الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيقال: غلام وأمة أو عبد وأمة، والأقرب التقييد، لأنهما إذا انفصلا بعضهما عن بعض، واستغنى بعضهما عن بعض، فإن الرِّقة والرحمة التي تكون بينهما -في الغالب- تزول، ولهذا لا تجد الرقة والحنان والرأفة الذي في قلب الأم لولدها في حال صغره مساوية لذلك فيما إذا كبر، فنقول: متى كان هذا الغلام محتاجًا إلى الأم لولدها في حال صغره مساوية لذلك فيما إذا كبر؟ فمتى كان هذا الغلام محتاجًا إلى أمه أو إلى أخيه أو إلى عمه والرأفة والحنان باق، فإنه لا يجوز التفريق وأما بعد البلوغ واستقلال كل واحد منهما بنفسه، فإنه لا يحرم التفريق.
وهذا التفريق في البيع خاصة أو حتى في العتق؟ الجواب: في البيع خاصة، أما في العتق فيجوز أن يعتق الأم ويدع الولد، أو يعتق الولد ويدع الأم، لأنه لا ضرر في هذا؛ إذا إن الحر يملك نفسه، فإذا أعتقه فبإمكانه أن يرجع إلى أمه ويبقى معها؛ لأنه ليس ملكًا لأحد.
وهل يشمل الحديث التفريق بين الوالدة وولدها من البهائم؟ قال بعض العلماء بالعموم، وأنه لا يجوز أن يبيع السخلة دون أمها ولا أم السلخة دون السخلة، ولكن هذا فيه نظر؛ إذ هل نقول: لا تذبح الأم دون السخلة ولا السخلة دون الأم وهذا لا شك أنه خلاف ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، والصواب: أن هذا خاص في بني آدم فقط، وأما البهائم فا بأس، لكن يمنع من أن يذبحها أمام أمها.
حكم التسعيرة:
779 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "غلا السِّعر بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النَّاس: يا رسول الله، غلا السِّعر، فسعِّر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ الله هو المسعِّر، القابض، الباسط، الرَّازق، وإنِّي لأرجو أن القى الله تعالى، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال". رواه الخمسة إلا النَّسائيَّ، وصحَّحه ابن حبَّان.
قوله: "غلا السعر" أي: ارتفع وزاد، يقال: غلا يغلو وكل هذه المادة الام والغين والألف أو الواو كلها فيها نوع من الزيادة: } كالمهل يغلى في البطون (45) كغلى الحميم {[الدخان: 46]. والغليان فيه ارتفاع وزيادة، "غلا السّعر" يعني: ارتفع وزاد فيه أيضًا زيادة، و"السعر": قيمة الأشياء، يعني مثلًا صاع البر بكذا، وصاع التمر بكذا، وصاع الأقط بكذا؛ لأنه إذا سعر فلن يزيد أحد على تسعيره، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال أن ذلك ليس إليه؛ لأن من بيده ملكوت السموات
والأرض هو الله عز وجل فقال: "إن الله هو المسعّر" يعني: هو الذي بيده الأمر إن شاء عز وجل أغلى السِّعر وإن شاء أرخص السعر، كيف ذلك؛ لأن سبب الغلاء إما زيادة في نمو الناس، وإما نقص في المحصول، وإما جشع وطمع، وكل ذلك بيد الله عز وجل الزيادة في النمو بيد الله، وكذلك أيضًا النقص في المحصول والزيادة فيه بيد الله، ومعلوم أنه إذا نقص المحصول زاد السعر، أو يكون من باب الطمع والجشع، وهذا أيضًا بيد الله؛ لأن الطمع والجشع من فعل الإنسان، والله تعالى خالق للإنسان وخالق لفعله، ولهذا قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله هو المسعر"؛ لأنه هو الذي يفعل أسباب الزيادة وأسباب النقص، القابض الباسط، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: } يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر {[الروم: 37]. فهو "القابض": الذي يقبض الشيء ويقلله، وهو "الباسط" الذي يبسطه ويوسعه ويكثره، وهذا من جملة أفعاله عز وجل: } والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون {[البقرة: 245]. قال: "الرازق" يعني: المعطي، والرازق في الأصل العطاء، كما قال الله تعالى: } فارزقوهم منه {[النساء: 8].} وارزقوهم فيها {[النساء: 5]. أي: أعطوهم، ورزق الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: رزق مادة الحياة الجسدية، ورزق مادة الحياة الروحية، فالأول يكون بالطعام والشراب والكسوة والسكن، والثاني يكون بالعلم والإيمان.
وعلى هذا فنقول: من ليس له كسب إلا المحرم كالمرابي هل الله رازقه؟ الجواب: نعم، رازقه بالمعنى الأول، أما بالمعنى الثاني فلا شك أنه ناقص الإيمان؛ لأنه لو كان إيمانه كاملًا ما انتهك محارم الله عز وجل في الربا.
