الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العادة مثلًا أخذت الدلال وأباريق الشاي وأشياء أخرى تصدَّقت بها، والسكر والشاي وجاء الزوج لم يجد في البيت شيئًا فهذا لا يصلح، أو نقول: داخل في قوله: "غير مفسدة"؛ لأن هذا في الحقيقة- وإن كان ليس إفسادًا- فهذه الأشياء وجهت توجيهًا سليمًا أعطيت للفقراء والأقارب وما أشبه ذلك، لكن في الواقع هي من حيث البيت مفسدة لا شك.
إذن نقول: لا بد أن يكون مما أذن فيه عرفًا وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون الزوج بخيلًا لا يرضى بأن تبذل شيئا أو غير بخيل، ولكن هل هو مراد؟ الظاهر: أنه غير مراد، لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا برضاه كما قال تعالى:{لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكونوا تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29]. فلابد من الرضا، فإذا علمت أن الزوج بخيل لا يرضى أن تتصدِّق ولو بتمرة فلا تتصدق.
وهنا مسالة تشكل على بعض الناس وهي: أن يأتي الزوج أحيانًا بحاجة للبيت كثيرة لكنها تفسد إذا تأخر أكلها فتقول: الآن أنا بين أمرين إما أن أتصدِّق بها- أي: بالزائدة-، وإما أن يبقى ويفسد، وزوجي يقول: لا تتصدقي بشيء، فما الجواب؟ لا يجوز أن تتصدق، ولكن ما تقولون: إنها إذا تصدقت بالذي سيفسد، ثم عوضته من مالها الخاص فيجوز ذلك، وهذا لا شك إصلاح {والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة: 220]. أما عمل زوجها الأول فهذا ليس بصواب، وكان عليها أن تقنعه بقدر ما تستطيع أن ذلك لا يجوز، فيجوز من الحديث قاعدة "تصرف الفضولي"، وهو الذي يتصرف في مال موكله بغير إذنه، والعلماء اختلفوا في ذلك هل ينفذ التصرف أو لا ينفذ؟ والصحيح أنه ينفذ بالإجازة إلا ما يحتاج إلى نية مثل الزكاة، فهذا قد يقال: لا ينفذ، لاشتراط النية، وقد يقال أيضًا: إنه ينفذ؛ لأنه إذا أذن له فقد أقامه مقامه.
جواز تصدق المرأة على زوجها:
607 -
وعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: "جاءت زينب امرأة ابن مسعودٍ، فقالت: يا رسول الله، إنَّك أمرت اليوم بالصَّدقة، وكان عندي حليٌّ لي، فأردت أن أتصدَّق بها، فزعم ابن مسعودٍ أنه وولده أحق من تصدَّقت به عليهم، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحقُّ من تصدقت به عليهم. رواه البخاريُّ.
هذا الحديث فيه قصة وهي واضحة بينة، فقولها:"إنك أمرت اليوم بالصدقة"، تقدم لنا أن الأمر هو طلب الفعل على وجه الاستعلاء.
وقولها: "بالصدقة" تحتمل أن تكون الصدقة الواجبة، وتحتمل أن تكون صدقة التطوع،
والحديث مطلق، وإذا كان مطلقًا وليس هناك قرينة تدل على تعيين أحد الأمرين كان صالحًا لهما جميعًا.
وقولها: "وكان عندي حلي لي"، لا يدل على أنها أرادت أن تتصدق بجميع الحلي، لكن أرادت أن تتصدق بحلي عندها، إما عن زكاة، وإما عن تطوع.
وقولها: "فزعم ابن مسعود"، أصل الزعم: يقال للقول الكاذب، ولكن قد يراد به الصدق.
وقولها: "أحق" بمعنى: أولى وأجدر، "من أتصدَّق به عليهم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم "صدق ابن مسعود"، "صدق" بمعنى: أخبر بالصدق، ثم أكد هذا أيضًا لم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل قال:"زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم" فأكد هذا الكلام بأمرين:
الأمر الأول: أنه قال: صدق. والثاني: أنه أعاد الكلام.
فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد، الأولى: أن صوت المرأة ليس بعورة، وجه ذلك: أنها تكلمت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أحد، ولو كان صوت المرأة عورة وهذا الحديث فرد من أحاديث كثيرة لا تحصر في أن النساء كن يتكلمن بحضرة الرجال، ولا ينهاهن النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا يدل على أن صوت المرأة ليس بعورة لمجرد كونه صوت المرأة، لكن لو فرض أن الإنسان صار يسترسل معها في الكلام متلذذًا بذلك فهذا حرام لأن التمتع بصوت المرأة أو بالنظر إليها محرم.
كذلك أيضًا يستفاد منه: حرص نساء الصحابة على العلم، لأنها جاءت تستفتي، والاستفتاء طلب علم لأن طلب العلم لا يقتصر على أن يرتسم الإنسان على طلب العلم، وينذر نفسه لذلك ويتفرغ له فحسب، لا حتى الإنسان إذا جاء يسألك عن مسألة فإنه يعتبر طالب علم، قال النبي صلى الله عليه وسلم "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة".
ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أن الصدقة من العبادات، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وكونها من العبادات أمر واضح، ولكن هذا نأخذه من هذا الحديث.
ومن فوائد الحديث: جواز بيان الإنسان أحقيته فيما يستحقه وأن هذا ليس من باب المسألة المذمومة، وجه ذلك: أن ابن مسعود قال: إنه أحق من تصدقت بحليها عليه هو والولد، فإذا قدِّر مثلًا أن إنسانًا كتب إلى جهة توزع الكتب بأنه مستحق وأهل لذلك؛ فإن هذا ليس من المسألة المذمومة؛ لأن الجهة لا تحيط بالناس ولا تعرفهم، فكتابتك إليها مثلًا ما هي إلا تعريف وإعلام وليست سؤالًا، فإذا بيَّن الإنسان أنه أحقَّ بهذا الشيء وإن كان ذلك البيان يستلزم السؤال لكنه ليس بسؤال مذموم؛ لأن ابن مسعود قال ذلك وعلم به النبي صلى الله عليه وسلم وأقره.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن يكون الزوج والولد مصرفًا للصدقة. وجهه: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "زوجك وولدك أحق ما تصدقت عليه"، بل فيه زيادة على ذلك أنهم أحق من الناس الأباعد؛ لأن أحق اسم تفضيل تدل على مشاركة المفضل مع المفضل عليه وزيادة فهم أحق، فلو كان لها زوج فقير وفي البلد فقراء آخرون فزوجها أحق، ويتفرع على هذه القاعدة: أن الزوج محل للصدقة الواجبة على زوجته، يعني: أنه يجوز للمرأة أن تصرف زكاتها إلى زوجها، تؤخذ هذه الفائدة من عموم قوله:"أحق من تصدقت به عليهم" وهذا يشمل الصدقة الواجبة والمستحبة، فإن قلت: إنها إذا أعطت زوجها من زكاتها فإن زوجها سوف ينفق عليها من هذه الزكاة؟ الجواب: أن هذا لا يضر؛ لأن زكاتها عادت إليها بسبب آخر- وهو الإنفاق- فلا يضر، كما لو أن الإنسان تصدق على ابن عمه بشاة من زكاته، ثم مات أبن عمه وورث الشاة فتحل له؛ لأنه ملكها بسبب آخر، ومنها أيضًا: جواز دفع الصدقة إلى الولد الذكر والأنثى لقوله: "وولدك"، وظاهر الحديث العموم كما أثبتنا.
