الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهل السعادة، وأهل الشقاوة فييسَّرون لعمل أهل الشقاوة، قرأ:{فأمَّا من أعطى واتَّقى (5) وصدَّق بالحسنى (6) فسنيسِّره لليسرى (7)} [الليل: 5 - 7] ".
فالمهم: أن ذكر الحكم بالدليل يعني: أن يكون الجواب بالدليل أو بذكر الحكم، ثم يقرن به الدليل هذا يرجع إلى اختلاف السائل أو المخاطب.
قال: والنسائي وزاد "إلا كلب صيدٍ"، لكنه زادها واستنكرها رحمه الله وقال: إنها منكرة، فالاستثناء ليس بصحيح كما هو القول الراجح في هذه المسألة، وقد سبق لنا أيضًا الكلام عليه، وبيَّنا أنه لو قيل: إن النهي عن ثمن الكلب إنما هو عن ثمن الكلب الذي يباح اقتناؤه؛ لأن ما لا يباح اقتناؤه لا يرد عليه البيع، إذ إن الإنسان لا يمكن أن يخسر مرتين الأجر والثمن.
بطلان مخالفة الشرع:
757 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءتني بريرة، فقالت: إنِّي كاتبت أهلي على تسع أواقٍ، في كلِّ عامٍ أوقيَّةٌ، فأعينيني. فقلت: إن أحبَّ أهلك أن أعدَّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها. فقالت لهم؛ فأبوا عليها، فجاءت من عندهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ. فقالت إنِّي قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلَّا أن يكون الولاء لهم، فسمع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم. فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنَّما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة، ثمَّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في النَّاس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه. ثمَّ قال: أمَّا بعد، فما بال رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله عز وجل، ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ وإن كان مائة شرطٍ، قضاء الله أحقُّ، وشرط الله أوثق، وإنَّما الولاء لمن أعتق". متَّفقٌ عليه، واللَّفظ للبخاريِّ.
- وعند مسلمٍ فقال: "اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء".
بريرة هذه كانت أمة لقوم من الأنصار وصار فيها ثلاث سنن كما قالت عائشة في حديث آخر، منها هذه المسألة الآتية في الحديث.
ومنها: أنها خيرت على زوجها حين عتقت.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم إلى البيت فطلب طعامًا فأتي إليه بطعام فقال: ألم أر البرمة على النَّار؟ قالوا: ذاك لحم تصدق به على بريرة، قال:"هو عليها صدقة ولنا هدية"، فهذه ثلاث سنن جاءت في هذه الأمة.
تقول: "كاتبت أهلي"، المراد بأهلها هنا: أسيادها، يعني: الذي يملكونها، وسمي الأسياد أهلًا وإن لم يكونوا من القرابة؛ لأن الإنسان يأهلهم ويأوي إليهم، وكل أحد تأوي إليه وتأهله فهم أهلك؛ لأنهم مأوى إليك، ولهذا سمي أتباع الإنسان أهلًا، أو لأنه يئول إليهم وينتصر بهم، وقولها:"كاتبت"، المكاتبة: شراء العبد نفسه من سيده، كيف ذلك؟ يقول العبد للسيد: أنا أحب أن أعتق، وأنت لن تعتقني بدون عوض، ولكن بعني على نفسي، فيقول: بعنك على نفسك، بكم؟ فيقول مثلًا: بعشرة آلاف ريال كل سنة يحل ألفا ريال تكون المدة خمس سنوات، فوافق على ذلك تسمى هذه مكاتبة، وهل هو عقد لازم أو جائز، بمعنى: هل يملك السيد فسخه، أو العبد فسخه، أو هو عقد لازم لا يملك كل واحد منهما فسخه؟ أما من جهة السيد فهو لازم لا يمكن فسخه، وأما من جهة العبد فهو جائز؛ لأن بإمكانه أن يعجز نفسه ويقول: ما حصلت شيئًا فإذا عجز نفسه فحينئذ يعود إلى الرق، وهل إذا طلب العبد من السيد المكاتبة هل يلزم السيد إجابته؟
نقول: أولًا: فيه تفصيل، وثانيًا: فيه خلاف، فيه تفصيل إن علم فيه خيرًا أجابه وكاتبه، وإن لم يعلم فيه خيرًا فلا يكاتبه، ما هو الخير الذي يعلمه فيه؟ قال العلماء: الخير الذي يعلمه الصلاة في الدين والكسب في المال، يعني: إذا علم أن هذا العبد صالحًا وأنه يستطيع أن يكتسب فليكاتبه، وإن لم يعلم فلا يكاتبه وذلك إن خاف أنه إنما طلب المكاتبة من أجل أن يتحرر، فيفسق أو يرجع إلى بلاد الكفر، فهنا لا يكاتبه؛ لأن هذا ضرر، أو علم أنه إذا كاتبه صار عالة على نفسه وعلى غيره ليس لديه مال فهذا لا يكاتبه؛ لأن هذا ضرر على العبد، وضرر على غيره من الناس، فإن علم فيه خيرًا أمر بالمكاتبة، قال الله تعالى:{والَّذين يبتغون الكتاب ممَّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [النور: 33].
ولكن هل الأمر هنا للوجوب أو للاستحباب؟ ذهب جمهور العلماء على أنه للاستحباب، والصارف له عن الوجوب: أن هذا مال له، ولم يوجب الله عز وجل إخراج المال على المالك إلا بالزكاة أو النفقة الواجبة، وعلى هذا فيكون الأمر هنا للاستحباب وليس للوجوب، وقال أهل الظاهر وجماعة من العلماء: بل الأمر للوجوب؛ لأن في هذا مصلحة وهي إنقاذ هذا العبد من الرق، فهو كإنقاذ من خاف التلف، ثم إن الشارع يتشوف إلى العتق تشوفًا بالغًا، فعندنا أمران مع الأصل وهو أن الأصل في الأمر الوجوب، فلدينا أمران يفيدان أن الأمر للوجوب، وعلى هذا فيكون الأمر للوجوب بناء على الأصل ولأجل هذين الوجهين، وهذا القول هو الصحيح أنه إذا طلب المكاتبة وعلم فيه الخير وجب عليه أن يوافق؛ لأن ذلك خير له وخير للعبد.
المكاتبة لماذا سميت مكاتبة ولم تسمى عقدًا؟ أقول: لأنه جرت العادة أنه إذا وقع مثل هذا العقد حصلت المكاتبة بين السيد وبين العبد، فلذلك سميت مكاتبة، إذا قال قائل: إذا عللتم بذلك لزمكم أن تقولوا كل شيء يكتب نسميه مكاتبة. نقول: هذا لا يصح في تعيين العقود أو المعاني أو الأماكن أو ما أشبه ذلك، لا يصح، ولهذا سميت المزدلفة جمعًا ولم تسمى عرفة جمعًا مع أن الجمع في عرفة كالجمع في مزدلفة أو أكثر، فمثل هذه الأشياء التي يعلل بها الأسماء لا تتعدى العلة محلها، فلو أنني عقدت معك مداينة نسمى هذا مكاتبة؟ لا، بل نسميه دينًا مكتوبًا.
