الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن ينزل كتبه مفسره، ويجعل كلام أنبيائه ورسله لا يختلف في تأويله لفعل، ولكنا لم نجد شيئًا من أمور الدين والدنيا وقع إلينا على الكفاية إلا مع طول البحث والتحصيل والنظر، ولو كان الأمر كذلك؛ لسقطت البلوى والمحن وذهب التفاضل والتباين، ولما عرف الحازم من العاجز، ولا الجاهل من العالم، وليس على هذا بنيت الدنيا.
قال المرتد: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن المسيح عبد اللَّه وأن محمدًا لصادق، وأنك أمير المؤمنين (1)، فأقبل المأمون على أصحابه فقال: احفظوا عليه عرضه ولا تبروه في يومه ريثما يعتق إسلامه كيلا يقول عدوه أسلم رغبة، ولا تنسوا بعد نصيبكم من بره وتأنيسه ونصرته، والعائدة عليه (2).
فتأمل هذا الحوار الرائع، من رغبة الخليفة وحبه في بقائه حيًا، ولم يكن متعطشًا لسفك الدماء كما يدعي القوم، إنه حوار إنساني عظيم يدرس في معاقل حقوق الإنسان التي تخالف اسمها حوار فيه إظهار الحق وعدم التعطش للدماء، فيا له من دين ذي سماحة عظيمة ورحمة فائقة.
7 - الحكمة من قتل المرتد:
إن حفظ الدين والعقيدة من عبث العابثين هو مقصد لكل تشريع ولكل دين من الأديان لذلك كان قتل المرتد لحفظ هذا الدين ولأنه ترك الحق بعد معرفته، واعتدى على العقيدة التي هي أقوى أسباب الأمن (3).
وتعاقب الشريعة على الردة بالقتل، لأنها تقع ضد الدين الإِسلامي، وعليه يقوم النظام الاجتماعي للجماعة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام، ومن ثم عوقب عليها بأشد العقوبات استئصالًا للمجرم من المجتمع، وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية،
(1) العقد الفريد (2/ 197، 98)، البيان والتبيين (3/ 186، 187).
(2)
البيان والتبيين (المصدر السابق) بتصرف يسير.
(3)
مجلة البحوث الإِسلامية عدد (21/ 106) بتصرف.
ومنعًا للجريمة وزجرًا عنها من ناحية أخرى، ولا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن الجريمة، ومهما كانت العوامل الدافعة إلى الجريمة، فإن عقوبة القتل تولد غالبًا في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها، ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال، وأكثر الدول اليوم تحمي نظامها الاجتماعي بأشد العقوبات التي تفرضها على من يخرج على هذا النظام أو يحاول هدمه أو إضعافه، وأول العقوبات التي تفرضها القوانين الوضعية لحماية النظام الاجتماعي، وهي عقوبة الإعدام أي: القتل، فالقوانين الوضعية اليوم تعاقب على الإخلال بالنظام الاجتماعي بنفس العقوبة التي وضعتها الشريعة لحماية النظام الاجتماعي الإِسلامي. (1)
ولعلك تفكر في مسألة أن الإنسان إذا اتبع الحق، ودخل فيه واعتنق هذا الدين الوحيد الصحيح الذي أوجبه اللَّه، ثم نجيز له أن يتركه بكل سهولة في أي وقت يشاء، وينطق بعبارة الكفر التي تخرج منه؛ فيكفر باللَّه ورسوله وكتابه ودينه؛ ثم لا تحدث العقوبة الرادعة له؟ ! كيف سيكون تأثير ذلك عليه وعلى الداخلين الآخرين في الدين؟ ألا ترى أن ذلك يجعل الدين الصحيح الواجب اتباعه كأنه محل أو دكان يدخل فيه الشخص متى يشاء ويخرج متى يشاء؟ ! وربما يشجع غيره على ترك الحق، ثم هذا ليس شخصًا لم يعرف الحق، ولم يمارس ويتعبد، وإنما شخص عرف ومارس وأدى شعائر العبادة، فليست العقوبة أكبر مما يستحق، وإنما مثل هذا الحكم القوي لم يوضع إلا لشخص لم تعد لحياته فائدة، لأنه عرف الحق واتبع الدين، ثم تركه وتخلى عنه، فأي نفس أسوأ من نفس هذا الشخص؟ . (2)
وحد الردة يغلق بابًا خطرًا في وجه من يريدون إفساد الإِسلام من داخله أو التجسس عليه، وقد عانى الإِسلام كثيرًا ممن تبطنوا الكفر والتحقوا بالإِسلام، وإذا سلم بحق المجتمع في قتل البغاة والمحاربين، وهم لم يعلنوا كفرًا ولا ردة، فحق المجتمع في قتل من فارق دينه
(1) التشريع الجنائي الإِسلامي 1 (661، 662) عبد القادر عودة.
(2)
موقع الإِسلام سؤال وجواب، فتوى رقم (20327).