لكن هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، هل يجوز للزوجة أن تصرف زكاتها إلى زوجها؟
فالمشهور من المذهب أن ذلك لا يحل، وعللوه بأنه ربما ينفق عليها من زكاتها، ولكن هذا ليس بصحيح، كذلك الأولاد دفع الزكاة إليهم لا يحل على المذهب، والصحيح أن دفع الزكاة إليهم يحل لكن بشرط ألا تكون نفقتهم واجبة، أو بعبارة أصح ألا يكون ما دفعه وقاية لما يجب عليه، نقول: يجوز أن يدفع الزكاة إلى ولده بشرط ألا يكون ما دفعه وقاية لما يجب عليه، مثلًا الولد يجب عليك أن تنفق عليه إذا كان دفع الزكاة إليه يقي مالك بحيث يستغني بالزكاة عن النفقة لا يجوز؛ لأنك الآن أعطيته من أجل توفير المال أما إذا كان لا يقي ما يجب عليك فلا بأس به، كيف ذلك؟
له صور منها: إذا كان على ابنك دين ليس سببه النفقة فإنه لا يلزمك أن تقضي دينه، فإذا قضيت دينه من زكاتك فلا بأس؛ لأنك إذا أعطيته زكاتك لم تقِ مالك إذ إن دينه لا يجب عليك قضاؤه أو وفاؤه.
مثال آخر، أو صورة ثانية: مالي لا يتحمل الإنفاق على ولدي، عندي مال فيه الزكاة لكنه قليل لا يكفيني إلا أنا وزوجتي، ولا يكفيني أنا وأولادي، فدفعت زكاتي إليهم فيجوز، لماذا؟ لأن نفقتهم في هذه الحال غير واجبة عليَّ فأنا لا أسقط به واجبًا علي فيكون هذا جائزًا.
فإذا قلت: ما هو الدليل على الجواز وهم أبناؤه وبضعة منه؟ فالجواب على ذلك عموم
قوله تعالى: {* إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60]. فإننا نسأل هل الولد فقير أو لا؟ إذا قالوا: فقير. قلنا: ادفع الزكاة إليه؛ لأنه استحق، فالزكاة بالوصف الذي علق به الاستحقاق فهو فقير، وأنا الآن لا يجب عليَّ الإنفاق عليه إن كانت المسألة نفقة، ولا يجب عليَّ قضاء دينه إن كانت المسألة قضاء دينه، أيضًا الزوج؛ لأن الزوج أوضح من الأولاد؛ لأن الزوج لا يمكن أن تجب نفقته على الزوجة إلا على رأي الظاهرية. فابن حزم- وهو من الظاهرية- كان يقول: إذا كانت الزوجة غنية والزوج فقيرًا وجب على الزوجة أن تنفق على زوجها؛ لعموم قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة: 233]. قال: هي ترثه فيجب عليها الإنفاق، وسيأتي لنا- في باب النفقات- أن هذا قول ضعيف، وأن الآية ليس فيها دلالة لما ذهب إليه.
إذن نقول: دفع زكاة المرأة إلى زوجها جائز بدليل هذا الحديث، دفع زكاة الإنسان إلى أولاده جائز بشرط ألا يقي بالدفع شيئًا واجبًا عليه، فإن وقى بها شيئًا واجبًا عليه لم يحل؛ لأن هذا حيلة.
ومن فوائد الحديث أيضًا: وجوب تصديق المفتي إذا كانت فتواه موافقة للحق، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"صدق ابن مسعود"، خلافًا لما يفعله بعض الناس ينقل إليه فتوى من شخص وهو يعرف أنها صحيحة لكن تجده أحيانًا يقول: هذا خلاف المذهب مع أنه يعتقد أن الفتوى صحيحة، فهذا حرام، بل الواجب عليك أن تصدق أيَّ إنسان يفتي بالحق وإن كان من غير أهل العلم، إذا كانت فتواه حقًّا فإنه يجب عليك أن تصدقه، وأن تقول: هذه صحيحة وليس فيها شيء.
ومن فوائد الحديث: بيان أن للناس مراتب في الاستحقاق، تؤخذ من اسم التفضيل؛ لأن "أحق" يدل على أن هناك شيئًا مفضَّلًا ومفضَّلًا عليه.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أن عبد الله بن مسعود يعتبر من فقراء الصحابة، ومع ذلك فهو من أفضل الصحابة، ومن أصحاب الفتيا فعليه نقول إن الفقر ليس بعيب، بل قد يكون الفقر خيرًا للإنسان، كما يذكر في الحديث القدسي:"إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى". فالفقر قد يكون خيرًا للإنسان، وقد سبق ذكر خلاف العلماء في الفقير الصابر، والغني الشاكر، أيهما أفضل؟ على قولين لأهل العلم، والصحيح: أن كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه.
