الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه أن يحلُّوا لم يأت عنه حرف واحد يقول: واقضوا من العام القادم، ولو كان واجبًا لبيّنه لهم؛ لأنه يجوز أن يذهب بعضهم إلى أهله ولا يلتقي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأما أهل المدينة، فقد يقال: إنه سيعلمهم بعد ذلك، لكن ليس كلهم من أهل المدينة، فلما لم يرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه واجب علم أنه ليس بواجب؛ لأنه لو كان واجبًا لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغهم.
ثانيًا: أن الذين قضوا العمرة من العام القابل كما قال الشافعي وغيره لم يكونوا جميع الذين حضروا صلح الحديبية بل كانوا أقل؛ لأن الذين حضروا صلح الحديبية كانوا ألفًا وأربعمائة، والذين قضوا العمرة دون ذلك، وهذا يدل على أن القضاء ليس بواجب؛ إذ لو كان واجبًا لحضر كل من كان معه في الحديبية، واستدلوا بالنظر قالوا لأن هذا واجب تعذر عليه إتمامه؛ يعني: أن الحج والعمرة يجب إتمامه، لكن هذا واجب عجز عنه، والقاعدة الشرعية: أن الواجبات تسقط بالعجز، فيكون هذا الذي أحصر سقط عنه وجوب الإتمام بالعجز عنه، فنرجع الآن لما سقط وجوب الإتمام بالعجز نرجع إلى الأصل، ما هو الأصل؟ أنه تطوع الذي شرع فيه أم واجب؟ تطوع، فنقول: لا شك أن الأفضل أن تأتي به، ولكنه ليس بواجب، ولهذا أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما أن نوجبه وهذا الرجل إنما ترك الإتمام لعجزه عنه، فإننا لا نوجبه عليه وهذا هو الحق وهو الصحيح أنه لا قضاء عليه، ولكن إذا كان هذا الشيء واجبًا كما قلنا فإنه يجب عليه القضاء؛ لأنه مطالب به بالدليل الأول بماذا نجيب عن الذين أوجبوا القضاء؟ نقول: قولكم إن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله والأصل أنه أسوة لنا نقول: إن القاعدة المعروفة عند العلماء: أن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ونحن نوافقكم على أن الأفضل أن نأتي به، لكن الوجوب شيء والأفضل شيء آخر. هذا واحد، ثانيًا: نقول: إن قولهم: قضاء هذا من المقاضاة أو القضية، وليس من باب القضاء المعروف عند الفقهاء.
الاشتراط عن الإحرام وأحكامه:
746 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل النَّبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزُّبير بن عبد المطَّلب ك، فقالت: يا رسول الله، إنِّي أريد الحجَّ، وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجِّي واشترطي: أنَّ محلِّي حيث حبستني". متَّفق عليه.
"ضباعة" بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقولها:"شاكية" أي: مريضة، والمؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث في هذا الباب وإن كان له مناسبة أن يذكر في أول باب الإحرام عند الإحرام، لكن هذا الباب له فيه مناسبة وهي أن الإنسان إذا اشترط عند عقد الإحرام أن محلَّه حيث حبس ثم حبسه حابس فإنه يتحلل بدون شيء: بدون دم، بدون حلق، بدون قضاء إن لم يكن فرضًا، حتى على قول من يقول: إن المحصر يجب أن يقضي وإن كان نفلا، في هذه الحال إذا اشترط؛ يعني: يحل هذا وجه المناسبة لسياق هذا الحديث في باب الفوات والإحصار.
وهذا الحديث -كما ترون -في حجة الوداع، ففيه عدة فوائد كثيرة منها: أن صوت المرأة ليس بعورة، المرأة الأجنبية التي ليست من المحارم صوتها ليس بعورة، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم ابنة عمه.
فإن قال قائل: ألا يحتمل أن تكون من محارمه بالرضاع؟
قلنا: بلى، ولكن الأصل عدم ذلك.