تقول: "كاتبت أهلي على تسع أواقٍ"، وهي جمع أوقية، والأوقية أربعون درهمًا، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، فالأربعون درهمًا تكون ثمانية وعشرين مثقالًا، إذن الأوقية ثمانية وعشرون مثقالًا، وهي تقول:"تسع أواقٍ"، نضربها في ثمانية وعشرين تساوي مائتي واثنين وخمسين مثقالًا من الفضة هذا ثمن بريرة التي كاتبها أهلها.
تقول: "في كل عام أوقية"، تكون الأعوام على هذا تسعة أعوام فتعتق، فجاءت تطلب العون من عائشة
…
إلخ، "فقلت: إن أحب أهلك أن أعدَّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت"، "إن أحب" هذه شرطية، وجواب الشرط "فعلت"، وقولها رضي الله عنها: "أن أعدها" يعني: أعطيهم إياها معدودة، وقد مر علينا كم هذه؟ تسعة أواقٍ، كل أوقية أربعون درهمًا، أربعون في تسعة يكون ثلاثمائة وستين درهمًا.
"إن أحب أهلك أن أعدها لهم" أي: أن أعد لهم التسع أواقٍ وهي بالدراهم الإسلامية ثلاثمائة وستون درهمًا؛ لأن الأوقية أربعون درهمًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة"، وفي حديث أبي بكر: في الرقة في مائتي درهمًا ربع العشر، ففهمنا من هذا أن الأوقية أربعون درهمًا، وقولها:"ويكون ولاؤك لي"، ما هو الولاء؟ الولاء في اللغة: من الولاية، وفي الشرع: يطلق على عدة معانٍ منها: ولاء العتق وهو أن الإنسان إذا أعتق عبدًا صار له عاصبًا كعصوبة النسب تمامًا، إلا أنها دونها في المرتبة، ولهذا لا يستحق أحد عاصب بالولاء شيئًا من حقوق التعصيب ما دام يوجد عاصب بالنسب، فلو هلك هالك عن بنت ومولى لكان للبنت النصف والباقي للمولى، ولو هلك عن بنت وعم كان للبنت النصف وللعم الباقي، إذن فولاء العتق له لحمة في الإنسان كلحمة النسب، إلا أنه كما قلنا: لا يمكن أن يستحق شيئًا من حقوق التعصيب، ما دام أحد من العصبة في النسب موجودا.
تقول: "فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم ذلك"، وأظن مر علينا ماالمراد بالأهل وهم الأسياد، "فأبوا عليها"، يعني: امتنعوا أن يكون الولاء لعائشة، بل يريدون أن يكون الولاء لهم هم، قالت:"فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرة عائشة"؛ لأن عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون في مهنة أهله في البيت أو في المسجد أو في شئون المسلمين تقول: "فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء"، فيكون لهم حق العصوبة بعد عصوبة النسب في هذه المرأة.
فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خذيها واشترطي لهم الولاء"، "خذيها" يعني: اشتريها واشترطي لهم الولاء كما طلبوا، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تأخذها، وأن تشترط لهم الولاء، وهذا الأمر ليس أمر إيجاب ولا استحباب، ولكنه أمر إباحة؛ لأنه صار في جواب السؤال، وقد مر علينا أن الأمر إذا كان في جواب السؤال، فهو للإباحة، وكذلك إذا وقع بعد الخطر فهو للإباحة أو لرفع الخطر على خلاف في ذلك، وقد سبق في أصول الفقه.
قال: "خذيها واشترطي لهما الولاء"، يعني: كما أرادوا، وإنما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لأمر سيتبين فيما بعد.
اختلف العلماء في اللام هنا، هل هي للتمليك والاستحقاق، أو أنها بمعنى "على"؟ فقال بعض العلماء: إنها بمعنى "على"، أي: اشترطي عليهم الولاء، قالوا ذلك واستشهدوا بقوله تعالى:{وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]. أي: فعليها، كما قال الله سبحانه وتعالى:{مَّن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها} [فصّلت: 46]. فتكون اللام هنا بمعنى "على"، واضطروا إلى ذلك لئلا يلزم من جعل اللام على بابها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لها بشرط فاسد؛ لأن اشتراط الولاء لهم مخالف للشرع، قالوا: والرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأذن بشيء مخالف للشرع، فاضطررنا أن نجعل اللام بمعنى "على"، وأتينا بشاهد من القرآن هذا هو القول ظاهره الصحة لكن عند التأمل يتبين أنه ليس بصواب؛ لأنها قد اشترطت عليهم الولاء ولكن أبوا، فما الفائدة من أن تعيد الشرط مرة أخرى؟ وكيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"اشترطي عليهم الولاء" وهو يعلم أنهم قد أبوا ذلك؛ لأن هذا ليس فيه إلا مجرد التكرار بلا فائدة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأمر بشيء بغير فائدة، ولا يمكن أن يأمر بشيء يعلم أنه مردود من قبل؟ إذن يتعين أن نجعل اللام على أصلها وهي التمليك والاستحقاق، يعني: خذيها واشترطي لهم الولاء كما أرادوا.
ونجيب عن قولهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأذن بشيء مخالف للشرع فنجيب عن ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن بذلك لينفذ. ولو أذن ونفذ لكان محل إشكال، لكنه أذن بذلك ليبطله
بعد شرطه، وإبطال الشيء بعد شرطه أشد وقعًا وأبين في الإرشاد؛ لأنه لو قيل: هذا باطل ليس وقعه في النفس كما إذا اشترط ثم أبطل؛ لأنه قد يقول قائل: هذا محرّم ولكن إذا اشترط نفذ، نقول: لا، هو محرم اشتراط الولاء لغير المعتق وإذا اشترط فهو باطل لا ينفذ، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم أراد من ذلك أن يشترط الولاء لهم كما أرادوا ثم بعد اشتراطهم إياه يبطله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظير هذا من بعض الوجوه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسيء في صلاته عدة مرات صلاة محرمة؛ لأنه كان لا يطمئن فيها يقول: "اذهب فصلِّ فإنك لم تصلِّ" فيذهب كالأول، لماذا؟ من أجل أن يكون توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم له بعد أن أخذه العناء من صلاة ليست بمجزئة يكون توجيه الرسول إياه وإرشاده له وقع في النفس فتستقر، وليعلم أن العبادة الفاسدة مهما فعلت فإنه لا تبرأ بها الذمة، وهذا من الحكمة في التعليل.
إذن فنقول: يتعين أن نجعل اللام على أصلها؛ لأن صرفها عن الأصل يحتاج إلى دليل، ولأن جعلها بمعنى "على" لا يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يعلم ويدري أن هذا أمر غير ممكن؛ لأن الجماعة قد ردُّوا هذا من الأصل، ويبقى مشكلة وهي لماذا يغروا هؤلاء فيشترط لهم الولاء ثم يلغى، وسيأتي الجواب عليه.
إذن نقول: اللام يجب أن تكون على بابها، يكون لهم الولاء كما طلبوا وكما أرادوا، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم مقررًا الحكم الشرعي:"فإنما الولاء لمن أعتق"، الفاء هنا عاطفة، و"إنما" أداة حصر، و"الولاء" مبتدأ، و"لمن أعتق" خبره، ويكون معنى الجملة: الولاء لمن أعتق لا لغيره وإن شرط، ففعلت عائشة رضي الله عنها.
"ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ" ماذا فعلت عائشة؟ أخذتها واشترطت لهم الولاء وتم الأمر على أن عائشة اشترت بريرة المكاتبة على أن يكون ولاؤها لأهلها، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، أي: قام في الناس خطيبًا، وهذه الخطبة من الخطب العوارض، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب أصحابه خطبًا عارضة وخطبًا راتبة دائمة، فخطبة الجمعة مثلا من الخطب الراتبة والعيد والاستسقاء كل هذه من الرواتب.
العارضة دائمًا يخطب بها عليه الصلاة والسلام في المناسبات، خطبة الكسوف عارضة وقيل: راتبة. واختلف العلماء هل خطبة الكسوف مسنونة مطلقًا أو أنها عارضة للتذكير، يقال: الكسوف ما وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة ولا ندري لو عاد الكسوف هل يخطب الرسول أو لا، والأصل أن ما فعله فهو سنة، وعلى هذا فنقول: صلاة الكسوف يستحب فيها الخطبة، لا سيما في مثل زمننا هذا الذي غفل الناس عن المراد بالكسوف غفلوا عما يراد به
شرعًا وهو تخويف الناس، فالخطبة في هذا الزمن حتى وإن قلنا إنها ليست من السنن الراتبة بل هي من السنن الطارئة ينبغي ألَّا تفوّت في صلاة الكسوف.
ثم قالت: "فحمد الله وأثنى عليه"، حمد الله: الحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم وصف المحمود بالكمال ولو مرة واحدة مع المحبة والتعظيم، فقولنا: مع المحبة والتعظيم ليخرج المدح، فإن المدح وصف للممدوح بالكمال، لكن قد يخلو من المحبة والتعظيم، قد يمدح الإنسان أحدًا وهو من أكره الناس إليه ويبغضه لكن يمدحه خوفًا من شره أو رجاء لعطائه.
أما الحمد فإنه وصف المحمود بالكمال مع المحبة، يجد الإنسان قلبه ممتلئًا محبة لهذا الموصوف بالكمال وبالتعظيم أيضا وحمد الله سبحانه وتعالى إذا قلت: أحمد الله، فحمد الله سبحانه يكون على الكمال الذاتي وعلى الإحسان إلى الخلق، ولهذا إذا أكل الإنسان وشرب يقول: الحمد لله على هذا الإحسان وهذه النعمة، فالله يحمد على كماله الذاتي وعلى إحسانه الواصل إلى خلقه، وقوله:"أثنى عليه"، يعني: كرر أوصاف الكمال لله عز وجل، ويدل على أن الثناء غير الحمد، حديث أبي هريرة الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى:"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: الحمد لله رب العالمين. قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم. قال: أثنى علي عبدي".
ثم قال -يعني: بعد الحمد والثناء-: "أما بعد"، فما بال هذا التركيب؟ قالوا: إنه نائب عن أداة شرط وفعل شرط تقديره: مهما يكن من شيء بعد؛ أي: بعدما قلت فهو ما سأقوله: "ما بال قوم
…
" إلخ، وقيل: إنه لا حاجة إلى هذا التركيب، بل "أما" هذه شرطية هي بنفسها يدل على الشرط والتفصيل، و"بعد" طرف متعلق بمحذوف مناسب للمقام، والفاء رابطة لجواب التفصيل مثل:{فأمَّا من أعطى واتَّقى (5) وصدَّق بالحسنى (6) فسنيسّره} [الليل: 5 - 6].
على كل حال: كلمة "أما بعد" قال بعضهم: إنها كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، ولكن هذا غير صحيح، والذي يتتبع كلام العرب يجد أنها كلمة تقال بين يدي الموضوع، أي: موضوع الكلام، فيؤتى أولًا بالمقدمة، ثم يقال عند الدخول في الموضوع:"أما بعد" وزعم بعض العلماء أنها هي فصل الخطاب الذي أوتيه داود: {وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)} [ص: 20]. والصواب: أنها ليست إيَّاها، وأن فصل الخطاب هو الفصل بين الناس في الخصومات التي تكون بينهم.
ثم قال: "فما بال رجال"، "بال" بمعنى: شأن، يعني: ما شأنهم، والاستفهام هنا للاستنكار، و"رجال" ليست مذكورة للقيد؛ لأن النساء كالرجال، لكن إذا عبر بالرجال دخل النساء، وإذا عبر بالنساء دخل الرجال إلا بدليل، "فما بال رجال"، وهنا نكرهم لئلا تعرف أعيانهم؛ لأنه ليس الشأن بمعرفة الأعيان وإنما الشأن بمعرفة الأحوال والقضايا التي تقع.
"يشترطون شروطًا"، الشرط مر علينا كثيرًا بأنه في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى:{فهل ينظرون إلَّا السَّاعة أن تأتيهم بغتةً فقد جاء أشراطها} [محمد: 18]. وفي الاصطلاح: ما يتوقف عليه الصحة أو اللزوم، فإن كان شرطًا لله توقِّفت عليه الصحة، وإن كان شرطًا للإنسان توقِّف عليه اللزوم، ولهذا نقول: هناك شروط للشيء وشروط في الشيء؛ الشروط للشيء من وضع الله عز وجل، وهي ثابتة سواء شرطت أم لم تشترط، ولا يمكن لأي إنسان أن يتنازل عنها أو يسقطها، هذه الشروط للشيء الذي تتوقف عليه الصحة أو التي تتوقف عليها الصحة كشروط البيع وشروط الصلاة وشروط الحج.
أما الشروط في الشيء فهي من وضع البشر الإنسان هو الذي يضعها.
ثانيًا: لا تثبت إلا باشتراط وإذا سكت عنها لم تثبت.
ثالثًا: لمن هي له أن يتناول عنها ويسقطها.
رابعًا: أن العقد يصح بدونها حتى وإن لم يوف بها فالعقد صحيح.
خامسًا: أنها تنقسم إلى صحيح وفاسد؛ لأنه من صنع البشر، فهذه الخمسة فروق بينها وبين شروط الشيء هذا الأخير متفرع عن قولنا: إن شروط الشيء شرط للصحة، والشروط في الشيء شرط للزوم، يعني: يجوز ترك الشروط في الشيء لكن ما يلزم الشيء إلا بها.
هذه الشروط التي ذكرنا أنها الشروط في الشيء الذي وقع من عائشة هل هو شرط في الشيء أو شرط للشيء؟ الأول، ولهذا أبطلها الرسول صلى الله عليه وسلم، قال:"شروطًا ليست في كتاب الله"، هذه الجملة فيها شيء من الإشكال إلا على وجه التأويل؛ لأن قوله:"ليست في كتاب الله" ظاهرها: أنه لا بد أن يكون الشرط قد ذكر في كتاب الله.
