الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم من حج عن غيره قبل الحج عن نفسه:
685 -
وعنه رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبَّيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخٌ لي - أو قريبٌ لي - فقال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حجَّ عن نفسك، ثمَّ حجَّ عن شبرمة"(). رواه أبو داود، وابن ماجه، وصحَّحه ابن حبَّان، والرَّاجح عند أحمد وقفه.
قوله: "أخ لي أو قريب لي" الشك من الراوي، فقال:"أحججت عن نفسك؟ " جملة خبرية متضمنة للاستفهام، أي: أحججت عن نفسك؟ والشاهد لمثل هذا التعبير كثير في القرآن وكلام العرب، أي: أنهم يحذفون أداة الاستفهام لعلمها من المقال.
قال: "لا"، قال:"حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، قال أحمد: إن رفعه خطأ، وهذا إحدى الروايتين عنه، لكنه صح في رواية أخرى أنه مرفوع، ولعله اطلع أخيرًا على رفعه، فصحح رفعه وقد مر علينا أنه إذا اختلف الحفاظ في رفع الحديث أو وقفه فإن الحكم للرافع لسببين: الأول: أن مع الرافع زيادة علم لأن الرفع وقف وزيادة، السبب الثاني: أنه قد يتكلم الراوي الرافع بالحديث كدرس مثلًا، أو كبيان حكم، فيسمع منه على أنه من قوله، كما لو قلت أنا مثلًا:"وإنما لكل امرى ما نوى" هذا الحديث مرفوع لا شك، لكن أنا إذا سقته على هذا النحو، فالذي يسمعني يظن أنه من قولي؛ فلهذا نقول: إذا تعارض الحفَّاظ في وقف الحديث ورفعه قدِّم الرّافع لهذين الوجهين: أحدهما: أن مع الرافع زيادة علم والثاني: أن الرّافع له قد يحدِّث به غير منسوب حكمًا بما دل عليه فيسمعه من يسمعه فيظنه موقوفًا.
المهم: نرجع إلى الحديث قال: "سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة"، "لبيك" بمعنى: إجابة لك، لكنه مثنى ومعناه: الكثرة؛ ولهذا قال العلماء في تفسيره: إجابة بعد إجابة، وإنما يقول الحاج:"لبيك" أي: إجابة؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: {وأذن في الناس بالحج} [الأنبياء: 27]. يعنى: أعلمهم به وادعهم إليه يأتوك رجالًا، فإنك تلبى هذه الدعوة بأنك أجبتها، وهنا قال:"لبيك عن شبرمة"، فقيَّد هذه التلبية بأنها عن شبرمة كأنه نائب عنه فالنبي صلى الله عليه وسلم استفهم هل حجّ عن نفسه؟ وهذا الاستفهام هل يمكن وروده أو لا يمكن؟ أن قلنا: أن الحج إنما فرض في
السنة العاشرة ففي وروده شيء من الإشكال؛ لماذا؟ لأن هذا القائل إنما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وإنا قلنا: أن الحج إنما فرض في العاشرة فإنه لا يمكن أن يحج هذا الرجل عن نفسه؛ لماذا؟ لأنه لم يوجد من قبل، ولكن سبق لنا أن القول الراجح أنه مفروض في السنة التاسعة، وبناء على ذلك فإنه يمكن أن يكون هذا الرجل قد حجّ عن نفسه، وهذا مما يرجح القول بأنه فرض في السنة التاسعة، وإلا لم يكن لاستفهام النبي صلى الله عليه وسلم محل ().