فإن قال قائل: ألا يحتمل أن هذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم كما كان من خصائصه جواز كشف الوجه له؟
قلنا: بلى، يمكن أن يكون من خصائصه، لكن نقول من خصائصه لو كان هناك نص يدل على أن صوت المرأة عورة، وأنه يحرم مخاطبة المرأة لكن لا يوجد نص، بل المعروف أن النساء يتكلمن مع النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة ولا يمنعهن النبي صلى الله عليه وسلم، إذن فصوت المرأة ليس بعورة، ولكن لا يجوز للإنسان أن يتلذذ بصوت المرأة لا تلذذ شهوة ولا تلذذ تمتع، فتلذذ الشهوة أن يحس بثوران الشهوة عند مخاطبتها والتمتع أن يعجبه صوتها وكلامها ويستمر كما يتمتع بمنظر الأشجار والبناء الجميل والسيارة الفخمة وما أشبه ذلك، المهم: أن صوت المرأة ليس بعورة، فتجوز محادثتها إلا إذا كان هناك فتنة وذلك بالتلذذ بمحادثتها إما تلذذ شهوة أو تلذذ تمتع.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز الاشتراط عند الإحرام للمريض، الدليل أنها قالت:"إني أريد الحج .... إلخ"، ولكن هل يسن الاشتراط أو لا يسن، أو في ذلك تفصيل؟ فيه خلاف بين العلماء؛ منهم من أنكر الاشتراط مطلقًا، وقال: لا اشتراط في الإحرام؛ لأن الإحرام واجب، يعني: إذا دخل الإنسان في النُّسك وجب عليه الإتمام، واشتراط التحلل ينافي ذلك ويناقضه، هذا تعليل، وأما الدليل ففعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه حج واعتمر ولم يشترط لا في عمرة الحديبية ولا في عمرة القضاء ولا في عمرة الجعرانة ولا في حجة الوداع، مع أنه لا يخلو من خوف، فلا
يسن الاشتراط مطلقًا ولا يفيد، أيضًا قالوا: ولو كان يفيد ما كان للإحصار والفوات فائدة وخيمة، ومنهم من فصل وقال: إن الاشتراط سنة لمن كان يخشى مانعًا من مرض أو غيره، وليس بسنَّة لمن لا يخشى مانعًا، وهذا القول هو الذي تجتمع به الأدلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعلى هذا فلا نقول لكل من أراد أن يحج أو يعتمر: اشترط إلا إذا كان هناك خوف يخاف من مانع يمنعه من إتمام نسكه، فنقول: اشترط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ضباعة بنت الزبير ولم يشترط هو، وهذا جمع بين الأدلة واضح.
فإن قال قائل: أفلا تستحبون الاشتراط في هذا الوقت مطلقًا لكثرة الحوادث؟
فالجواب: لا، لا نستحب ذلك له؛ لأن الحوادث الواقعة في عصرنا إذا نسبتها إلى المجموع وجدت أنها قليلة جدًا، ومطلق الحوادث موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الصحابي الذي وقصته ناقته في عرفة مات بحادث؛ إذن نقول: إن وجود الحوادث في زمننا هذا لا يوجب أن نستحب له الاشتراط، نعم لو كان الإنسان مريضًا وخاف ألا يستطيع الإتمام فليشترط.
ومن فوائد الحديث: أن المرض اليسير لا يمنع وجوب الحجَّ؛ لأنه قال: "حجي واشترطي"، ولم يأذن لها بالترك.