ومن المعلوم أن الشروط في الشيء تكون مذكورة وغير مذكورة، مثلًا لو اشترط المشتري أن الولاء له إذا أعتق كان هذا الشرط موجودًا في كتاب الله، لو اشترط المشتري أنه ينتفع بالشيء فيكون موجودًا في كتاب الله، اشترط البائع الذي باع النخلة بعد أن أبرت أن الثمرة له شرط، مذكور في كتاب الله، الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"من ابتاع نخلًا""نخلًا" بعد أن تؤبد ثمرته للذي باعه هذه واضحة، لكن إذا وجد شرط سكت عنه الكتاب وهو من الشروط
الصحيحة كما في حديث جابر اشترط حملانه إلى المدينة مع أننا نقول في حديث جابر: أن المشترط هو الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء عن رسول الله فهو كالذي جاء عن الله، فيكون هذا داخلًا في الشروط التي في كتاب الله، لكن ثمت أشياء غير الشرط الذي حصل في حديث جابر لكنه لم يذكر في الكتاب ولا في السُّنة، فظاهر هذا الحديث الذي معنا أنه ممنوع؛ لأنه قال:"ليست في كتاب الله"، ولكن قال أهل العلم: المراد بذلك ليس في كتاب الله حلُّها؛ أي: ليست مما أحله الله في كتابه، واستدلوا لذلك بأن هذا هو المعنى، وهو -كما تعرفون- تأويل خلاف ظاهر اللفظ، استدلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا"، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج"، وهذا يدل على أن ما اشترطه الإنسان فهو ثابت إلا إذا خالف شرط الله عز وجل بأن أحل حرامًا أو حرم حلالًا، وقوله صلى الله عليه وسلم:"في كتاب الله"، أي: في مكتوبه، والمراد به: القرآن، وسمي كتابًا؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ:{بل هو قرءانٌ مَّجيدٌ (21) فى لوحٍ مَّحفوظ} [البروج: 21 - 22]. {إنَّه لقرءانٌ كريمٌ (77) فى كتابٍ مَّكنونٍ} [الواقعة: 77 - 78]. ولأنه مكتوب في الصحف بأيدي الملائكة: {فى صحفٍ مُّكرَّمةٍ (13) مَّرفوعةٍ مُّطهَّرة (14) بأيدي سفرةٍ (15) كرام بررةٍ (16)} [عبس: 13 - 16]. ولأنه مكتوب في الصُّحف التي بأيدي البشر فلهذا سمي كتابًا.
فإن قال قائل: السُّنة هل هي من كتاب الله؟
الجواب: هي في الحكم في كتاب الله، وأما من حيث المتكلم بها فهو الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن حكم ما جاء في السُّنة كحكم ما جاء في القرآن، كما قال الله تعالى:{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113]. قال: {وأنزلنا إليك الذِّكر لتبيِّن للنَّاس ما نزِّل إليهم} [النحل: 44]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه".
فإذن ما جاء في السُّنة فهو كتاب الله؛ لأن الله أخبرنا بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يبين لنا ما نزل إليه قال: {مَّن يطع الرَّسول فقد أطاع الله} [النِّساء: 80].
قال: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط"، "ما" شرطية، يعني: مهما كان من شرط، فـ"ما" هنا شرطية، وفعل الشرط "كان"، وجوابه "فهو باطل"، وجملة "ليس في كتاب الله" صفة لشرط، و"من شرط" اسم كان، لكن مجرور بـ"من" الزائدة، ممكن أن أقول: إن "ليس في كتاب الله" صفة لشرط، والصواب أنه خبر كان جعلناها ناقصة، فإن جعلناها تامة، يعني: ما وجد من شرط صح أن نعرب "ما ليس في كتاب الله" صفة، "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"، الباطل: هو الضائع سدى الذي لا يترتب عليه أثره ولا يعتبر،
فكل شرط ليس في كتاب الله فإنه باطل، ومعنى باطل، أي: لاغٍ غير معتبر لا يستفيد مشترطه إلا التعب باللسان أو بالأركان إن كتب الشرط، قال:"وإن كان مائة شرط" يعني: وإن كان هذا الشرط مائة شرط، هذه الجملة تحتمل أن المعنى ولو جمع مائة شرط، فكل الشروط ولو كثرت فإنها باطلة؛ يعني: شرط كذا وكذا، وكذا وكذا، إلى المائة، فإن هذه الشروط وإن اجتمعت فهي باطلة إذا خالفت كتاب الله، ويحتمل أن يكون المراد:"وإن كان مائة شرط"؛ يعني: وإن شرط مائة مرة، يعني: وإن أكد شرطه، وهذا المعنى هو الأقرب، وأن المراد: وإن شرط مائة مرة، فيكون الشرط هنا مصدرًا وليس اسمًا، على هذا يصير المعنى: وإن كان مائة اشتراط فإن توكيده لا يزيده توكيدًا ولا توثيقًا.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق"، "قضاء الله" أي: الذي يقضيه عز وجل أحق؛ لأنه حق، قال الله تعالى:{والله يقضى بالحقِّ} [غافر: 20]. والمراد بالقضاء هنا: القضاء الشرعي؛ لأن القضاء الشرعي هو الذي يمكن أن يعارض بمثله فيأتي ملحد ويقول: هذا القضاء أنا آتي بقانون ودستور أحق منه! أما القضاء الكوني لا يمكن معارضته أبدًا ولا يستطيع أحد أن يقول: إنه يدفع الموت عن نفسه أو المرض أو الآفات لكن الذي يمكن أن يعارض هو القضاء الشرعي، فإذا عورض فأيهما أحق؟ الجواب: قضاء الله، أما القضاء الكوني فلا يمكن أن يعارض، ولا يعارضه إلا مجنون أو مكابر.
ومن ثمَّ نقول: إن قضاء الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: قسم قضاء كوني، وقسم قضاء شرعي، فمن القضاء الكوني قوله تعالى:{وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدنَّ فى الأرض مرَّتين} [الإسراء: 4]. هذا قضاء كوني، ولا يمكن أن يكون قضاء شرعيًّا؛ لأن الله تعالى لا يقضي شرعًا بالإفساد، إنما يقضي بالصلاح والإصلاح، والقضاء الشرعي كقوله تعالى:{وقضى ربُّك ألَّا تعبدوا إلَّا إيَّاه} [الإسراء: 23]. فهذا قضاء شرعي؛ لأنه لو كان قضاء كونيًّا ما بقي أحد مشركًا، لو قضى الله قضاء كونيًّا على ألا نعبد إلا إياه ما بقي أحد على الشرك، فصار الناس كلهم يعبدون الله لكن هذا قضاء شرعي:{والله يقضى بالحقِّ} [غافر: 20]. يشمل الأمرين، فقضاء الله حق شرعي وكوني، ما الفرق بين القضاءين؟ الفرق من وجهين:
الوجه الأول: أن المقضي كونًا لا بد أن يقع بخلاف المقضي شرعًا.