وترك جماعته متبرئًا منها معلنًا عداوته لها أظهر وأحق، ولا يجوز قياس الردة عن الإِسلام خاصة بترك العقيدة أو تغييرها من شخص ينتمي للدين أو مجتمع غير دين الإِسلام ومجتمعه.
فمجتمعات العالم اليوم إما مجتمعات ملحدة رسميًا وواقعًا، وإما مجتمعات ملحدة واقعًا، وإن ظلت ترفع شعار دين من الأديان كشكل رسمي، وفي هذه الأخيرة ينظر إلى قضية الدين على أنها مسألة شخصية تمامًا، وهو موقف متفرع على موقف آخر يعتبر أصلًا، وهو الفصل بين الدين والدولة في تلك المجتمعات، ففي الإِسلام لا فرق بين رفض نظام الدولة والخروج عليه وتحديه، وبين الردة عن الإِسلام لأن نظام الدولة في مجتمع الإِسلام جزء من الإِسلام، أو هو التطبيق الزمني للإسلام في ذلك المجتمع، ورفض الإِسلام بالردة يعني ضمنًا رفض النظام المنبثق منه، لأن الإِسلام لا يفصل بين الدين والدولة، ومسألة الإيمان بالدين ليست مسألة شخصية في الإِسلام، وإنما هي مسألة فردية اجتماعية في آن واحد، ومن هنا لا يجوز السماح بالخيانة الوطنية، وهي أعظم جريمة في منطق قوانين الأرض قاطبة. (1)
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان:
أما سبب عقوبة المرتد وجعلها القتل، فيرجع إلى أمرين خطيرين:
الأول: أن المسلم بردته أخل بالتزامه؛ لأن المسلم بإسلامه يكون قد التزم أحكام الإِسلام وعقيدته، فإذا ارتد كان ذلك منه إخلالًا خطيرًا في أصل التزامه، ومن يخل بالتزامه عمدًا يعاقب، وقد تبلغ عقوبته الإعدام، ألا يرى أن من تعاقد مع الدولة لتوريد الطعام لأفراد الجيش ثم أخل بالتزامه عمدًا في حالة احتياج الجيش للأرزاق؛ أن جزاءه قد يصل إلى الإعدام! .
الثاني: أن المرتد مع إخلاله بالتزامه يقوم بجريمة أخرى هي الاستهزاء بدين الدولة، والاستخفاف بعقيدة سكانها المسلمين، وتجريء لغيره من المنافقين ليظهروا نفاقهم،
(1) بحوث في علوم التفسير (459، 460) محمد حسين الذهبي.
وتشكيك لضعاف العقيدة في عقيدتهم، وهذه كلها جرائم خطيرة يستحق معها المرتد استئصال روحه، وتخليص الناس من شره، وإنما قلنا: إن المرتد من يرتكب هذه الأمور لأنه لا يعرف ارتداده إلا بالتصريح، وإلا لو أخفى ردته لما عُرف (1).
إن الارتداد ثم الإصرار عليه بعد كشف الشبهة التي يدعي أنها كانت سببًا فيه، وبعد إزالة كل الأسباب الداعية إليه لما يشكك في صدق إسلام هذا المرتد، ويجعل الظن بنفاقه ومحاولته الكيد للإسلام بالتشكيك فيه أمرًا مقبولًا ومعقولًا، وتصبح الردة هنا رفعًا كاملًا لقناع النفاق يضع صاحبه في وضع أشد على الإِسلام باعتبار نتائجه من وضع المحاربين وأهل البغي، وقد قص علينا القرآن الكريم من مواقف أهل الكتاب ما يؤكد هذه المعاني، يقول تعالى:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران: 72). (2)
فالرجوع عن الإيمان إلى الكفر يشبه الآفة التي تصيب المخ والقلب فتودي بالحياة، فكذلك الذي يقع في ظلمات الكفر بعد أن هدى إلى نور الإيمان تفسد روحه، ويسقم قلبه، فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة؛ فإذا كان مريض القلب والعقل يقضى عليه مرضه بالموت، فكذلك الارتداد عن الإِسلام، فساد في العقل، وفساد في الوجدّان، وفساد في السلوك يستلزم بتر هذا العضو ليسلم سائر المجتمع.
إن حطة الأفكار أشد خطرًا على الأمة من فاتك المرض، إن سلامة الفكر واستقامة القلب هما الروح القوي الذي يحفظ على الأمة؛ آية أمة كيانها وبقاءها (3).
فالإِسلام مبني على العقل والمنطق، وقائم على الدليل والبرهان، وليس في عقيدته ولا شريعته ما يصادم فطرة الإنسان أو يقف حائلًا دون الوصول إلى كماله المادي والأدبي،
(1) أصول الدعوة (297).
(2)
بحوث في علوم القرآن (459).
(3)
الرد الجميل على المشككين في الإِسلام (104) عبد المجيد صبح.