الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على ثغر من ثغورهم أو من الأشياء المهمة في قواسم قتالهم جعل النبي صلى الله عليه وسلم مكافأة، وهذا يدل على أن المكافأة على الأعمال الصالحة لا يعد من الرياء، ولا يعد من باب إفساد نيات الناس؛ لأن بعض الناس قال: لا تعطي حافظ القرآن جائزة، ولا تعطه مكافأة؛ لأن هذا يؤدي إلى إفساد النيات فيقال: لا، أنا ما قلت: اعملوا لهذا السبب، وربما يكون هذا الرجل ما طرأ على باله أن يحصل على الجائزة، إنما همه أن يفعل الخير فقط.
النهي عن الوصال:
631 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقال رجلٌ من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله قال: وأيكم مثلي؟ إنِّي أبيت يطعمني ربِّي ويسقيني، فلمَّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يومًا، ثمَّ يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم، كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا". متفقٌ عليه.
"النهي" هو طلب الكف على وجه الاستعلاء، والمراد بقولنا:"على وجه الاستعلاء" ليس معناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتصور نفسه عاليًا على غيره، لا، فهو من أشد الناس تواضعًا، لكن يتصور الآمر أن المأمور مطيع له هذا معنى الاستعلاء، وأنه يوجه الأمر إليه.
"الوصال" مصدر واصل يواصل كقاتل يقاتل قتالًا، واصل يواصل وصالا ويصلح مواصلة كمقاتلة، فما هو الوصال؟ الوصال لغة: وصل الشيء بالشيء، وفي الشرع: وصل يوم بآخر في الصيام، فقال رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله؟ يعني: تصل يومًا بيوم وكيف تنهى عن ذلك؟ وهل يليق أن يفعل الرجل ما ينهى عنه؟ لا، ويحتمل أن يكون السائل أراد معرفة الحكمة في كون الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن الوصال وهو يواصل، وأيا كأن فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابه بجواب يتبين به الفرق، فقال:"وأيكم مثلي؟ " الاستفهام هنا للنفي، يعني: لستم مثلي في الصبر والتحمل وما يحصل لي من الاستغناء عن الأكل والشرب.
قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"، أبيت البيات هو النوم ليلًا، وقوله:"يطعمني ربي ويسقيني" هذه ليست كقول إبراهيم- عليه الصلاة والسلام: {والذى هو يطعمني ويسقين} [الشعراء: 79]؛ لأن المراد بذلك في قول إبراهيم: الطعام الحسي والسقي الحسي، هنا يطعمني ويسقيني ليس المراد بهما: الطعام الحسي والسقي الحسي، إذ لو كان كذلك لم يكن مواصلا، ولم يكن بينه وبين الناس فرق، لكن المراد: طعام وسقي غير الطعام والسقي المعهود، فما هو؟
قيل: إنه طعام من الجنة، وإن الطعام والسقي من الجنة ليس كطعام الدنيا، فهو لا يفطر
الصائم ولو كان طعامًا وسقيًا، وحينئذٍ يلغز بها فيقال: لنا طعام وشراب لا يفطر، ولكن هذا فيه نظرا لأن الطعام والشراب في الآخرة لا يكون إلا بعد دخول الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يأخذ عنقودًا من الجنة في صلاة الكسوف ولكنه بدا له ألا يفعل فتركه.
والقول الثاني في المسألة: أن المراد بالطعام والسقي هنا: ما يحصل للقلب من الغذاء بذكر الله عز وجل والاشتغال بذكره عما سواه، واشتغال الروح وتعلقها بالشيء لا شك أنه يشغلها عن حاجات البدن المادية الحسية، نحن الآن لو فرض أن نشتغل بشغل شاغل حقيقي لكنا نذهل عن الأكل والشرب، فهو في غفلة عن الطعام والشراب الحسي، فيكون المراد بالطعام والسقي هنا: ما يفرغه الله عز وجل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنس بذكره والاشتغال به عما عداه، وهذه خاصية لا توجد لأحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين أمته، فإن أمته لا تطيق أن تشتغل بذكر الله عز وجل عن الأكل والشرب، قالوا: منه قول الشاعر: [البسيط]
لها أحاديث من ذكراك تشعلها
…
عن الشَّراب وتلهيها عن الزَّاد
هذا اشتغال ذهنها بذكر محبوبها مع أنه ليس تعلق هذه المرأة بمحبوبها كتعلق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل، بل محبة الرسول لله صلى الله عليه وسلم واشتغال قلبه به لا يدانيها أي محبة، وهذا هو الذي يميل إليه ابن القيم رحمه الله وهو الحق.