ثانيًا: المقضي كونًا يتعلق بما يحبه الله وما لا يحبه، والمقضي شرعًا لا يكون إلا بما يحبه، إما أن يحب فعله ويأمر به، وإما أن يحب تركه وينهى عنه، قول الرسول:"إن قضاء الله أحق" نقول: هنا القضاء الشرعي؛ لأنه هو الذي يمكن فيه المفاضلة، أما القضاء الكوني فإنه لا يمكن أن يكون فيه مفاضلة؛ لأنه لا أحد يعارض قضاء الله الكوني، ولعل قائلًا يقول: لماذا لا
تجعله عامًّا؟ فنقول: إنه باعتبار القضاء الكوني مما ليس في الطرف الآخر منه شيء، وأحيانًا يكون التفضيل والجانب المفضل عليه ليس فيه شيء، قال الله تعالى:{أصحاب الجنَّة يومئذٍ خيرٌ مُّستقرًّا وأحسن مقيلًا} [الفرقان: 24]. ومن المعلوم أن مستقر أهل النار لا خير فيه، وأن مقيلهم ليس فيه شيء من حسن المقيل أبدًا، لكن جاء التفاضل من باب بيان أنه لا سواء بين هذا وهذا، "قضاء الله أحق" أي: قضاء الله أعدل وأسبق أو أحق بأن يتبع، فهو يشمل الأمرين، فهو أحق بمعنى: أوفق للحق وأثبت وأصح، وهو أحق أيضًا بأن يتبع من غيره. ثم قال:"وشرط الله أوثق"، الفرق بين القضاء والشرط: أن الشرط هو الأوصاف التي يجعلها الله تعالى مناطًا للحكم، والقضاء هو الحكم، فالحكم مثلًا وجوب الصلاة له شروط منها مثلًا: البلوغ، والعقل، والإسلام، والطهارة وما أشبه ذلك، فالفرق بين القضاء والشرط: أن القضاء هو الحكم، والشرط هو الوصف الذي يثبت به الحكم، الشروط التي شرطها الله وجعلها أوصافًا في أحكامه أوثق من غيرها يعني: أوقى وأثبت وأضمن كما قال الله تعالى: {فمن يكفر بالطَّاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256].
"وإنما الولاء لمن أعتق" هذه الجملة في الحقيقة ثمرة ما سبق، وهي إبطاله الشرط المنافي لكتاب الله، الثاني: وصفه بأن قضاء الله أحق وشرطه أوثق، فمن ثمرات ذلك: أن الولاء لمن أعتق، هذا من قضاء الله وشرطه، فيكون الولاء لمن أعتق، ولو أن أحدًا اشترط خلاف ذلك لكان شرطًا باطلًا؛ لأنه ليس في كتاب الله، وقوله:"لمن أعتق" يشمل ما إذا كان المعتق امرأة أو رجلًا، والعتيق امرأة أو رجلًا، وفي رواية مسلم قال:"اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء"، أتى المؤلف بهذا لقوله:"وأعتقيها"؛ حيث تفيد أن المكاتب إذا اشترى فإن من اشتراه يجوز أن يعتقه؛ لقوله: "وأعتقيها"، لا يقال: إن سبب العتق كونه قد انعقد عند البائع وهو المكاتب، لكن حقيقة العتق ما كانت إلا عند المشتري، ولهذا قال:"أعتقيها"، فهو قبل أن يؤدي كتابته -أعني: المكاتب- رقيق.
هذا الحديث -كما تشاهدون- فيه فوائد كثيرة، ومن حسن التأليف لو أن المؤلف رحمه الله أتى به عقيب حديث جابر حتى يضم الحديث الذي تضمن شرطًا فاسدًا إلى الحديث الذي تضمن شرطًا صحيحًا، فإن هذا من ناحية التأليف أحسن.
من فوائد هذا الحديث: جواز المكاتبة لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها، وهل الكتابة جائزة بمعنى: أنها مستوية الطرفين، أو سنة، أو واجبة؟ نقول: أما بالنسبة للعبد وطلبه إياها من سيده فهي جائزة، وأما بالنسبة للسيد فإنه مأمور أن يكاتب عبده إذا طلب بشرط أن يعلم فيه الخير لقوله تعالى:{فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [النور: 33]. ولكن هل الأمر هنا للوجوب أو للاستحباب؟ خلاف على قولين
لأهل العلم والأصل الوجوب حتى يقوم دليل على أنه للاستحباب، وذهب أهل الظاهر إلى أنه للوجوب وكثير من المعاصرين ذهبوا أيضًا إلى أنه للوجوب، ومعروف أن الشارع له تشوف عظيم إلى العتق، فإذا اقترن الأمر مع تشوف الشارع للعتق فإن ترجيح القول بالوجوب له وجه.
ومن فوائد الحديث: أن المكاتبة تجوز بالكثير والقليل؛ لأنه لم يرد تحديد لها شرعًا. اهـ
ومن فوائد الحديث: جواز استعانة المكاتبة بغيره لفعل بريرة مع عائشة وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، وهل الرسول علم بذلك؟ الظاهر أنه علم، وكل ما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حجة سواء علم به أو لم يعلم؛ لأنه إذا لم يعلم به الرسول فالله يعلم به.
ومن فوائد الحديث: جواز تعجيل الدَّين المؤجل لقول عائشة: "إن أحبوا أن أعدها لهم فعلت"، وإذا عجل الدَّين المؤجل بقدره فالظاهر أن المسألة محل إجماع أنه يجوز أن يعجل المدين الدَّين لكن بقدره عليه، عليه مائة ريال مؤجلة إلى سنة يعجلها الآن هذا لا بأس به، لكن إذا قال: أعجلها على أن تسقط من دينك فأعجل لك المائة على أن تكون تسعين فيه خلاف، فالمشهور من مذهب الحنابلة أنه لا يجوز، والصحيح أنه يجوز تعليلهم يقولون: لأن هذا ربا فإن التنقيص من أجل التعجيل كالزيادة من أجل التأجيل، فكما أنك لو زدت في الأجل وزدت في القدر كان ربًا، فإذا أنقصت في الأجل ونقصت في القدر كان ربًا، ولكن الصحيح خلاف ذلك فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ضعوا وتعجلوا"، وأيضًا الفرق بينهما ظاهر؛ لأن الزيادة في مقابل التأجيل ربا زادت على المدين، لكن الوضع في مقابل التعجيل هل زاد على المدين أم نقص؟ نقص فهو عكسه ففيه نقص على المدين، وهذه فائدة، وفيه تعجيل للدائن، وهذه أيضًا فيه فائدة، فالصواب: جواز تعجيل الدَّين بشرط إسقاط بعضه وليس فيه شيء بل هو فائدة للجميع.
ومن فوائد الحديث: أن التعامل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالوزن والعدّ، لقولها:"تسعة أواقٍ" وعائشة قالت: "أن أعدها لهم"، وهو كذلك، ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان الناس يتعاملون بالنقود بالعد وبالوزن، ألم تروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة" هنا اعتبر الوزن، وقال:"في الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم يكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربُّها" هنا في العدد وهو كذلك، فإذا علم أن عدد المائتين تساوي خمس أواقٍ فسواء قلت: اشتريتها بخمس أواقٍ أو اشتريتها بمائة درهم لا فرق.
ومن فوائد الحديث أيضًا: إطلاق الأهل على السيد لقولها: "إن أحب أهلك"، وأهل الرجل هم خاصته الذين يأهلهم ويجتمع إليهم، ولهذا أباح الشرع للمرأة المالكة ألا تحتجب عن عبدها إذا أمنت الفتنة، فيجوز للمالكة أن تكشف وجهها وكفيها وقدميها للمملوك مع أنه ليس بمحرم من أجل أنها أهله وأن في ذلك حاجة، وأن في التحرز من ذلك مشقة.
ومن فوائد الحديث: أن الولاء يثبت بالعتق، وسبق لنا معنى الولاء وأنه عصوبة تثبت للمعتق وعصبة المتعصبين بأنفسهم.
