الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يفطر، يقولون: لو أن الإنسان وطئ على حنظلة- شيء كالتفاح لكنه شديد المرارة- إذا وطئت عليه برجلك تحسُّ طعمه في حلقك، وقال العلماء: إن هذا لا يفطر ولو وجد طعمه في حلقه؛ لماذا؟ قالوا: لأن الرَّجل ليست منفذًا معتادًا، إنما دخل مع المسام حتى وصل إلى الحلق، فالمهم: حتى ولو لم يصح هذا الحديث فإن الأصل الإباحة، إلا ما قام عليه الدليل.
حكم من أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم:
638 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائمٌ، فأكل أو شرب، فليتمَّ صومه، فإنَّما أطعمه الله وسقاه". متَّفقٌ عليه.
- وللحاكم: "من أفطر في رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفَّارة". وهو صحيحٌ.
أولًا: قال: "من نسي وهو صائم""من" شرطية بمنزلة إذا نسي، وقوله:"فليتم" هذا جواب الشرط، واقترن بالفاء؛ لأنه طلب، وقد قيل فيما يجب اقترانه بالفاء من جواب الشرط:
اسميةٌ طلبيةٌ وبجامد
…
وبما وقد وبلن وبالتَّنفيس
وقوله: "فليتم" مجزوم بالفتحة نيابة عن السكون، ولالتقاء الساكنين حركت الميم، وقوله:"فليتم" اللام لام الأمر، والأمر هنا للوجوب، أو الاستحباب، أو الإباحة؟ إذا كان المقصود بالأمر رفع توهم الفطر فهو للإباحة- إباحة الإتمام-؛ يعني: ولا تفطر.
ثانيًا: إذا كان الصوم تطوعًا وليس المقصود رفع التوهم فهي للاستحباب، إذا كان واجبًا وليست لدفع التوهم فهي للوجوب، والقرائن معروفة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم" الجملة حالية كما هو معلوم، "نسي"، ما معنى النسيان؟ قال العلماء: إن النسيان ذهول القلب عن شيء معلوم عنده، أما عدم العلم فهو جهل. إذن النسيان وارد على العلم، لا نسيان إلا بعد علم، ولهذا قيل: آفة العلم النسيان، "نسي" يعني: ذهل قلبه عن الصوم- هذا واحد-، "نسي" ذهل قلبه عن كون هذا الشيء مفطرًا؛ لأنه قد ينسى أنه صائم، وقد ينسى أن هذا الشيء مفطر، هذا كله واقع، فهو إما أن ينسى حاله أو ينسى حكم ما تناوله من أكل أو شرب، وهذا نسيان للحكم، وكلا الأمرين داخل في قوله صلى الله عليه وسلم:"من نسي وهو صائم"، وقوله:"فأكل أو شرب" هذا ليس على سبيل الحصر، ولكن على سبيل المثال، ومثَّل بالأكل والشرب؛ لأنهما أكثر تناولًا من غيرهما؛ إذ إن الجماع في غير المتزوج غير وارد، وفي المتزوج وارد، لكنه قليل بالنسبة للأكل والشرب اللهم إلا في أحوال نادرة، هذا شيء يمكن.
على كل حال: الأكل والشرب كمثال، وخوفًا من أن يقول قائل: إن الجماع له حكم آخر أتى المؤلف برواية الحاكم، وهي قوله:"من أفطر من رمضان"، فإن "من أفطر" يعمُّ الأكل والشرب والجماع وغيرها من المفطرات، والحديث بهذا صحيح كما قال المؤلف، فلو قدَّر عدم صحته فهل يمكن أن نأخذ الحكم في الجماع وغيره من المفطرات من قوله صلى الله عليه وسلم:"من نسي فأكل أو شرب"؟ نعم، بالقياس يكون هذا على سبيل التمثيل.
قوله: "فأكل أو شرب" الفرق بينهما أن الأكل في الطعام والشرب في الشراب، يعني: في المائعات وشبهها هذا يسمى شرابًا، وما كان جامدًا فهو أكل، وعلى هذا فالشكر إذا وضعه الإنسان في فمه هل هو أكل أو شرب؟ يوجد سكر شراب واضح يمص مثل: قصب السكر، فهذا الشراب، لكن السكر الدقيق يلحق بالأكل عبارة المنتهى وهو من الحنابلة يقول:"وبلع ذوب سكر بفم كأكل".
