الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما لا يريبه، فلما أخبره بأن نفسه تتبعها وأنه لا صبر له عنها رأى مصلحة إمساكها أرجح من مفارقتها لما يكره من عدم انقباضها عمن يلمسها، فأمره بإمساكها، وهذا لعله أرجح المسالك، واللَّه أعلم.
وباختصارٍ بليغٍ يبين أنه لا تعارض بين الآية والحديث فيقول: ولا يعارض ذلك حديث ابن عباسٍ قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامسٍ قال: "غربها"، قال: أخاف أن تتبعها نفسي، قال:"فاستمتع بها".
وقال: فإنه في الاستمرار على نكاح الزوجة الزانية، والآية في ابتداء النكاح فيجوز للرجل أن يستمر على نكاح من زنت وهي تحته، ويحرم عليه أن يتزوج بالزانية. (1)
وذكر الصنعاني المسألة باختصارٍ وأن الاختلاف فيها على قولين:
الأول: أن معناه الفجور؛ وأنها لا تمنع من يريد منها الفاحشة. وهذا قول أبي عبيد، والخلال، والنسائي، وابن الأعرابي، والخطابي، واستدل به الرافعي على أنه لا يجب تطليق من فسقت بالزنا إذا كان الرجل لا يقدر على مفارقتها.
والثاني: أنها تبذر بمال زوجها، ولا تمنع أحدًا طلب منها شيئًا منه، وهذا قول أحمد والأصمعي ونقله عن علماء الإسلام، وأنكر ابن الجوزي على من ذهب إلى الأول. قال في النهاية: وهو أشبه بالحديث؛ لأن المعنى الأول يشكل على ظاهر قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، وإن كان في معنى الآية وجوهٌ كثيرةٌ:
قلت: الوجه الأول في غاية من البعد، بل لا يصح للآية، ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر الرجل أن يكون ديوثًا فحمله على هذا لا يصح.
والثاني: بعيدٌ؛ لأن التبذير إن كان بمالها فمنعها ممكن، وإن كان من مال الزوج فكذلك ولا يوجب أمره بطلاقها على أنه لم يتعارف في اللغة أن يقال: فلان لا يرد يد لامس كناية عن الجود.
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 348)، وزاد المعاد (5/ 104). على قول من قال: إن المرأة كانت لا ترد من أراد الفاحشة منها، وقد رجح ابن القيم خلافه.
فالأقرب المراد: أنها سهلة الأخلاق ليس فيها نفور وحشمة عن الأجانب لا أنها تأتي الفاحشة، وكثير من النساء والرجال بهذه المثابة مع البعد من الفاحشة، ولو أراد به أنها لا تمنع نفسها عن الوقاع من الأجانب لكان قاذفًا لها. (1)
وفي تعليق السندي على هذا الحديث ذاكرًا اختلاف العلماء في حكم النهي عن نكاح الزانية (وقد رجح كونه مكروهًا) قائلًا: قِيلَ: هُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، أَوْ هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وَعَلَيْهِ الجُمْهُور، وَقِيلَ: حَرَامٌ كَمَا هُوَ ظاهِرُ قَوْله: (وَهِيَ لَا تَمْنَع يَد لَامِسٍ) أَيْ: أَنَّهَا مُطَاوِعَةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْفُجُورِ.
وَقِيل: بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ بَذْلِها الطَّعَامَ، قِيلَ: وَهُوَ الْأَشْبَه، وَقَالَ أَحْمَد: لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَهُ بِإِمْسَاكِهَا وَهِيَ تَفْجُر، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ المُرَادُ السَّخَاءَ لَقِيلَ: لَا تَرُدُّ يَدَ مُلْتَمِسٍ؛ إِذْ السَّائِل يُقَال لَهُ المُلْتَمِس لَا لَامِس، وَأَمَّا اللَّمْس فَهُوَ الْجِمَاعُ أَوْ بَعْضُ مُقَدَّمَاتِهِ، وَأَيْضًا السَّخَاء مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فَلَا تَكُون المَرْأَةُ مُعَاقَبَةً لِأَجْلِهِ مُسْتَحِقَّةً لِلْفِرَاقِ فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تُعْطِيَ من مَالِها أَوْ من مَالِ الزَّوْجِ، وَعَلَى الثَّانِي عَلَى الزَّوْج صَوْنُه وَحِفْظُه. وَعَدَمُ تَمْكِينهَا مِنْهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْأَمْرُ بِتَطْلِيقِهَا، وَقِيلَ: المُرَادُ أَنَّهَا تَتَلَذَّذُ بِمَنْ يَلْمِسهَا فَلَا تَرُدُّ يَده وَلَمْ يُرِدْ الْفَاحِشَةَ الْعُظْمَى، وَإِلَّا لَكَانَ بِذَلِكَ قَاذِفًا -وهو الراجح-، وَقِيلَ: الْأَقْرَبُ أَنَّ الزَّوْج عَلِمَ مِنْهَا أَنَّ أَحَدًا لَوْ أَرَادَ مِنْهَا السُّوء لمَا كَانَتْ هِيَ تَرُدّهُ لَا أَنَّهُ تَحَقَّقَ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهَا بَلْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ بِقَرَائِن فَأَرْشَدَهُ الشَّارِع إِلَى مُفَارَقَتهَا إِحْتِيَاطًا فَلَمَّا عَلِمَ أنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِرَاقهَا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا وَأنَّهُ لَا يَصْبِر عَلَى ذَلِكَ رَخَّصَ لَهُ فِي إِثْبَاتهَا لِأَنَّ مَحَبَتَه لَهَا مُحَقَّقَةٌ وَوُقُوعَ الْفَاحِشَة مِنْهَا مُتَوَهَّمٌ.
"اسْتَمْتِعْ بِهَا" أَيْ: كُنْ مَعَهَا قَدْرَ مَا تَقْضِي حَاجَتَك، ثُمَّ لَا دَلَالَة فِي الْحَدِيث عَلَى جَوَاز نِكَاح الزَّانِيَة إِبْتِدَاءً ضَرُورَة أَنَّ الْبَقَاء أَسْهَل مِنَ الِابْتِدَاء عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُحْتَمِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ. (2)
(1) سبل السلام (3/ 195)، وانظر للشوكاني (نيل الأوطار 6/ 201)، وفتح القدير (5/ 184) والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (1/ 377).
(2)
حاشية السندي على النسائي (6/ 67 - 68)، وانظر شرح السنة للبغوي (9/ 288)، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للقاري (10/ 296).