ومن فوائد الحديث: جواز تعليق العقود على المشاورة لقولها: "إن أحب أهلك أن أعدها لهم فعلت"، وعلى هذا فيجوز تعليق العقد، فأقول: بعتك إن رضي زيد أو إن رضي شريكي أو إن رضي أبوك أو إن رضي أبي، وهذا القول هو الصحيح، خلافًا للمشهور من المذهب حيث قالوا: إنه لا يجوز تعليق البيع، فالصواب أنه جائز ولا مانع منه، وهذا الذي ذكرته هو تعلق:"إن أ؛ ب أهلك أن أعدها لهم فعلت".
ومن فوائد الحديث: أنه ينعقد العقد بما دلّ عليه؛ لأنها قالت: "إن أحب أهلك أن أعدها لهم"، ولم تقل: أن أشتريك، بل قالت: أن أعدُّها، وهذا هو الصواب أن العقود تنعقد بما دلّ عليها البيع، الإجارة، العرية، الوقف، الرهن، كل شيء، وهل يشمل النكاح؟ الصحيح: أنه يشمله، ولو أن الرجل قال للشخص: زوجتك بنتي أو ملكتك بنتي، قال: قبلت انعقد النكاح، وليس بشرط أن يقول: أنكحتك أو زوجتك؛ لأن الشيء إذا جاء في الشرع مطلقًا يرجع فيه إلى العرف.
وكلُّ ما جاء ولم يحدَّد
…
بالشَّرع كالحرز فبالعرف احدد
ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ لأنه لم يعلم ما جرى، ففي بعض الروايات أنه سأل فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهو كذلك لا يعلم الغيب، ولهذا أدلة كثيرة، أولها ما جاء في القرآن الكريم صريحًا حيث أمره الله أن يقول:{قل لَّا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب} [الأنعام: 50]. وقال تعالى: {قل لَّا أملك لنفسى نفعًا ولا ضرًّا إلَّا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب} [الأعراف: 188]. فمن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد كذَّب الرسول صلى الله عليه وسلم وكذَّب الله، وبدأت بتكذيبهم للرسول؛ لأنهم يدَّعون أنهم إذا ادعوا أنه يعلم الغيب كان هذا من تعظيمه وتوقيره، فنقول لهم: ليس هذا من تعظيمه ولا توقيره أن تكذبوه فيما أعلنه على الملأ: {قل لَّا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب} [الأنعام: 50].
فإن قال قائل: أليس قد أخبرنا بأمور فوقعت كما أخبر؟
فالجواب بلى: بلى، ولكن هل هو من عنده؟ لا، بل هو من عند الله، لولا أن الله أخبره بذلك ما علم به، فيكون إخباره عن المغيبات في المستقبل ليس عن علم غيب من صفته هو، ولكن بما أعلمه الله عز وجل.
ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مع أهله وكان في مهنتهم لقولها: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس"، فإن المعروف من هديه أنه كان في مهنة أهله يحلب الشاة صلى الله عليه وسلم، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويعاشر أهله، وحياته معهم حياة بسيطة غير معقدة، وتجد الإنسان من أحسن ما يكون وأصلح ما يكون، وهكذا كلما كنت أحسن لأهلك فثق بأنك تدخل مسرورًا وتخرج مسرورًا، أما الإنسان إن أساء إلى أهله فسيدخل محزونًا ويخرج محزونًا، ويمشي في السوق محزونًا؛ لأنه إذا صادفه أحد وسلَّم عليه وهو مغموم من أهله يكاد لا يرى طريقه فلا يعطيه وجهًا طلقًا أبدًا، ولا يزال منكتمًا مما جرى منه مع أهله، فكلما كنت أحسن في أهلك فثق أنك أحسن في مجتمعك كله.
ومن فوئد الحديث: أنه يجوز للمرأة أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها؛ لأن عائشة تصرفت بدون أن تستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كذلك، هل لها أن تتصرف في مالها الذي اشتراه لها لتتزين له به؛ يعني: لو أعطاها حليًّا تتزين به له فهل لها أن تبيعه؟ الذي يظهر: أنه ليس لها أن تبيع إذا علمنا أنه اشتراه لهذا الغرض؛ لأن هذا يفوت مقصوده أو يثقل كاهله بإعادة الشراء لها مرة ثانية، أعطاها مثلًا حليًّا للأذن والرأس والرقبة واليد والرجل، ثم باعت هذا كله في لحظة واحدة، ولما جاء الليل وجدها ليس عندها شيء أين هذا؟ قالت: بعته لأنه ملكي، هو يحب أن تتجمل له، ويعد هذا من دواعي السرور ودواعي الأنس، ماذا يصنع في هذه الحال؟ يضطر أن يدخل عليها كئيبًا ويخرج حزينًا، أو يحسن لها مرة ثانية؟ الظاهر أنه إذا اشترى لها شيئًا يتعلق به غرضه فليس لها الحق في أن تبيعه، لكن هل لها الحق في أن تبدله؟ نقول: إذا أبدلته بما لا تشمئز منه نفسه فهذا جائز، أما إن أبدلته بشيء تشمئز منه نفسه فليس بجائز، لو فرضنا أنه رجل لا يريد التحلي القديم واشترى لها من الحلي الجديد المعاصر ولكنها أبدلتها من الحلي القديم مما يستعمل قديمًا فهل لها ذلك؟ لا، ليس لها ذلك، فتبين الآن أن تصرف المرأة بغير إذن زوجها جائز، هذا هو الأصل إلا في حلي اشتراه لتتجمل به له فليس لها الحق بإبداله بشيء لا يرغبه.
ومن فوائد الحديث: جواز اشتراط الشرط المحرَّم لتحقيق بطلانه لقوله: "خذيها واشترطي لهم الولاء"، فإن أصح الأوجه عندي في هذا أن إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لها أن تفعل من باب إبطال الشرط الفاسد، وإن حقق باشتراطه، ومعلوم أن تحقيق الشيء بالوقوع أبلغ من تحقيقه بالقول، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما سبق لنا:"خذوا واضربوا لي معكم بسهم" ليحقق الجواز صلى الله عليه وسلم، فهنا
قال: "خذيها واشترطي لهم الولاء" من أجل أن يعود مرة أخرى فيقول إن هذا الشرط باطل لا يجوز الوفاء به، وهذا أحسن من الوجهين اللذين أشرنا إليهما حين شرح الحديث.
ومن فوائد الحديث: أن الأمر قد يخرج عن الأصل الذي هو الوجوب أو الاستحباب إلى معنى آخر يستفاد من القرينة الحالية أو اللفظية لقوله: "خذيها"، فإن هذا أمر لكنه ليس أمر إيجاب ولا استحباب بل هو أمر إباحة، يعني: لك أن تأخذيها وتشترطي لهم الولاء، والذي يخرج الأمر عن أصله هي القرائن الحالية أو القرائن اللفظية.
ومن فوائد الحديث: أن الولاء لمن أعتق لقوله: "فإنما الولاء لمن أعتق"، وهذه جملة تفيد الحصر كما سبق في الشرح.
ومن فوائد الحديث: أن الشَّرط اللفظي لا يغير الشرط الشرعي؛ لأنه قال: "اشترطي لهم الولاء
…
إلخ"، فإنهم وإن اشترطوا لفظًا فإن ذلك لا يغير الشرط الشرعي بانتقال الولاء من المعتق إلى غيره، وهل الشرط العرفي يغير الشرط الشرعي؟ الجواب: لا، فلو تعارف الناس على عقد محرم شرعًا فإن هذا التعارف لا يبيح ذلك الأمر الشرعي، ولا يقال: كل الناس على هذا؛ لأن بعض الناس الآن إذا نهيته عن محرم قال لك: كل الناس على هذا، حتى في العبادات أحيانًا يقول: كل الناس على هذا نقول: الشرط اللفظي أو العرفي لا يغير الشرط الشرعي.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للعالم أن يخطب الناس في الأمور العارضة ليبين الحق لقولها رضي الله عنها: "ثم قام في الناس
…
إلخ".