ومن فوائد الحديث: جواز الاشتراط في العبادات، وهل نقول: إن الاشتراط في العبادات في كل عبادة، أو نقول: هو خاص في الحج لطول مدته ولصعوبته ومشقته؟ قد يقول قائل: إنه يجوز في كل عبادة، مثل: أن يشترط الإنسان عند دخوله في الصلاة أن يقول: إن استأذن عليّ فلان فلي أن أقطع الصلاة وهي فريضة، وقد نقول بعد الجواز، للفرق بين الحج وغيره وهو طول الزمن والمشقة، لكن الصلاة زمنها قليل والصيام كذلك زمنه قليل، وإلا قد يقول: إذا جاء رمضان وهو مريض يدخل في الصوم ويقول: إن شقّ عليّ فلي أن أفطر، نقول: الواقع أنه ليس في حاجة للاشتراط؛ لأن الإنسان إذا كان مريضًا وشقَّ عليه يفطر؛ سواء اشترط أو لم يشترط، بخلاف الحج.
ومن فوائد هذا الحديث: أن المشترط يحل مجانًا؛ أي: بدون حلق وبدون دم وبدون قضاء لقوله -في اللفظ الآخر -: "فإنَّ لك على ربِّك ما استثنيت".
ومن فوائده: أنه إذا قال: "محلِّي حيث حبستني"، فإنه بمجرد ما يحصل المانع يتحلل، ولكن لو قال:"فلي أن أحلّ حيث حبستني" صار بالخيار، وأيهما أحسن أن يقول:"فلي أن أحل" أو "فمحلِّي حيث حبستني"؟ قد يقول قائل: الأول أحسن ليكون الإنسان بالخيار إن شاء استمر وإن شاء أحلّ، وقد يقول آخر: إن اللفظ الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدل به شيء؛ يعني: أنه أفضل من غيره على أن قوله: "فمحلِّي حيث حبستني" يظهر لي أن المراد به الإباحة؛ يعني:
مثل "فأحلني"، والأمر عند توهم المنع يفيد الإباحة فقط وأنه لا يعني أنه بمجرد ما يحصل المانع يحل الإنسان بل هو بالخيار إن شاء مضى وإن شاء حلّ.
إذن ما الفائدة من الاشتراط؟ الفائدة: أنه يحل مجانًا ليس عليه هدي ولا قضاء ولا حلق ولا تقصير إن كان امرأة، لكن لو لم يفعل ذلك لكان حكمه ما سبق.
هل يؤخذ من هذا الحديث: ترجيح قول من يقول: إن الإحصار عام؟ نعم قد يؤخذ منه ترجيح قول من يقول: إن الإحصار عام في كل مانع لقوله: "إن حبسني حابس"، وهي إنما شكت المرض لم تشكو غيره.
747 -
وعن عكرمة، عن الحجَّاج بن عمرو الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج؛ فقد حلَّ وعليه الحجُّ من قابل، قال عكرمة. فسألت ابن عبَّاس وأبا هريرة عن ذلك؟ فقالا: صدق". رواه الخمسة، وحسَّنه التِّرمذيُّ.
قال: "من كسر أو عرج"، كسر في يده أو رجله أو أي عضو من أعضائه الذي يمنعه من إتمام النُّسك، أو عرج هذا في الرَّجل أصابه مرض في رجله وصار أعرج لا يستطيع المشي فماذا يصنع؟ قال:"فقد حلّ وعليه الحج من قابل""فقد حل" تحتمل هذه الجملة معنيين: المعنى الأول: فقد جاز له الحلّ، والمعنى الثاني: فقد حلّ فعلًا، ونظير هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم". هل المراد: فقد حلّ له الفطر أو قد أفطر فعلًا؟ فقد حلّ له الفطر هذا أحد القولين، القول الثاني: فقد أفطر حكمًا يعني: انتهى صومه، هنا "فقد حلّ" تحتمل معنيين المعنى الأول:"فقد حلّ" أي: فقد جاز له الإحلال من نسكه، والثاني:"فقد حلّ" أي: تحلل، سواء كان مختارًا للحل أم لا.
قال: "وعليه الحج من قابل"، لماذا؟ لأنه محرم بالحج فلزمه الحج، قال عكرمة: فسألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق.