وقوله: "من شبرمة؟ " يعني: من شبرمة الذي لبيت عنه؟ هذا الاستفهام يريد به النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف هل هذا الرجل قريب من الملبي أو بعيد، أو يريد أن يعرف هل هو مسلم أو كافر؟ الجواب: قال: "أخ لي أو قريب لي"، فالظاهر الأول؛ لأن هذا الصحابي فهم ذلك، والصحابي أقرب إلى فهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم من غيره، وقوله:"أو قريب لي" هذا شك، لكنه لا يؤثر؛ لأن الأخ من القرابة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحججت عن نفسك؟ " يعني: أديت الفريضة عن نفسك؛ لأن كلمة "عن" تدل على أن الشيء مفروض على الإنسان فيريد أن يؤدي عن نفسه، قال:"لا" يعني: لم أحج، ولكنه بدأ بأخيه لعله كان ميتًا فقدَّمه على نفسه، وقال - كما يقول بعض العامة -: أنا حي والدهر أمامي طويل، ولكن هذا ميت ومفتقر إلى الحج فأحج عنه؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له:"حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة". وفي رواية: "هذه عنك ثم حج عن شبرمة". ورواية: "هذه عنك" أصرح بأن النسك الذي كان هذا الرجل يقول فيه: لبيك عن شبرمة، انقلب عن نفس الملبي قال:"حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة".
* ففي هذا الحديث فوائد:
الأولى: الجهر بالتلبية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع هذا الرجل يلبي ولا يسمع إلا ما كان جهرًا، وهو كذلك فإن الجهر بالتلبية سنة () - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - لما فيه من إظهار الشعائر.
ومن فوائد الحديث: أن الرجل إذا حج عن غيره فإنه يصرح بذكره فيقول: "لبيك عن فلان"؛ لأن التلبية عند الإطلاق تنصرف إلى نفس الملبى حتى تقيَّد، فيقال:"لبيك عن فلان"، فإذا استنابك رجل أن تؤدي عنه الحج فإنك تقول: لبيك حجًّا عن فلان، وإذا استنابك في العمرة تقول لبيك عمرة عن فلان، وهل تسميه وإن كان امرأة؟ لو كانت امرأة: لبيك عن رقية، عن عائشة؟ نعم، ربما يكون هذا ظاهر الحديث، ولا مانع من أن المرأة يعرف اسمها، ولكن لو
قلت: لبيك عمن أنابتني هل يجوز؟ نعم، والله سبحانه يعلمها، فإذا كنت تستحيي أو تحجل من أن تقول: لبيك عن رقية أو ما أشبه ذلك فلا حرج أن تقول: لبيك عمن أنابتني في الحج، فإن نسيت من وكلك أو نسيت من استنابك فماذا تقول؟ تقول: عمن أنابني، والله تعالى يعلم ذلك.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لطالب العلم أن يسأل في المواضع التي يكون فيها السؤال متجها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل هذا الرجل "من شبرمة؟ "، فإذا رأيت شخصًا يفعل أمرًا تدعو الحاجة إلى السؤال عنه، فإن الأفضل أن تسأل، لا يقال: أن هذا من باب سؤال الإنسان عما لا يعنيه، لأن العالم يعنيه أحوال العباد حتى يعلمهم مما علمه الله عز وجل.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يحج الإنسان عن غيره مع قدرته عن الحج عن نفسه إذا لم يحج عن نفسه، الدليل "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، فإن كان لا يلزمه الحج كرجل فقير أعطاه شخص مالًا يحج به عنه فهل يجوز أن يحج؟ الجواب: نعم، لأن هذا الرجل لا يجب عليه الحج، والله عز وجل يقول:{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]. وهذا الرجل الآن لا يستطيع إليه سبيلًا؛ لأنه ليس عنده مال فيجوز أن يحج عن غيره.
ومن فوائد الحديث: أن الحج يمتاز عن غيره بجواز تغيير النية وجواز الإبهام فيه، فهذا الرجل كان أول ما حج عن شبرمة، ثم نواه عن نفسه في أثناء العبادة، ومثل هذا لا يمكن أن يكون في العبادات الأخرى لكن هذا خاص بالحج، كذلك نجد الرجل يحرم بالحج ثم يقلبه إلى العمرة ليصير متمتعًا، يحرم بالعمرة أولًا ثم يضيق عليه الوقت فيدخل الحج عليها فيصير قارنا لا بأس، كما أن الحج يخالف غيره في النية بأنه لو نوى الخروج منه لم يخرج منه واحد، الآن محرم بالحج لما رأى التعب قال: أشهدكم يا جماعة أني فسخت الحج، فهل ينفسخ حجه؟ لا، بينما العبادات الأخرى تتفسخ، إذا فعل محرمًا في العبادات الأخرى يبطلها كما لو أكل أو شرب أو تكلم في الصلاة، لكن في الحج المحظورات فيه لا تبطله، الجماع قبل التحلل يفسده ولا يبطله؛ ولهذا يجب المضي فيه وقضاؤه من السنة الأخرى بخلاف غيره من العبادات، فالمهم: أن الحج له أحوال يخالف غيره يقتصر فيها على ما ورد.
ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث سأله قبل أن ينكر عليه، ثم دله على الهدى حين عرف أنه أخطأ.
هل يستفاد من الحديث: أن من أحرم بنسك عن شخص ثم تبين أنه يجب أن يقدم نفسه فإنه يلزمه أن يحج عن هذا الشخص الذي أحرم بنسكه، لأنه التزمه له بإحرامه، أو تقول: أن قوله: ثم حج عن شبرمة، من باب الإباحة؛ لأنه إنما ذكر له الممنوع ثم ذكر له الجائز؟ فيه احتمال، يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب عليه أن يحج عن شبرمة؛ لأنه تلبس بالنسك عنه فوجب
عليه أن يقضيه عنه، إذ إنه لما تلبس بالنسك كان كأنه نذره فلزمه أن يوفي به، ويحتمل أن قوله:"حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" من باب الإباحة والإذن، فهو لما منعه أولًا أن يحج عن شبرمة أذن له أن يحج عنه بعد أن يحج عن نفسه، وعندي أن هذا هو الأقرب ونجيب عن الأول بأن الإنسان إذا تلبس به ظنًّا منه أنه جائزة فإذا تبين أنه ليس بجائز فهو تلبس غير مشروع فلا يلزم الوفاء به.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز الحج عن الغير بلا إذنه - إذن الغير -، وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقال: هل استأذنته، فإذا حج إنسان عن غيره بنية أنه للغير فلا بأس، لو رفض الغير بعد أن رجع هذا الرجل قال: أنا حججت عنك ادع الله لي، قال: أنا أرفض، عندنا أمران هل يشترط إذن الغير بالحج عنه نقول ظاهر الحديث لا هل يشترط قبول؟ على كلامكم يشترط وأنه لو رفض لم يكن له أجره وكان الأجر للفاعل إلا تكل هذا الأمر إلى الله عز وجل ونقول إذا رفض، فالله أعلم ما يترتب على هذا حكم في الدنيا، اللهم إلا إذا كان المحجوج عنه مريضا لا يرجى برؤه فانه يحج عنه غيره بلا شك.
ولكن لو رفض المحجوج عنه فهل نقول: أن رفضه غير معتبر وأن الفريضة سقطت عنه هذا هو محل الإشكال؟ اختلف في هذا العلماء أي: في مسألة الفريضة؛ فمنهم من يقول: إنه لا يصح أن يحج الإنسان عن غيره فريضة إلا بإذنه؛ لأن المطالب بها الغير، ومنهم من قال: بل يصح بلا إذنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل للمرأة التي سألته أن أباها لا يثبت على الرَّاحلة: هل استأذنت منه؟ وأنه إذا حج عن غيره ثم بلغه بذلك ورفض فإننا نقول له: رفضت أم لم ترفض الحج لك والفريضة سقطت عنك، وهذا هو الأقرب من الأحاديث.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان ينبغي له أن يبدأ بنفسه؛ لقوله: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة".
مسألة الإيثار في القرب وإهداء القرب للأموات:
وتأتي هنا مسألة الإيثار بالقرب هل هو جائز أو مكروه أو محرم ()؟ سبق لنا الكلام عليه وبينا أنه ينقسم - الإيثار - إلى أقسام: القسم الأول: ما يحرم فيه الإيثار، وهو الإيثار بالواجب، والثاني: ما يكره فيه الإيثار إلا لمصلحة تربو على الكراهة، والثالث: ما يباح فيه الإيثار، وهو ما سوى العبادات من الأمور العادية.