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، وخطبه نوعان: خطب رواتب، وخطب عوارض، الرواتب كخطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء، والعوارض كهذه الخطبة، كلما دعت الحاجة إلى الخطبة خطب، واختلف العلماء هل خطبة صلاة الكسوف من الخطب العوارض أو من الخطب الرواتب، وسبب اختلافهم في ذلك هو: أن الكسوف لم يقع إلا مرة واحدة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا ندري هل الخطبة هذه عارضة من أجل إزالة العقيدة الفاسدة التي كان يعتقدها أهل الجاهلية أو هي خطبة راتبة ليجمع للناس بين الموعظة الكونية والموعظة الشرعية.
من فوائد الحديث: أن الشريعة تهتم بالمعاملات كما تهتم بالعبادات، أو بعبارة أخرى اهتمام الشارع بما يتعلق بالمعاملات كما يهتم بما يتعلق بالعبادات، وجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا ما جعل المسألة بينه وبين أهل بريرة، بل قام خطيبًا ليعلن للناس صلى الله عليه وسلم هذا الحكم الشرعي، فيتبين أن الشريعة -ولله الحمد- فيها العناية بالمعاملات كما فيها العناية بالعبادات.
ومنها: دحر قول من يقول: إن الشرع عبادة، وأما المعاملة فعادة؛ لأنه يوجد من الناس من يقول: المعاملات لا تدخل فيها الشرع، وكل الأوامر الواردة في المعاملات فهي أوامر إرشاد
تختلف باختلاف الزمان والمكان، قد أرشد في ذلك الوقت إلى نوع معين من المعاملات ويكون الإرشاد في وقت آخر إلى نوع آخر لكن مثل هذا الحديث يدحر هذا القول، وهذا القول مندحر من أكثر من عشرين وجهًا، دلّ عليها الكتاب والسُّنة وهو أن الشرع لم ينظم المعاملة بين الإنسان وبين ربه، وهي العبادة، بل نظم المعاملة بين الإنسان وبين ربه، وبين الإنسان والإنسان، بل بين الإنسان والحيوان، بل حتى بين الحيوانات أنفسهم، وحتى الحيوان الشارع جعل له ضوابط، لو رأيت كبشًا أقرن كبير الجسم ينطح شاة ضعيفة يتدبر على الوراء ثم يأتي بقوة وينطحها وهي تصرخ، هل الشرع يجعلك تتفرج على هذا؟ لا، بل يأمرك أن تفصل بينهما كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء"، فالشارع رتب المعاملة بين البشر والمعاملة بين البشر والحيوان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعًا، وأخبر أن امرأة بغيًّا سقت كلبًا فغفر الله لها، إلى هذا الحد كيف نقول: إن الشرع لم ينظم إلا المعاملة بين الخالق والمخلوق فقط وهي العبادة، ولكن من أعمى الله قلبه لم ينفعه انفتاح العين.
ومن فوائد الحديث: أن المشروع أن تبدأ الخطبة بحمد الله والثناء عليه لقولها رضي الله عنها: "فحمد الله وأثنى عليه"، وهكذا ينبغي للخطيب أن يحمد الله ويثني عليه.
فإن قال قائل: ما المناسبة؟
قلنا: المناسبة أن هذا المنصب -أعني: منصب الخطبة والوعظ- منصب عظيم لا يناله إلا من آتاه الله علمًا وحكمة وحزمًا وغيره؛ لأن غير العالم لا يتكلم، الجاهل وغير الحكيم أيضًا يفوت الفرص ولا يتكلم، وكذلك غير الحازم يفوت الفرص، ثم إن المقام مقام عظيم يقوم فيه الإنسان مقام الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، فلهذا كان من المناسبة أن يحمد الله ويثني عليه على أن جعله من أهل هذه المناصب الرفيعة، ثم إن في حمد الله والثناء عليه وذكر أوصافه الكاملة تنشيطًا على النفس وإنارة للقلب، وبهذا يفتح الله سبحانه وتعالى ما لا يفتحه مع الإعراض، فلهذا كان الرسول يحمد الله ويثني عليه.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للخطيب أن يكون قائمًا حتى في غير خطبة الجمعة لقولها: "ثم قام وخطب".
ومن فوائد الحديث: استعمال "أما بعد" في الخطبة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أما بعد" وهل هي فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام كما قيل به؟ لا، فصل الخطاب الذي أوتيه داود هو أن يفصل بين الناس ويحكم بينهم، هذه "أما بعد" هل يؤتى بها بعد كل جملة أو بعد كل سطر أو
بانتهاء كل صفحة أم ماذا؟ قيل: إنه يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، وهذا القول قيل: ليس موافقًا للواقع، إنما يؤتى بـ"أما بعد" للانتقال إلى موضوع الخطبة بعد أن يقدِّم الخطيب الحمد والثناء ثم ينتقل إلى الموضوع يأتي بكلمة "أما بعد".
ومن فوائد الحديث: حسن إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيه للتصريح بأسماء القوم لقوله: "فما بال رجال" لأنه ليس المقصود عين هذا الشخص، المقصود ذكر حكم هذه القضية وسواء علمنا الشخص أم لم نعلم لا يهم الشخص، الغالب أنه لا يتعلق بمعرفة عينه شيء كثير، نقول: ربما نحتاج لكنه لا يهم فالمقصود هنا الحكم، ولهذا قال:"فما بال رجال".اهـ
ومن فوائد الحديث: أن الشروط الخارجة عن كتاب الله غير مقبولة بل هي مردودة ومرفوضة لقوله: "يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله"، والاستفهام هنا للإنكار كما سبق، يعني: لماذا يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، أوليس الإنسان عبدًا لله؟ لأن العبد لا يتجاوز ما وجَّهه إليه سيده، فيجب ألا يشترط شروطًا ليست في كتاب الله، وقد سبق معنى قوله:"ليست في كتاب الله" وأنه ليس من اللازم أن يكون كل شرط منصوصًا عليه، بل المراد: أن كل ما خالف كتاب الله فليس بكتاب الله، وكل ما وافقه فهو منه لقوله تعالى:{ياأيُّها الَّذين ءامنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1].
ومن فوائد الحديث: وجوب الرجوع إلى كتاب الله لقوله: "ليست في كتاب الله".
فإن قال قائل: والسُّنة؟
فالجواب: أن السُّنة من كتاب الله لا شك؛ لأن السُّنة -كما مر علينا- بالنسبة للقرآن أربعة أقسام: إما مفسِّرة ومبينة للمعنى، وإما موافقة، وإما مخصصة، وإما مقيدة، وإما زائدة مستقلة، أما أن تأتي مخالفة للقرآن فهذا أمر مستحيل.
ومن فوائد الحديث: أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن شرط مائة مرة لتوكيده فإنه يكون باطلًا كما أن العبادة التي ليست على أمر الله ورسوله مردودة: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد".
