الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأدلة فيه محتملة أن يكون ذلك على سبيل التعبد أو على سبيل الراحة والتيسير فأيهما نأخذ
به؟ قد يقول قائل: إن الأصل المشروعية، وأن النزول في هذا سنَّة، وقد يقول قائل: لا، الأصل عدم المشروعية؛ لأن العبادة لابد أن نعلم أن الشارع شرعه، وهنا ليس عندنا علم؛ لأن الحج بالاتفاق انتهى بعد رمي جمرة العقبة، وهذا المنزل لا نعلم أنه مكان نسك حتى نقول: إن النزول به سنة، وما نزوله في هذا المنزل إلا كنزوله قبل أن يخرج إلى الحج بالأبطح، فهل أنتم تقولون مثلًا: إن نزوله في الأبطح قبل الخروج إلى منى سنة، أو لأنه منزل اختاره لا على سبيل التعبد؟ ليس بسنة، لكن فعل على سبيل أنه نزح عن مكة للتوسعة على من أتى حاجّاً أو معتمرًا في ذلك الوقت، على كل حال: المسألة محتملة أن يكون سنة وألا يكون سنة، والمسألة الآن إنما الخلاف فيها خلاف نظري، لماذا؟ لأنه الآن لا يمكن النزول في الأبطح انتهى الموضوع، لكن لو فرض أن مكة عادت إلى حالتها الأولى يكون النزاع حينئذ له فائدة عملية أما الآن فإن النزاع ما هو إلا مسألة نظرية.
حكم طواف الوداع في الحج والعمرة:
743 -
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "أمر النَّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلَّا أنَّه خفَّف عن الحائض". متَّفق عليه.
قال: "أمر الناس"، هذه الصيغة قال علما المصطلح: إن لها حكم الرفع؛ لأن الصحابي إذا قال: "أمر" فإن الآمر هو الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه ليس فوق مرتبة الصحابة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون هو الآمر، بل إن هذا أحد الألفاظ في الحديث، وإلا ففيه لفظ آخر صريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر، وقال ابن عباس:"كان الناس ينفرون من كل وجه"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"، وهذا مرفوع صريح إلى رسول الله صلى الله علي وسلم، على كل حال قوله:"أمر الناس"، كلمة "الناس" هذه لفظ عام لكن يراد به الخاص، من هذا الخاص؟ هم الذين ينفرون من الحج لقول ابن عباس: كان الناس ينفرون من كل وجه، وقيل: هم الحجاج سواء نفروا أم لم ينفروا، وعلى هذا يكون الطواف للوداع لا للسفر، ولكن لانتهاء أعمال الحج وأن الإنسان عليه أن يودِّع سواء سافر أم لم يسافر، كما أنه إذا ودّع فإنه لو بقي شهرين أو ثلاثة في مكة لا يعيد الطواف، ولكن جمهور أهل العلم على أن المراد بالناس هنا: النافرون من الحج لقول ابن عباس: "كان الناس ينفرون من كل وجه"، ولا ينفر أحد في وقت الحج إلا من كان حاجًّا هذا هو الغالب.
وقوله: "حتى يكون آخر عهدهم بالبيت"، وفي رواية لأبي داود:"آخر عهدهم بالبيت الطواف". فتفسر هذه الرواية معنى الآخرية هنا، وهي أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، وقد يقال: إنه وإن لم ترد هذه الرواية فإن المراد الطواف؛ لأن الذي يختص بالبيت من الأعمال هو الطواف، لو قال قائل: آخر عهدهم بالبيت الصلاة مثلًا، قلنا: الصلاة لا تختص بالبيت، وإلا لقال: بالمسجد مثلًا لما قال: بالبيت وقد علم أنه لا يختص به إلا الطواف؛ فهذه قرينة على أن المراد به هنا الطواف، ولهذا قيل: إن بعض الملوك نذر أن يتعبد لله عبادة لا يشركه فيها أحد من الناس أبدًا قال له: عليّ نذر أن أفعل عبادة لا يشاركني فيها أحد من الناس حين أفعلها، فلا نقول: هي الصلاة، ولا الصيام، ولا الصدقة، فسأل العلماء فقال بعض أهل العلم: أفرغوا له المطاف واجعلوه يطوف وحده حينئذ لا يشاركه أحد ويكون قد وفّى بنذره.
أقول: إن قوله: "آخر عهدهم بالبيت" يمكن أن نقول: حتى وإن لم ترد رواية أبي داود المصرحة فإنه يتعين بالقرينة أن يكون المراد الطواف هنا.
يقول: "إلا أنه خفف عن الحائض" يعني: خفف الأمر عن الحائض، والحائض معروفة، وهل مثلها النفساء؟ فيها خلاف بين العلماء؛ فابن حزم يرى أن النفساء لا يمتنع عليها الطواف وقد مرّ علينا في أول كتاب الحج وجه استدلاله ولكن الجمهور يرون أن النفساء كالحائض لا تطوف بالبيت، ويجيبون عن هذا الحديث بأنه من باب التغليب، والقيد إذا كان أغلبيًا لا يكون له مفهوم.
فيستفاد من الحديث عدة فوائد: أولًا: وجوب طواف الوداع على الحاج لقوله: "أمر الناس
…
الخ"، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
لو قال قائل: قد يكون الأمر هنا للاستحباب؟
قلنا: لا يصح لوجهين: الأول: أن الأصل في الأمر الوجوب إلا بدليل، الوجه الثاني: أنه قال: "خفف عن الحائض"، والتخفيف لا يقال إلا في مقابل الإلزام، إذ لو كان الأمر هنا استحبابًا لم يكن هناك فرق بين الحائض وغير الحائض؛ لأنه خفف عن الجميع؛ إذ إن المستحب لا يلزم به الإنسان.
فإن قلت: وهل يجب ذلك في العمرة؟
فالجواب: أن هذا محل خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: إنه يجب الطواف للعمرة كما يجب للحج، واستدل لذلك بأن العمرة حج أصغر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ليعلى بن أمية: "اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك"، وهذا عام يخرج منه ما لا يفعل في العمرة بالإجماع مثل الطواف، والمبيت، والرمي، والوقوف، وطواف الإفاضة، بل نقول: الطواف لا يخرج؛ لأن العمرة فيها طواف، ونقول: إن المعتمر دخل إلى البيت بتحية - وهذه من باب القياس - فلا يخرج منه إلا بتحية، رابعًا: إن هذا أحوط - أي: الطواف - لأنك إذا طفت لم يقل أحد: لم طفت؟ وإن لم تطف قال الموجبون: لماذا لا تطوف، وما كان أحوط فهو أولى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، وقوله:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، لكن مع هذا ليس وجوبه في العمرة كوجوبه في الحج، من أجل الخلاف فقط، وإلا فالأدلة تدل على الوجوب.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب أن يكون الوداع آخر عهد الإنسان؛ لقوله: "آخر عهدهم"، ولكن إذا بقي الإنسان بعد الطواف للصلاة أو اشترى حاجة في طريقه أو تغدى أو تعشى أو ما أشبه ذلك من الأشياء الخفيفة، فإن هذا لا يضر؛ لأنه سبق لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بعد طواف الوداع، فهذه المسائل اليسيرة لا تضر إلا إذا كان المقصود به الاتجار، يعني: أنه اشترى شيئًا للتجارة، فإن العلماء يقولون: إذا اشترى شيئًا للتجارة فعليه إعادة الطواف.
ومن فوائد الحديث: سقوط طواف الوداع عن الحائض لقوله: "خفف عن الحائض"، الحائض لا يجب عليها الطواف لعذر شرعي أو حسي، فقد تكون قادرة، فهل يلحق بالعذر الشرعي العذر الحسي كما لو كان الإنسان مريضًا؟ الجواب: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة لما قالت: إنها مريضة: "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة"، فلم يسقطه عنها للمرض، فما دام هذا الإنسان عاجزًا نقول: يحمل، لكن لو فرض أنه لا يمكن حمله؛ يعني: مرض مرضًا مدنفًا لا يقدر فهنا قد نقول بالسقوط؛ لأن هذا عذر لا يمكن معه الفعل كالحيض بخلاف العذر الذي يمكن معه الفعل كالمرض الخفيف الذي يمكن أن يحمل الإنسان فيه فهذا لا يسقط.
ومن فوائد الحديث: تحريم جلوس الحائض في المسجد؛ لأن العلة من منع الحائض من الطواف المكث في المسجد، والطواف مكث، فلا يحل لها أن تمكث في المسجد حتى لو كان للدرس أو للموعظة أو ما أشبه ذلك، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه ولسم النساء أن يخرجن لصلاة العيد وأمر الحيض أن يعتزلن المصلَّى.
ومن فوائد الحديث: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده؛ حيث خفف عن الحائض فلم يلزمها أن تبقى كما تبقى المرأة التي لم تطف طواف الإفاضة، بل تستمر في سفرها وليس عليها شيء.