قال: "فلما أبوا أن ينتهوا"، "أبوا" يعني: امتنعوا، لا عصيانًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أشد الناس امتثالا لأمره، لكنهم-رضي الله عنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم إشفاقا عليهم وخوفا عليهم من التعب، وأنه ليس هذا من باب الأمور التعبدية، ولكن من باب الخوف عليهم، فقالوا: نحن نطيق ذلك وسنفعل، ونظير هذا لو أنني طلبت منك مثلًا أن تدخل الباب قبلي وأبيت، هل تكون عاصيًا لي؟ لا، لأنك ما قصدت المعصية، لكن قصدت الأدب معي، هكذا الصحابة أيضًا ما قصدوا المعصية بلا شك، لكن ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك إشفاقا عليهم ورحمة بهم لا لأجل أن هذا من باب العبادة فقالوا: نواصل فواصل بهم يومًا ثم يوما ثم رأوا الهلال، وإذا رأوا الهلال لا يمكن الوصال، أي هلال رأوه؟ شوال، فقال:"لو تأخر الهلال لزدتكم يومًا ثالثًا ورابعًا"، لماذا؟ قال الراوي:"كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا".
"كالمنكل" يعني: كالذي يدعوهم إلى الترك، فالتنكيل هنا بمعنى: الترك، يعني: أنه أراد أن يواصل لو تأخر الهلال لأجل أن ينفروا عن هذا الفعل فيعرفوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نهاهم إلا من
أجل الرحمة والإشفاق، ولا شك أن التيسير في هذا الباب هو الذي يحبه الله، ولهذا قال الله تعالى في آيات الصيام:{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. فإذا كان اليسر يحبه الله لنا في هذه العبادة فلا ريب أن اليسر فيه في الإفطار وإعطاء النفس حظها من الطعام والشراب والنكاح.
في هذا الحديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الوصال، فالصحابة أوردوا على النبي صلى الله عليه وسلم إشكالا في أنه يواصل وهو ينهى عن الوصال، فبيَّن صلى الله عليه وسلم الفرق وأنه يواصل؛ لأن قلبه مشغول بذكر الله تعالى ومحبته عن الحاجة إلى الأكل والشرب، وأن هذا أمر لا يتسنى لغيره فظهر الفرق، ثم إنهم-رضي الله عنهم لم يتركوا الوصال ظنا منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك الإشفاق عليهم لا أن ذلك من التعبد، فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومًا ويومًا ليتبين لهم الحكمة من النهي عن الوصال، وقال:"لو تأخر الهلال لزدتكم".
فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: النهي عن الوصال، وهل النهي للتحريم أو للكراهة أو للإرشاد؟ على خلاف بين العلماء:
منهم من قال: إن النهي للتحريم، واستدل بأمرين:
الأمر الأول: أنه الأصل في النهي لقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليمٌ} [النور: 63]. والنهي أمر بالاجتناب، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه"، فيكون النهي للتحريم.
والأمر الثاني الذي استدلوا به: أنه واصل بهم يومًا فيومًا للتنكيل، والتنكيل نوع من العقوبة، ولا عقوبة إلا على فعل محرَّم وإلا لما عوقب.