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا اشترط شرطًا لا ينافي كتاب الله وجب الوفاء به؛ لأن قوله: "فهو باطل" يضاده: فهو صحيح، ومتى يكون صحيحًا؟ الجواب: إذا لم يخالف كتاب الله وإذا كان صحيحًا وجب الوفاء به.
وجوب الوفاء بالشرط الصحيح هل هو حق لله أو حق للآدمي؟ الجواب: هو حق للآدمي وجب بإيجاب الله، ولهذا لو أسقطه الإنسان سقط:{ياأيُّها الَّذين ءامنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى} [البقرة: 178]. {كتب} فرض، ثم قال:{فمن عفى له من أخيه شاءٌ فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178]. إذن
الواجب للإنسان إذا أسقطه من له الحق سقط فهو واجب للإنسان بإيجاب الله عز وجل، إذن نقول: الشروط التي يشترطها الإنسان على غيره في كل عقد هي حق للشارع يجب الوفاء به على المشروط عليه، ولكن إذا عفا الشارع سقطت بعفوه.
ومن فوائد الحديث: أن قضاء الله أحق من قضاء غيره مهما كان الغير لقوله: "قضاء الله أحق"، وسبق معنى قوله:"أحق"، أي: أنه أحق بالاتباع، وأنه أحق بمعنى: أشد موافقة للحق من غيره، فهو جامع بين أمرين.
لو قال قائل: قضى البرلمان ومجلس الأمة ومجلس الشعب ومجلس الشورى ومجلس الكونجرس ومجلس الشيوخ ومجلس الأعيان ومجلس الشرفاء بكذا وكذا مما هو مخالف لقضاء الله، كلها نلغيها؛ لأنها مجالس مخلوقين، والمخلوق معرَّض للخطأ، وهو أيضًا ضعيف في عمله وقدرته وتبصره وفي كل شيء، لهذا نقول: قضاء الله أحق، فإذا جاءنا إنسان وقال: انظروا هذا الدستور الذي صدق عليه كل هذه المجالس قلنا له: هذا كتاب الله الذي نزل يحكم بيننا وبينك: {فإن تنازعتم فى شاءٍ فردُّوه إلى الله والرَّسول} [النِّساء: 59]. أتى بهذه الكلمة بعد قوله: {ياأيُّها الَّذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولى الأمر منكم} [النِّساء: 59]. يعني: ليست طاعة أولي الأمر طاعة مطلقة، فعند التنازع المرجع بينكم وبين ولاة الأمور إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: أن قضاء الله أحق، يعني: أثبت وأعدل من غيره؛ لأن الحق يطلق على العدل والأحكام والصدق في الأخبار والثبات، فقوله:"أحق"، يعني: ثابت لا يتزحزح، وكذلك قضاء الله.
ومن فوائد الحديث: بطلان جميع الأنظمة التي تخالف أنظمة الشرع وأنها باطلة حتى وإن قدِّر أن فيها حقًّا فإن قضاء الله أحق منها، ولهذا أطلق قال:"قضاء الله أحق"، ولم يذكر المفضل عليه من أجل العموم.
ومن فوائد الحديث: إثبات حكمة الله عز وجل؛ لأن القضاء لا يكون أحق إلا إذا كان متضمنًا للحكمة ومصالح العباد، فإن لم يتضمن ذلك لم يكن أحق.
ومن فوائد الحديث: أنه قد يكون في قضاء غيره حق لكن قضاء الله أحق، هذا إذا قلنا: إن اسم التفضيل هنا على أصله، ووجود أصل المعنى في المفضل والمفضل عليه، وإذا قلنا: إنه ليس على أصله بحيث يكون معنى في المفضل فقط كما في قوله تعالى: {أصحاب الجنَّة يومئذٍ خيرٌ مستقرًّا} [الفرقان: 24]. فإنه يقتضي أن لا حق في قضاء غير الله، لكن المعنى الأول أسدّ وأوثق بالنسبة للصيغة وبالنسبة للواقع؛ لأنه ليس كل حكم يكون باطلًا من كل وجه، بل إن وافق الحق فهو حق وإن خالف الحق فهو باطل، وإن خالفه من وجه ووافقه من وجه فهو باطل من وجه وحق من وجه آخر.
ومن فوائد الحديث: ما أفاده قوله: "شرط الله أوثق" وهو أن ما اشترطه الله تعالى في العقود من الأوصاف والمعاني فهو أوثق مما يشترطه غيره، يعني: أشد ثباتًا ومسكًا؛ لأنه مأخوذ من الوثاق الذي يوثق به البعير، فهو أوثق، يعني: أشد ثباتًا من الشروط التي يضعها غير الشرع، إذن فيؤخذ من هذا: أن كل شرط خالف الشرع فهو لا ثقة فيه، ولا أوثقية فيه بل الأوثقية كلها بما جاء به الشرع.
ومن فوائد الحديث: إثبات الولاء للمعتق لقوله: "وإنما الولاء لمن أعتق"، والولاء عصوبة تثبت للمعتق وعصبته المتعصبين بأنفسهم فقط دون المتعصبين بغيرهم أو مع غيرهم.
ومن فوائد الحديث: أن الولاء لا يتعدى المعتق وما تفرع منه، يستفاد هذا من الحصر من قوله:"إنما الولاء لمن أعتق"، كأنه قال: لا ولاء إلا لمن أعتق.
ومن فوائد الحديث: أن شرط الولاء لغير المعتق باطل، يؤخذ من قول الرسول:"ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"، حتى وإن أكد بتكرار الشرط فهو باطل.
ومن فوائد الحديث: جواز السجع، لكن بشرط ألا يكون متكلَّفا، فإن كان فيه تكلف فإنه لا يعد من البلاغة ولا من الفصاحة؛ لأن الخطيب أو المؤلف إذا تكلف السجع فلا بد أن يكون في الكلام خلل إما زيادات أو استعارات مستكرهة أو غير ذلك، لكن إذا جاء عبر الخاطر بدون تكلف أعطى الكلام رونقًا وجمالًا وقبولًا كما في الحديث،
فإن قال قائل: هل السجع محمود أو مذموم؟
قلنا: ينظر إلى موضوعه إذا كان المقصود به رد الحق فهو مذموم، ولهذا لما قام حمل بن النابغة الهذلي يريد أن يجادل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في حكمه في المرأتين اللتين اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالدّية على عاقلتها، وقضى بغرة عبد أو وليدة دية للجنين، قام حمل بن النابغة فقال: يا رسول الله، كيف يغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل، سجع فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما ذلك من إخوان الكهان"، من أجل سجعه الذي سجع؛ لأن الكهان يزينون كلماتهم بهذه الأسجاع لأجل أن يكون لها رنين وقبول، فقال من أجل سجعه هل من أجل سجعه، يعني: من أجل أن سجع في كلامه أو من أجل مضمون كلامه؟ الثاني.
هذه الفوائد التي تيسرت من هذا الحديث الذي ساقه المؤلف رحمه الله من أجل أن يبين أن كل شرط خالف الشرع فهو باطل، إذا كان باطلًا فهل نقول للذي اشترطه لنفسه: لك الخيار لفوات ذلك عليك، يعني: لنفرض أن بائعًا شرط شرطًا فاسدًا لا يمكن الوفاء به، هل نقول: إن له