هذا الحديث - كما نشاهد - من باب الإحصار وليس من باب الفوات.
فيستفاد منه: أن الإحصار يحصل بغير العدو؛ لأن الكسر والعرج ليس عدوًّا.
ويستفاد منه أيضًا: أنه إذا حصل ذلك جاز للإنسان أن يتحلل، فماذا يصنع؟ يذبح هديًا ويحلق رأسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحلق الرأس، والله في القرآن أمر بالهدي:{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]. ويذهب إلى أهله كما رجع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية إلى المدينة بدون اعتمار.
ويستفاد من هذا الحديث: وجوب القضاء؛ لقوله: "فعليه الحج من قابل"، أضفه إلى حديث ابن عباس السابق:"حتى اعتمر عامًا قابلًا"، فيدل على أن المحصر يلزمه القضاء، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد في المشهور عنه وكثير من أهل العلم، والقول الثاني: أنه لا يلزمه القضاء إذا أحصر إلا إذا كان الحج الذي أحصر فيه فريضة الإسلام أو كان واجبًا بنذر، فيلزمه القضاء لا من أجل الإحصار، ولكن من أجل الأمر السابق الفريضة أو النذر.
الذين قالوا بوجوب القضاء الحديث ظاهر في تأييدهم، لأنه قال:"وعليه الحج من قابل"، والذين قالوا: لا يجب عليه القضاء؛ قالوا: لأن الله لم يذكره في القرآن، وإنما وجب ما استيسر من الهدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره في سنته، وإنما أوجب الحلق، وليس في المسألة إجماع حتى يكون دليل علينا، فانتفاء الدليل الموجب يدل على عدم الوجوب؛ لأن الأصل براءة الذمة، ثم قالوا: عندنا دليل إيجابي في عدم الوجوب، وهو أن الواجبات تسقط بالعجز، وهذا الذي شرع في النُّسك وهو ليس بواجب شرع في نفل، ولما شرع فيه وجب عليه إتمامه، وإتمامه عجز عنه بالحصر من عدو أو غيره والواجبات تسقط بالعجز، فهذا دليل على عدم الوجوب، فصار دليل القائلين بعدم الوجوب مركب من دليلين: البراءة الأصلية، ودليل آخر موجب؛ أي: مثبت لعدم وجوب القضاء، البراءة بأي شيء استدللنا بها؟ بأن الله ذكر الحصر، وذكر ما يجب فيه، وهو ما استيسر من الهدي، ولم يذكر القضاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحصر وأوجب فيه الحلق، ولم يوجب القضاء، هذا دليل براءة الذمة، الدليل الإيجابي أن نقول: إن هذا النُّسك ليس بواجب ابتداء؛ لأنه سنة نفل، وإنما الواجب إتمامه تعذر بالعجز عنه والواجبات تسقط بالعجز، ولم يوجب الله عز وجل على عباده الحج والعمرة إلا مرة واحدة فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الحجُّ مرّة فما زاد فهو تطوُّع". نحتاج الجواب على هذا الدليل، أما حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر عامًا قابلًا؛ فنحن إذا قلنا لا يجب القضاء لسنا نقول: لا يجوز القضاء بل ننفي الوجوب دون الجواز، ونقول: يجوز أن يقضي، بل قد نقول: إننا نستحب له أن يقضي اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الحديث الذي معنا فنقول:"عليه الحج من قابل" يحتمل أن يكون هذا قضاء، ويحتمل أن يكون هذا أداء؛ أي: أنه يحتمل أن الحديث فيمن كسر أو عرج في الفريضة، فصار عليه حج من قابل، ويحتمل أن يكون في نافلة، فيلزم القضاء، والمعروف أنه إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال، وحينئذ يجب حمل الحديث على ما تدل عليه الأدلة السابقة، وهو أن يكون الإحصار في فريضة، ومعلوم أنه إذا كان الإحصار في فريضة فإنه يجب عليه القضاء.