الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الحديث - يقول المؤلف -: الراجح إرساله، فهو ضعيف، وهو كذلك، فمن حيات المعنى ضعيف، كما هو من حيث السند ضعيف؛ وذلك لأن الحاج قد يستطيع الحج بلا زاد ولا راجلة، فإذا كان قريبا يكون مستأجرًا فيركب البعير، أي: البعير الذي أجره كما يفعل الناس في السابق يستأجرون معهم أناسا للطبخ والشد والتنزيل وما أشبه ذلك.
على كل حال: المراد بالسبيل في قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلا} : الطريق الذي يوصلك إلى مكة، سواء كان زادا أو راحلة أو مشيا على الأقدام، فهذا هو الصحيح، وقد مر علينا أن الله. تعالى اشترط الاستطاعة مع أنه مشروط في كل عبادة كما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم" [التغابن: 16]. وأشرنا إلى السبب في ذلك، وهو أنه غالبًا تكون فيه مشقة؛ فلهذا اشترطت الاستطاعة بعينه، يعني: أكد فيه شرط الاستطاعة؛ لأن الغالب فيه المشقة، وسبق لنا أن من شروط الحج: البلوغ، والثاني: العقل، والثالث: الإسلام، والرابع: الحرية، والخامس: القدرة، وجمعت في بيتين سبق ذكرهما.
من فوائد الحديث - إن صح -: تفسير الكلمات بالمثال، فإن قوله:{من استطاع إليه سبيلا} لا يعني: الزّاد والرّاحلة، بل الزاد والراحلة مثال من أمثلة الاستطاعة، وليست هي الاستطاعة في كل وقت، قد يجد الإنسان زادًا وراحلة، ولا يستطيع ذلك في بدنه، كالكبير والمريض مرضًا ميئوسًا منه ونحوه.
حكم حج الصبي:
680 -
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لقي ركبًا بالرَّوحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا من أنت؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت إليه امرأةٌ صبيًّا. فقالت: ألهذا حجٌّ؟ قال: نعم ولك أجرٌ"(). رواه مسلم.
"الرَّوحاء": اسم محل بين مكة والمدينة، والرّكب: اسم جمع راكب وأقله ثلاثة، قوله:"من القوم؟ " ليتبين أمرهم خوفًا أن يكونوا من العدو، فقالوا:"المسلمون"، يعني: نحن مسلمون، ولم يقولوا: نحن بنو فلان
…
إلخ؛ لأن المقصود الاستفهام عن دينهم حتى لا يكونوا أعداء، فقالوا: من أنت؟ أي: الذي سألتنا عن أصلنا أو عن أنفسنا، فقال:"رسول الله" اللهم صلِّ وسلم عليه، فلما قال:"رسول الله"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المعلم لأمته رفعت إليه امرأة صبيًّا، "فقالت: ألهذا حج؟ " قال: "نعم ولك أجر"، قال: "نعم"، وما التقدير؟ له حج، "لك أجر"، لم يأت السؤال عنها، لكن كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب بأكثر مما سئل إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فقوله
صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر قال: "الطهور ماءه الحل ميتته"()، مع أنه ما سئل عن الميتة، لكن لما كان راكب البحر قد يحتاج للحيتان ويجدها ميتة أخبره النبي أو زاده أمرًا لم يسأل عنه وهو حلّ ميتة البحر.
* هذا الحديث يستفاد منه فوائد:
أولًا: أنه ينبغي للإنسان أن يسأل عمن لقيه إذا كان يخاف أن يكونوا أعداء لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم من القوم؟
ثانيًا: أنه ينبغي للإنسان أن يكون يقظا يأخذ حذره لا يحسن الظن بكل أحد؛ لأنه ليس كل أحد على ما يظهر من حاله، فأنت احذر؛ ولهذا يقال:"احترسوا من الناس بسوء الظن"()، وليس هذا على إطلاقه، بل إذا دلت القرينة على أنه محل سوء الظن فاحترس منه، أما إذا علمت سريرته وظاهره فلا ينبغي أن تسيء الظن بأحد.
الثالث: فيه دليل على أن الإنسان يجيب بحسب ما يظنه من مراد السائل لا بحسب ما يتبادر من لفظه؛ لأن هؤلاء الذين سئلوا قالوا: "المسلمون"، وكان من المتوقع أن يقولوا مثلًا: نحن من تميم، نحن من خزاعة .... إلخ، هذا هو المتبادر؛ لأن القوم هم حاشية الناس وأقاربهم، ولكنهم قالوا: نحن المسلمون؛ لأنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يعرف أنسابهم وإنما أديانهم، ليطمئن إليهم.
وفيه أيضًا دليل: على أنه لو سالك سائل عن نفسك فاسأله أنت لكن هل الأولى أن تجيبه أو أن تسأله قبل إجابته؟ ينظر في الموضوع، أن خفت أن هذا الرجل يسألك ثم يعلم من أنت ثم لا يعطيك الخبر عن نفسه فالأولى أن تسأله أولا أو تحاول أن تأتي بتورية، إذا قال: من أنت؟ أقول: من بني آدم، إذا قال: من أنت؟ أقول: أنا عبد الله، إذا قال: من أبوك؟ عبد الرحمن، إذا قال: ما قبيلتك؟ أقول: عبيد الله، لأنه أحيانًا بعض الناس يسألك ولا يمكنك أن يعلمك بنفسه، فيأخذ ما عندك ولا يعطى ما عنده.
ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة على السؤال، لأنهم لما علموا أنه النبي صلى الله عليه وسلم بادروا بالسؤال عما يجهلون من أحكام دينهم.
وفيه دليل: على أن صوت المرأة ليس بعورة؛ لأنها رفعت صوتها والناس يسمعون من جملتهم ابن عباس، ومعلوم أن صوت المرأة ليس بعورة، ولكن إن خيف الفتنة في التخاطب
وجب الكف، أما خضوع المرأة بالقول ولينها بالقول فهذا محرم، لا لأنه قول ولكن لأنه خضوع؛ ولهذا قال الله تعالى:{فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرضً وقلن فولاً معروفًا} [الأحزاب: 32]، لم يقل: لا تتكلمن.
وفيه أيضًا: أن الصغير لا يجب عليه الحج، لأنها قالت:"ألهذا حج؟ " ولم تقل: أعلى هذا؟ وبينهما فرق؛ لأن "ألهذا حج؟ " يعني: أنه يقبل منه ويصح أعليه؟ أفرض عليه حج؟
وفيه أيضًا دليل: على الاكتفاء بـ "نعم" في الجواب؛ لقوله: "نعم"، وهل يشابهها ما كان. بمعناها كما لو قال: إي؟ أو قال: أيوه - هذه حجازية -، على كل حال: ما كان بمعناها فهو مثلها؛ لأننا لا نتعبد بهذه الألفاظ هذه ألفاظ وضعت أدوات دالة على المعنى، فبأي وصف حصل المعنى حصل المقصود، لو أنه قيل لرجل: أطلقت امرأتك؟ قال: "نعم"، هل تطلق؟ نعم، أعتقت عبدك؟ قال:"نعم"، يعتق وقفت مالك أو يتك؟ قال:"نعم"، يكون وقفًا.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الصبي إذا أحرم بالحج لزمه ما يلزم البالغ من أحكام الحج، وجه الدلالة: أنه إذا أثبت له الحج ثبت للحج محظوراته وأحكامه، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أثبت الحج معناه: أن أحكام الحج تترتب على هذا الحج، ولكن هل يلزمه المضي فيه؟ في هذا للعلماء قولان: قول أبي حنيفة أنه لا يلزمه المعنى فيه؛ لماذا؟ قال: لأنه غير مكلف وليس من أهل الوجوب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة"(). وبناء على هذا فإذا أحرم الصبي الذي لم يبلغ ثم تعب من الإحرام وخلع إحرامه وانفسخ من حجه يجوز على هذا الرأي؛ لأنه ليس من أهل الوجوب.
وقال أكثر أهل العلم: يلزمه إتمام الحج؛ لأن نفل الحج يجب إتمامه على البالغ، فهذا الصبي الحج في حقه نفل فيجب عليه إتمامه، لا شك أن هذا قياس له وجه من النظر، لكن قول أبي حنيفة أقوى من هذا القياس، لماذا؟ لأننا نقول: هذا الصبي ليس من أهل الوجوب حتى نلزمه، لكن الرجل الذي تلبس بالتطوع من الحج أو العمرة من أهل الوجوب وتلبسه بذلك كنذره إياهما، ولهذا قال الله تعالى:{ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29].
وشبيه بهذه المسألة من بعض الوجوه: الصبى إذا قتل خطا هل تلزمه الكفارة أو لا تلزمه؟ المشهور من المذهب: أنها تلزمه، قالوا: لأن القتل - أو لأن وجوب الكفارة في القتل - لا يشترط فيه القصد؛ ولذلك لو وقع القتل من نائم بأن تنقلب المرأة على ابنها مثلًا لزمتها الكفارة، ولو
أراد الإنسان أن يرمي صيدًا فأصاب إنسانا لزمته الكفارة فالكفارة في القتل لا يشترط فيها القصد، وهذا الصبي أو المجنون إذا قتلا فإن عمدهما خطا تجب فيه الكفارة.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا كفارة على الصغير الذي لم يبلغ - في القتل -؛ لأنه ليس من أهل الوجوب أصلًا، وفرق بين من أصل الوجوب أصلًا وبين من كان من أهل الوجوب، لكن وقع فعله خطا، فنحن نقول: هذا الصبي لو دهس إنسانًا فإنه ليس عليه كفارة؛ لأنه ليس من أهل الوجوب أصلًا بخلاف الذي كان من أهل الوجوب فأخطأ فإنه ملزم بذلك، وخطؤه يسقط عنه القصاص والدم، وأما الصبي والمجنون فليسا من أهل الوجوب أصلًا.
في هذا الحديث من الفوائد: جواز الزيادة في الجواب عن السؤال إذا اقتضته المصلحة؛ لقوله: "ولك أجر".
وفيه أيضًا: دليل على فساد قول من يقول من العامة: أن ثواب حج الصبي لوالده، وقال بعض العامة: بل ثوابه لجدته من أمه، وقال بعض العامة: بل ثوابه لمن حج به هذه ثلاثة أقوال كلها لا تصح، والصحيح: أن أجر الحج له لكن لأمه التي تولت الحج به أجر؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لك أجر"، ولم يقل: لك أجره، وهناك فرق بين اللفظتين، إذن هذا الصبي ينال ثواب الحج والأم تنال أجر العمل والتوجيه.
فإن قلت: هذا الصبي هل ينوي هو أو ينوى عنه ()؟
فالجواب: أن كان يعقل النية ينوي هو بنفسه، وإن كان لا يعقل ينوى عنه. هل يصح أن ينوي عنه من ليس بمحرم، أو لابد أن ينوي عنه من شاركه في الإحرام؟ نقول: يصح أن ينوي عنه من لم يحرم لإطلاق الحديث: "نعم ولك أجر"، هل يصح أن ينوي عنه من هو محرم؟ نعم يصح.
وهل عند الطواف يحمل أو يمشي، وهل ينوي هو بنفسه أو ينوى عنه؟ نقول: يمشي ما لم يعجز، فإن عجز حمل، الدليل على أنه أن عجز حمل: قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة وقد استأذنته في الطواف وهي شاكية، قال:"طوفي من وراء الناس وأنت راكبة"()، لكن لماذا تطوف من وراء الناس؟ لئلا توذي الناس ببعيرها، وبه نعرف أن هؤلاء السُّود الذين يحملون الطائفين بالسرير، ثم يأتون - والعياذ بالله - يركضون ركضا وسط الطائفين ويكسرون رءوسهم أنهم مخطئون في ذلك خطأ عظيمًا، فيقال: أنتم إذا حملتم أحلا فطوفوا به من وراء الناس كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهل هو الذي ينوي عنه وليها؟ نقول فيه ما سبق في الإحرام أن كان يعرف النية قيل له: أنو هذا، طواف هذا سعي أن كان لا يعقل نوى عنه وليه، وفي هذه الحال هل يشترط إلا يكون وليه حاملًا له، أو يصح أن ينوي عنه وهو حامل له؟ عرفنا قبل قليل أن كان يستطيع المشي وإلا حمل، فهل ينوي عنه وليه وهو حامل له أو لا؟ نقول: ينوي عنه وليه وهو حامل له، أن كان وليه لا يطوف فيطوف بنفسه، فإن كان يطوف لنفسه ونوى عن نفسه وعن وليه، فقال: بعض العلماء: إنه لا يصح الطواف، ويكون الطواف للمحمول دون الحامل، وقيل: بالعكس للحامل دون المحمول، وقيل لهما جميعًا، والصحيح: أنه إذا كان الصبي لا يعرف النية لا يصح أصلًا أن ينوي عنه وعن طفله؛ لأنه لا يمكن أن يقع فعل واحد بنيتين عن شخصين، لأن الطفل الآن هل منه عمل؟ لا، هو محمول وأنا الذي أدور به، فلا يمكن أن يصح أن يكون دوري هلا وهو عمل واحد عن اثنين بنيتين، أما إذا كان يحسن النية فلا بأس أن أقول: انو الطواف وأنا أحمله أنوي عن نفسي ويكون هذا الطواف صحيحًا؛ لأنه الآن نوى أن يطوف، فإذا نوى أن يطوف فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"، غاية ما في أنه كان محمولًا من أجل العجز، وهذا الفصيل هو أقرب ما قال في هذه المسألة، أي: أنه ينظر أن كان الصبي يعقل النية قيل له: انو الطواف وحمله وليه وطاف به، ولو كان الولي ينوي الطواف عن نفسه، أما إذا كان لا يحسن النية فإنه لا ينوي وليه بنيتين في عمل واحد.
قوله: "نعم ولك أجر" يدل على أنه يجوز للمرأة أن تحرم بصبيها، وهذا هو الصحيح، وقيل: إنه لا يصح أن يحرم إلا الأب أو وصيه، ولكن الصحيح: أن الأم يصح أن تنوي عن طفلها، فهل يقاس على ولاية العبادات ولاية المعاملات، وأن المرأة يصح أن تكون ولية على مال القصار من أطفالها؟ نقول: قيل بذلك، وقيل: لا، وأن الولي في المال هو الأب فقط، وعلى هذا فلو مات رجل عن أطفال صغار ولهم أم وخلَّف مالًا فمن يتولى مالهم؟ المشهور من المذهب أن الولاية هنا للحاكم يذهب إلى القاضي، وكل من ترى، والقول الثاني يقول: الولاية هنا للأم؛ لأن لدى الأم من الشفقة مثل ما لدى الأب أو أكثر، لكن للقائلين بأن ولاية المال لا تكون للأم يقولون: لأن الأم بالنسبة للمال تصرفها قاصر، فقد اختل فيها شرط القوة على العمل {إن خير من استئجرت القوي الأمين} [القصص: 26].
* * *