ساق المؤلف هذا الحديث في باب صدقة التطوع كأنه يميل إلى أن المراد به: صدقة التطوع، والصواب أنه عام، أستدل بهذا الحديث من لا يرى أن الزكاة واجبة في الحلي، واستدل به
من يرى أن الزكاة واجبة في الحلي؟ فما وجه استدلال من قال: إنه يدل على عدم وجوب الزكاة في الحلي؟ من قولها: "وكان عندي حلي فأردت أن أتصدَّق به" يعني: صدقة التطوع، فهل في هذا دليل؟ أبدًا، ليس فيه دليل؛ لأنه لو كان عندك دراهم وأردت أن تتصدق بها هل يدل ذلك على عدم وجوب الزكاة في الدراهم؟ لا يدل على ذلك أبدًا، إذ ليس فيه دليل على أن الزكاة ليست واجبة؛ لأنها قد تتصدِّق تطوعًا بشيء تجب فيه الزكاة، والذين قالوا: إن فيه دليلًا على أن الزكاة واجبة في الحلي، قالوا: إن قولها: "إنك أمرت بالصدقة" أي: بإخراج الصدقة، وهي الزكاة، وأن قولها:"أردت أن أتصدَّق بها" هذا دليل على أن حليها تجب فيه الزكاة، ولكن مع ذلك ليس بصريح، فالذي يظهر لي أن هذا الحديث ليس فيه دليل لا لهؤلاء ولا لهؤلاء إنما فيه دليل على أن امرأة ابن مسعود أرادت أن تتصدَّق به.
ومن فوائد الحديث: خرص الصحابة على امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى فيما تتعلق به حوائجهم، كيف ذلك؟ أرادت أن تتصدق بحليها مع أن الحلي عند النساء من أغلى ما يكون؛ لأنه مما يجلب ميل زوجها إليها وهي محتاجة إلى التجمل به أمام النساء، ومع ذلك- رضي الله عنها أرادت أن تتصق به.
وهل يؤخذ منه جواز استعمال النساء للحلي؟ نعم؛ لأن قولها: "كان عندي حلي لي"، فهذا دليل على أنها تملك، ولكن هل هذا الحلي من ذهب أو من فضة؟ هذا الحديث لم يتبين فه شيء، ولكن المعروف أن الذهب حلال للنساء مطلقًا سواء كان مرصَّعًا أو محلَّقا من الأسورة والخواتم وغيرها، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذهب المحلق كالذهب والخواتم حرام النساء واستدلوا بأحاديث، من العلماء من قال: إنها منسوخة، ومنهم من قال: إنها مخصوصة بحالٍ دون حال، فإذا كان الناس في إعواز وفي حاجة فلا ينبغي للمرأة أن تهتم بالحلي، وإذا كان الناس في سعة فلا بأس، ومنهم من قال: إنها أحاديث ضعيفة لشذوذها وأنها شاذة؛ لأنها تخالف الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على جواز التَّختُّم بالذهب والأسورة من الذهب، وهذا القول هو أقربها عندي، وكنت أظن أن الشذوذ إنما يكون في الحديث الواحد يختلف فيه الرواة، ويكون بعضهم أرجح من بعض، فنقول: إن المرجوح شاذ، ولكن تبيَّن لي من صنيع أهل الحديث أن الشاذ ما خالف الأحاديث الصحيحة ولو كان غير وارد على ما ورد عليه المحفوظ يعني: لو كان هناك حديثان كل واحد منهما مستقل، ومن أمثلة ذلك أن الإمام أحمد رحمة الله قال في حديث أبي هريرة في النهي عن الصيام بعد نصف شعبان: إنه شاذ، ثم استدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين" فإن هذا الحديث الأخير متفق عليه، والأول رواه أهل السُّنن، فاستدلوا- رجمهم الله- على شذوذه بمخالفته