الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِيُقْدِم على التهديد بإقامة حدّ من حدود اللَّه، فيه إزهاقُ روحٍ بدون بيّنة من أمره وبدون ضياء من مشكاة النبوة. ولمّا كان الأمر كذلك لم يعارضه أحدٌ لاستناده إلى دليلٍ بخلاف متعة الحج، فإنه لما نهى عنها وقصد أولوية الإِفراد عارضه جمعٌ من الصحابة.
وهذا يدل على صحة ما قُلناه من الإِجماع على تحريمها، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الأخبار، وفيما تقدّمها نهى عنها على المنبر وتوعّد عليها، وغلّظ أمرها، وذكر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حرّمها ونهى عنها وذلك بحضرة المهاجرين والأنصار، فلم يعارضه أحدٌ منهم ولا ردّ عليه قولَه في ذلك، مع ما كانوا عليه من الحرص على إظهار الحق وبيان الواجب وردّ الخطأ.
ألا ترى أن أبي بن كعب رضي الله عنه عارضه في متعة الحج، وقد عارضه مُعاذ بن جبل في رجم الحامل. . . . لأنه لا يجوز لمثلهم المداهنة في الدين ولا السكوت على استماع الخطأ، لا سيما فيما هو راجع إلى الشريعة، وثابت في أحكامها على التأبيد، فلما سكتوا على ذلك ولم ينكره أحدٌ منهم، علم أن ذلك هو الحقّ وأنه ثابتٌ في الشريعة من نسخ المتعة وتحريمها كما ثبت عنده، فصار ذلك كأنّ جميعهم قَرّروا تحريمها وتثّبتوا من نسخها، فكانت حرامًا على التأييد.
الوجه الثاني: عدم إنكار الصحابة عليه وإقرارهم على ذلك دليل على التحريم
قال الجصاص: فَلَمْ يُنْكِرْ هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، لَا سِيَّمَا فِي شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوا إبَاحَتَهُ وَأَخْبَارَهُ بِأَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا بَقَاءَ إبَاحَتِهَا فَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى حَظْرِهَا، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لِأَمْر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِيَانًا، وَقَدْ وَصفَهُمْ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلأَنَّ ذَلِكَ يؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ وَإِلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ إبَاحَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتْعَةِ ثُمَّ قَالَ هِيَ مَحْظُورَةٌ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ لَهَا فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمِلَّةِ (1).
(1) أحكام القرآن (2/ 153).
وإمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا حَظْرَهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ.
فَإِذَا لَمْ يَجُزْ -الوجه الأول- أي: أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا بَقَاءَ إبَاحَتِهَا فَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى حَظْرِهَا- عَلِمْنَا أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا -الوجه الثاني- حَظْرَهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَلذَلِكَ لَمْ يُنْكِرُوهُ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ عُمَرُ مُنْكَرًا وَلَمْ يَكُنْ النَّسْخُ عِنْدَهُمْ ثَابِتًا لمَا جَازَ أَنْ يقروه عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ، وَفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى نَسْخِ الْمُتْعَةِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ حَظْرُ مَا أَبَاحَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ (1).
قال الرازي: ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد، فالحال ههنا لا يخلو إما أن يقال: أنهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا، أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة، أو ما عرفوا إباحتها ولا حرمتها. فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك.
والأول: هو المطلوب.
والثاني: يوجب تكفير عمر وتكفير الصحابة! ؛ لأن من علم أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإباحة المتعة، ثم قال: إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر باللَّه، ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافرًا، وهذا يقتضي تكفير الأمة وهو على ضد قوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آل عمران: 110).
والقسم الثالث: وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا، فهذا أيضًا باطل، لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح، واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل، ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفيًا، بل يجب أن يشتهر العلم به، فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح، وأن إباحته غير منسوخة، وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الإنكار على عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الإسلام.
فإن قيل: ما ذكرتم يبطل بما أنه روي أن عمر قال: لا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته، ولا شك أن الرجم غير جائز، مع أن الصحابة ما أنكروا عليه حين ذكر ذلك، فدل هذا على أنهم كانوا يسكتون عن الإنكار على الباطل.
(1) المصدر السابق.