الفائدة من هذا: أن العلماء قالوا: إنه يجوز للذي يصلي نفلًا إذا عطش وهو يصلي أن يشرب ماء قليلًا وهو يصلي، فسامحوا في الشرب القليل في النفل دون الفرض، فقيل لهم في الذي يضع حلاوة ويمصها أو سكر ويمصه، قالوا: إنه كالأكل، قالوا: لأنه [جسم] جامد فصار طعامًا لا شرابًا، وشرب الماء فعله ابن الزبير وهو أحد الصحابة، قال:"فأكل أو شرب فليتم صومه"، كلمة "فليتم" تفيد بأن الصوم لم ينقص، أي: فليستمر في صومه حتى الغروب.
ثم قال في تعليل ذلك: "فإنما أطعمه الله وسقاه"، هذا تعليل للحكم، يعني: أن هذا الحكم الصادر منه نسيانًا لا ينسب إليه، وإنما ينسب إلى الله عز وجل، فإن الله أطعمه وسقاه، يعني: هو ما تعمد أن يفسد صومه بالأكل والشرب، فإذن يكون الله عز وجل قد أطعمه وسقاه وكما في حديث عائشة رضي الله عنها:"إنما هو رزق ساقه الله إليك"، وللحاكم:"من أفطر في رمضان ناسيًا".
قلنا: فائدة هذه الرواية أن فيها العموم دون التخصيص بالأكل والشرب، "من أفطر" بأي شيء يفطر به ناسيًا، "فلا قضاء عليه ولا كفارة"، كلمة "ولا كفارة" تدل دلالة ظاهرة على أن الجماع داخل؛ لأنه لا كفارة إلا في الجماع، وعليه فإذا كان جامع ناسيًا فلا يفسد صومه ولا كفارة عليه.
يؤخذ من هذا الحديث فوائد كثيرة، أولًا: جريان النسيان على بني آدم؛ لقوله: "من نسي".
وثانيًا: أن النسيان لا يقدح في الإنسان، لماذا؟ لأنه من طبيعة الإنسان، ولو كان سببًا للقدح لما عذر به الإنسان.
ثالثًا: أن ما ترتب على النسيان فلا إثم فيه؛ لقوله: "فليتم صومه"، ويتفرع على هذه القاعدة: أن من نسي آية من القرآن فلا إثم عليه، وما ورد في التشديد فعلى من نسي آية من القرآن إن صحَّ فهو محمول على من نسيه بسبب إعراضه وعدم مبالاته، وأما من نسيه أو شيئًا منه لأمر لا بد له منه في معاشه ومعاده فإنه لا إثم عليه، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نسي بعض آيات القرآن وذكر فصلى ذات ليلة وأسقط آية من القرآن فلما انصرف ذكَّره بها أبي بن كعب فقال:"هلا كنت ذكرتنيها"، ومر ذات يوم ورجل في بيته يصلي يتهجد فسمعه يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"رحم الله فلانًا لقد ذكرني آية كنت أنسيتها"، وعلى هذا فلا لوم على الإنسان فيما نسي من كتاب الله بشرط ألا يكون ذلك على سبيل الإعراض وعدم المبالاة، إذن من أفطر ناسيًا لوقت أو بالحكم فلا قضاء عليه ولا كفارة. ما تقولون في رجل اشترى عنبًا لأهله في رمضان، وخرج بالعنب في المنديل ونسي أنه صائم، فجعل يأكل هذا العنب حبة حبة، فلما وصل إلى البيت وإذا لم يبق إلا حبة واحدة في العنقود، فقال له أهله: كيف تأكل واليوم صيام؟ قال: ما دريت، لكن يأكل هذه الحبة وتعمد، وقال: إن كنت مفطرًا فهذه من باب أولى وإن كنت لم أفطر فهذه لا تفطر، فما الحكم؟ هو عالم وعليه فلا صوم له.