وقال آخرون: إن النهي للكراهة؛ لأنه لو كان للتحريم لم يواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لهم في الاستمرار، بمعنى: أنه لو كان للتحريم لنهاهم عنه نهيا باتًّا، إذ إن تمكين المنهي من فعل المحرم لا يجوز، فقالوا: إذن هذا النهي للكراهة، أما القائلون بأنه للإرشاد، وأن الإنسان حسب قوته فاستدلوا لذلك بفعل كثير من الصحابة-رضي الله عنهم للوصال حتى كان ابن الزبير رضي الله عنه يواصل خمسة عشر يومًا لا يفطر فيها، فقالوا: إن فعل الصحابة- رضي الله عنهم وهم عدد من الصحابة يدل على أنهم فهموا منه أن النهى للإرشاد، وأن الإنسان إذا كان يرى من نفسه التعب والمشقة فإن لا يواصل، أما إذا كان يرى الراحة والانشراح فإنه يواصل.
فإن قلت: ما هو أقرب الأقوال إلى الصواب؟
فالأقرب أنه للكراهة على الأقل، والقول بالتحريم قوي للسببين المذكورين في صدر الكلام.
أما الرد على من قالوا: إنه أذن لهم في الاستمرار، فنقول: إن هذا الإذن لا يدل على جوازه؛ لأنه أراد التنكيل بهم لا إقرارهم عليه لأجل أن يعرفوا هم بأنفسهم الحكمة من النهي.
وأما الرد على من قال: إنه للإرشاد، فنقول: إن هذا فهمهم، وفهمهم ليس حجة على غيرهم؛ لأن لدينا كلامًا للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الصحابة-رضي الله عنهم لا يدعون شيئًا يحتاج إلى سؤال إلا سألوا عنه، وهذا أحد الطرق الذي كمل به الدين والحمد لله.
الدين كمّل بالقرآن وبالسُّنة القولية والفعلية والإقرارية حتى إذا جاء شيء لم يأت به الكتاب والسُّنة مثلًا قيض الله له من يسأل عنه إما من الصحابة الذين في المدينة، وإما من الأعراب، ولهذا كان الصحابة يفرحون إذا جاء الأعرابي يسأل؛ لأن الأعرابي على فطرته يسأل عن كل شيء، فالحاصل: أن هذا فيه دليل على أن الصحابة-رضي الله عنهم. لم يدّعوا شيئا يحتاج الناس إليه إلا سألوا عنه، ولهذا لما نهى عن الوصال أوردوا عليه كونه يواصل. غرضي بهذه الفائدة ما يترتب عليها من الأمر العظيم وهو إبطال ما كان عليه أهل الكلام من الإيرادات الباطلة التي يريدون أن يتوصلوا بها إلى تعطيل أسماء الله وصفاته في قولهم: لو كان كذا لزم كذا وما أشبه ذلك من الأشياء التي يقولونها يتوصلون بها إلى إبطال ما وصف الله به نفسه أو سمى به نفسه، فيقال لهم: أين الصحابة عن هذه الإيرادات التي أوردتموها هل لم يفهموها أم ماذا؟ !
ومن فوائد الحديث: إثبات الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى قد يخصه بأحكام دون الأمة وهو كذلك، وقد ذكر أهل العلم خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب النكاح- أعني: الفقهاء-؛ لأن له في النكاح خصائص كثيرة فذكروها هناك، وقالوا: إن الرسول خص بأحكام واجبة وهي ليست واجبة على غيره، محظورة عليه وهي ليست محظورة على غيره، مباحة له وهي ليست مباحة لغيره، منها الوصال فهو في حقه ليس بمكروم، وفي حق غيره مكروه.
ومن فوائد الحديث: إن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت في حق الأمة إلا بدليل، وجهه: أنه لما نهى عن الوصال قالوا: إنك تواصل، وإذا كنت تواصل فلتكن نحن نواصل لأنك أسوتنا، وهذه قاعدة دل عليها آيات كثيرة من القرآن مثل قوله تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]. فهو أسوتنا وقدوتنا وإمامنا، وقال تعالى:{لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر} . [الأحزاب: 21]. فإذن الأصل فيما فعل أنه له وللأمة إلا بدليل، والأصل فيما قال: إنه له وللأمة إلا بدليل، وبهذا نرد على قاعدة ذكرها الشوكاني رحمه الله وهي غريبة منه مع إمامته وجلالته- وهي: أن الرسول إذا ذكر قولا عامًا وفعل فعلًا يخالف عمومه حمل الفعل على الخصوصية! وهذا لا شك أنه خطأ؛ لأن قول الرسول