الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالحكمة في الأمر الأول هو الابتلاء، وهل يتهيأ للامتثال ويظهر الطاعة فيما أمر به أو لا، فالابتلاء والاختبار ليظهر المؤمن فيفوز، والمنافق فيهلك ليميز اللَّه الخبيث من الطيب (1).
التدرج في التشريع وعدم مفاجأة المكلفين
(2):
وهذا التدرج لا شك أن يمهد للمكلفين الحكم دون مشقة أو نفور في النفوس، ويتضح ذلك في التدرج في تحريم الخمر، وكذلك في عقوبة الزنا فكانت في بداية الأمر الإمساك في البيوت، قال تعالى:{فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} .
قال القرطبي: هذه أول عقوبات الزناة، وكان هذا في ابتداء الإسلام (3).
ثم نُسخ ذلك بوجوب جلد غير المحصنين ورجم المحصنين من الزناة. والحِكَم والمصالح في النسخ عديدة وكثيرة، فمصلحة العباد تقتضي ذلك، وأوامر اللَّه ونواهيه مشتملة على الحكم والمصالح، فإذا انتهت الحكمة والمصلحة من الخطاب الأول وصارت في غيره، أمر جل وعلا بترك الأول الذي زالت حكمته، والأخذ بالخطاب الجديد المشتمل على الحكمة الآن (4).
وقيل الحكمة بشارة المؤمنين برفع الخدمة عنهم، وبأن رفع مؤنتها عنهم في الدنيا مؤذن برفعها في الجنة (5).
ثالثًا: آية الرجم مما نسخ تلاوته وبقي حكمه
(6).
(1) مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي (87)، مناهل العرفان 2/ 153.
(2)
مقدمات النسخ د. أسامة عبد العظيم (74).
(3)
تفسير القرطبي 5/ 84.
(4)
معالم أصول الفقه للجيزاني (263) بتصرف.
(5)
إرشاد الفحول (186: 185)، وانظر مزيدًا على ما تقدم في مبحث (النسخ) من هذه الموسوعة.
(6)
قال الآمدي: اتفق العلماء على جواز نسخ التلاوة دون الحكم، بالعكس ونسخهما معًا (الإحكام في أصول الأحكام 3/ 28، وانظر الفقيه والمتفقه 1/ 248:247.
النسخ عند العلماء يقع على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما نُسخ حكمه وتلاوته.
الثاني: ما نُسخ تلاوته دون حكمه.
الثالث: ما نُسخ حكمه وبقيت تلاوته (1).
وآية الرجم مما نُسخ تلاوته وبقي حكمه.
قال ابن قدامة: وقد تظاهرت الأخبار بنسخ آية الرجم، وحكمها باق (2).
قال ابن النجار: فهذا الحكم فيه باق، واللفظ مرتفع لرجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامدية واليهوديين (3).
وقال الكرمي: ما رُفع رسمه من غير بدل وبقي حكمه مجمعًا عليه نحو آية الرجم (4).
وقال الغزالي: فقد تظاهرت الأخبار بنسخ تلاوة آية الرجم مع بقاء حكمها (5).
ثانيًا: الحكمة من نسخ تلاوة آية الرجم وبقاء حكمها.
قال ابن الجوزي: إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي (6).
فآية الرجم المقصود منها إثبات حكمها، لا التعبد بها، ولا تلاوتها، فأنزلت وقرأها الناس، وفهموا منها حكم الرجم، فلما تقرر ذلك في نفوسهم نسخ اللَّه تلاوتها، والتعبد بها، وأبقى حكمها الذي هو المقصود (7).
(1) الفقيه والمتفقه 1/ 245، روضة الناظر 1/ 230.
(2)
روضة الناظر 1/ 232.
(3)
شرح الكوكب المنير 3/ 555.
(4)
الناسخ والمنسوخ للكرمي (25).
(5)
المستصفى للغزالي (99).
(6)
نقلًا من: البرهان في علوم القرآن 2/ 37.
(7)
أضواء البيان 5/ 383.
وقد أجاب الزرقاني أيضًا على الحكمة من ذلك، وذلك بشبهة قد أثيرت فقال: ندفع هذه الشبهة بجوابين:
أحدهما: أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجردًا من الحكمة ولا خاليًا من الفائدة حتى يكون عبثًا، بل فيه فائدة أي فائدة وهي: حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه وذلك سور محكم وسياج منيع يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص لأن الكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ثم حاول أحد تحريفه سرعان ما يعرف وشد ما يقابل بالإنكار وبذلك يبقى الأصل سليما من التغيير والتبديل مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} .
والخلاصة أن حكمة اللَّه قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام نسخ سبحانه هذه الآيات في تلاوتها فقط رجوعًا بالقرآن إلى سيرته من الإجمال وطردًا لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال تيسيرًا لحفظه وضمانًا لصونه واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون.
ثانيهما: أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ فإن عدم العلم بالشيء لا يصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء وإلا فمتى كان الجهل طريقا من طرق العلم ثم إن الشأن في كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم أن يصدر لحكمة أو لفائدة نؤمن بها وإن كنا لا نعلمها على التعيين وكم في الإسلام من أمور تعبدية استأثر اللَّه بعلم حكمتها أو أطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه والمحبوبين لديه وفوق كل ذي علم عليم وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا.