد أن يسيّبه، وهذا لا تأباه القواعد الشرعية أن يقصد بهذا الامتحان، ولهذا قال:"أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ " مما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد التملك إطلاقًا. ولو أراد ذلك لكان الجمل جمل النبي صلى الله عليه وسلم، واحتيج إلى تأويل في قوله:"لآخذ جملك" وهو التعبير عن الشيء باعتبار ما كان عليه؛ لأن الجمل كان أولًا لجابر.
ومن فوائد الحديث: كرم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث جمع لجابر رضي الله عنه بين العوض والمعوض؛ يعني: بين الجمل وبين الدراهم، أي: قيمة الجمل؛ لقوله: "خذ جملك ودراهمك"، إذن "جملك" باعتبار نية الرسول صلى الله عليه وسلم، و"دراهمك" باعتبار نية جابر.
وفيه دليل: على جواز تأخير الثمن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوف إلا بعد رجوعه المدينة، لكن التأخير على نوعين تارة يكون مؤجلًا فيبق إلا أجله، وتارة يكون مسكوتًا عنه، فلمن له