ومن فوائد الحديث: بيان رحمة الله عز وجل بترك المؤاخذة على النسيان فإن هذا من رحمة الله.
ومن الفوائد أيضًا: أن فعل المحظور مع النسيان لا يترتب عليه شيء؛ وذلك لأن مفسدة المحظور بفعله، فإذا انتفت المفسدة بالنسيان لم يبق هناك أثر لهذا المحظور، بخلاف المأمور فإن ترك المأمور ناسيًا لا يسقطه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن نسي في الصلاة:"من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك"؛ لأن فعل المأمور لا تزول مفسدة تركه بالنسيان؛ إذ يمكن تداركه وإزالة هذه المفسدة بقضائه، ولهذا القاعدة المقررة عند عامة الفقهاء: أن ترك المأمور لا يعذر فيه بالنسيان والجهل، بل لا بد من قضائه، وإن كان الإثم يسقط، وأما فعل المحظور فيعذر فيه بالجهل والنسيان إلا أنه يرد علينا أن هناك أشياء من المأمورات أسقطها الشارع بالجهل مثاله المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أستحاض فلا أطهر، ومعنى ذلك: أنها لا تصلي، والمستحاضة لا تجب عليها الصلاة، ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها مع أنها تركت المأمور، لكنها تركته جهلًا.
مثال آخر: عمار بن ياسر بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنب وليس عنده ماء، فتمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال:"إنما كان يكفيك أن تقول هكذا"، وذكر التيمم، ولم يأمر بإعادة ما سبق.
ثالثًا: الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره يصلي معتزلًا القوم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم:"لم؟ " فقال: أصابتني جنابة ولا ماء، فقال:"عليك بالصعيد فإنه يكفيك"، فهذا أيضًا يدل على أن الجاهل بالمأمور لا يؤمر بالإعادة، من أن نسيان المأمور أمر الشارع فيه بالإعادة. "من نام عن صلاة
…
" الحديث، فظاهر السُّنة التفريق في باب المأمور بين الجهل والنسيان، فما هو الجواب عن هذا الظاهر؟
الجواب أن يقال: أما في مسألة المستحاضة التي كانت تترك الصلاة وهي مستحاضة فلأنها معذورة، لأنها تأوَّلت، كيف التأول؟ بنت على أصل، وهو أن كل دم فهو حيض، فتكون كما لو أخطأ المجتهد في تأويله فلا نقول: إن اجتهادك الثاني ينقض الاجتهاد، أو علمك بالدليل بعد اجتهادك بنقض اجتهادك، وكذلك نقول في قضية عمار بن ياسر؛ لأنه استعمل القياس لأن الذي يغتسل من الجنابة يغسل جميع بدنه فهو اجتهد وتمرغ، وقال: الآن وصل التراب إلى جميع البدن، وهذا قياس، إذن هو متأول. قصة الرجل الذي قال:"أصابتني جنابة، ولا ماء". نقول: من الذي قال: إن هذا الرجل كان عليه صلوات سابقة؟ قد يكون لم يفته إلا هذه الصلاة، ولما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"عليك بالصعيد" فإنه سوف يتيمم ويصلي.
ثم نقول: أيضًا هذا الرجل بعد أن جاء الماء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واستقى الناس وشربوا وسقوا الإبل وبقي بقية، قال للرجل: خذ هذا فأفرغه على نفسك، يعني: اغتسل به؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث إلا رفعًا مؤقتًا ما دام الإنسان لم يجد الماء، فإذا وجده عاد عليه الحدث، فهذا هو الجواب على ما ذكره، وإلا فإن الأصل أن فعل المأمور لا بد منه، لكن بعض أهل العلم قال: إنه إذا كان ذلك المأمور أشياء كثيرة شاقة على الإنسان، وأنه بان على أصل، يعني: حديث عهد بالإسلام، ولم يعلم أن الصلاة واجبة، وترك الصلاة مدة طويلة، فإن هذا لا يؤمر بقضاء الصلاة وكذلك المسيء في صلاته؛ لأنه كان ليس في المدينة ولا يعلم والصلوات كثيرة.
* * *