الكافر مرزوق بأي المعنيين؟ بالمعنى الأول؛ لأن الله رزقه ما يقوم به جسده، أما ما يقوم به قلبه من العلم والإيمان فإنه مفقود؛ لأن علمه إن كان عنده علم ينتفع به وإيمانه معدوم.
يقول: "وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال"، الرجاء: هو الطلب النفسي مع وجود أسباب حصول المطلوب، إذن فهو في الأمور الميسورة، والتمني في الأمور المتعذرة، أو المتعسرة، لكنه طلب كالرجاء، لكن الرجاء يكون في الأمور القريبة، والتمني في الأمور البعيدة، وقوله:"إني لأرجو أن ألقى الله تعالى"، ومعنى "تعالى" أي: ترفّع، وتعاليه عز وجل معنوي وحسِّي، أما تعاليه المعنوي فهو أنه سبحانه وتعالى متعال عن كل نقص، وأما الحسي فهو متعالٍ على جميع الخلق كما قال تعالى: } الكبير المتعال {[الرعد: 9].
يقول: "وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة"، يعني: يكون له عندي مظلمة ويجوز مظلمة، "في دم ولا مال"، "في دم" كالاعتداء على الناس، "ولا مال" كالاعتداء على المال، هذا الحديث القصة فيه واضحة وهي أن الصحابة لما غلا السعر ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -باعتباره ذا السلطة والإمامة- أن يسعَّر لهم، فامتنع النِّبي صلى الله عليه وسلم وبيَّن أن الأمر بيد الله عز وجل، وأن التسعير على الناس نوع من الظلم، ورجا الله عز وجل أن يلقاه وما أحد منهم يطلبه بمظلمة في دم ولا مال.
فيستفاد منه فوائد: أولًا: أن غلاء السعر سبب للقلق؛ أي: قلق الناس واضطرابهم، وهو كذلك لما فيه من ضيق القوت.
ويتفرع على هذه الفائدة: أن رخص الأسعار فيه توسعة للناس وانبساط، ولكن اعلم أن رخص الأسعار قد يكون أحيانًا ضررًا على آخرين ولكن العبرة بالعموم، فرخص الأسعار مثلًا في المنتوجات قد يتضرر به المنتجون، لكن عامة الناس ينتفعون به، والمصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة، ألا ترى إلى المطر يعتبر من رحمة الله ويفرح الناس به وقد يكون ضررًا على بعض الناس كالمزارع لا يحب المطر؛ لأنه قد أسقى زرعه آخر تسقية، وإذا أسقاه آخر، فربما يتضرر الزرع بما يأتي بعد ذلك من الماء، أو يكون شخص قد بنى بنيانًا ولم ييبس، فإذا جاء المطر ضره وهدم بنيانه .... إلى غير ذلك من المسائل التي يكون فيها المطر ضررًا، لكنه ضرر مغتفر؛ لأن قليل في جانب النفع العام.
ومن فوائد الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم يشكون الأمور التي تقلقهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رجاء أن يعالجها بنفسه أو بدعاء الله سبحانه وتعالى الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادعوا الله أن يغيثنا، هذا طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم علاج هذا الموقف بدعاء الله، وهنا الصحابة طلبوا علاج الموقف بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول تبرأ من ذلك.
ومن فوائد الحديث: إثبات أن الله عز وجل هو الذي بيده الأمور دون غيره؛ لقوله: "القابض، الباسط، الرازق"، وهذا يقوله النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو أحق الناس بأن يكون له شيء من التكبر لو كان لأحد من المخلوقين شيء من التكبر، فإذا انتفى هذا الأمر بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانتفاؤه بالنسبة لغيره من باب أولى، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يعلَّق قلبه بأحد إلا بالله.
ومن فوائد الحديث: وصف الله بأنه مسعّر؛ لأن التسعير نوع من أنواع فعله سبحانه، فهو الذي يسعر الأشياء، ويقدر قيمتها بما يقدره من الأسباب، وقد ذكرنا أسباب الغلاء قبل قليل بأنها ثلاثة: زيادة النمو، قلة المحصول، الجشع والطمع.
ومن فوائد الحديث: وصف الله عز وجل بالقابض والباسط لقوله: "القابض، الباسط".
ومن فوائد الحديث: وصفه بالرازق، فهل هذه أوصاف وصف الله بها؛ لأنها من أنواع أفعاله أو هي أسماء؟ يحتمل أن تكون أسماء من أسماء الله؛ لأنها دخل عليها "أل"، ويحتمل أن تكون أوصافًا؛ لأنا أنواع من الفعل، فهي كالضحك والغضب والسخط والرضا، فهي أنواع من الفعل فلا تكون من أسماء الله؛ ولهذا لم يأت شيء منها في القرآن إلا بلفظ الفعل: