الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويحاربونه بكل ما أوتوا كما هو تاريخهم، وعليه فلا يستقيم الأمر إلا بإسلامهم أو بدفعهم الجزية، وهم صاغرون لا حكم لهم في الديار، ولذلك أمر سبحانه وتعالى بقتالهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد، وهم صاغرون: فقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} (التوبة: 29).
وقد حدد السياق من هذه الصفات القائمة:
أولًا: أنهم لا يؤمنون باللَّه ولا باليوم الآخر.
ثانيًا: أنهم لا يحرمون ما حرم اللَّه ورسوله.
ثالثًا: أنهم لا يدينون دين الحق.
ثم بين في الآيات التالية كيف أنهم لا يؤمنون باللَّه، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم اللَّه ورسوله ولا يدينون دين الحق؛ وذلك بأنهم:
أولًا: قالت اليهود عزير ابن اللَّه، وقالت النصارى المسيح ابن اللَّه، وأن هذا القول يضاهي قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين، فهم مثلهم في هذا الاعتقاد الذي لا يعد صاحبه مؤمنًا باللَّه ولا باليوم الآخر.
ثانيًا: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللَّه، والمسيح ابن مريم، وأن هذا مخالف لدين الحق، وهو الدينونة للَّه وحده بلا شركاء، فهم بهذا مشركون لا يدينون دين الحق.
ثالثًا: يريدون أن يطفئوا نور اللَّه بأفواههم، فهم محاربون لدين اللَّه، ولا يحارب دين اللَّه مؤمن باللَّه واليوم الآخر يدين دين الحق أبدًا.
رابعًا: يأكل كثير من أحبارهم ورهبانهم أموال الناس بالباطل، فهم إذن لا يحرمون ما حرم اللَّه، ورسوله (سواء كان المقصود برسوله رسولهم أو محمد صلى الله عليه وسلم).
وهذه الصفات كلها كانت واقعة بالقياس إلى نصارى الشام والروم، كما أنها واقعة بالقياس إلى غيرهم منذ أن حرفت المجامع المقدسة دين المسيح عليه السلام، وقالت ببنوة
عيسى عليه السلام، وبتثليث الأقانيم -على كل ما بين المذاهب والفِرق من خلاف يلتقي كله على التثليث- على مدار التاريخ حتى الآن.
وإذن فهو أمر عام يقرر قاعدة مطلقة في التعامل مع أهل الكتاب، الذين تنطبق عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم، ولا يمنع من هذا العموم أن الأوامر النبوية استثنت أفرادًا وطوائف بأعيانها لتترك بلا قتال كالأطفال، والنساء، والشيوخ، والعجزة، والرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الأديرة بوصفهم غير محاربين -فقد منع الإسلام أن يقاتل غير المحاربين من أية ملة-، وهؤلاء لم تستثنهم الأوامر النبوية لأنهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على المسلمين، ولكن لأنه ليس من شأنهم أصلًا أن يقع منهم الاعتداء، فلا محل لتقييد هذا الأمر العام بأن المقصود به هم الذين وقع منهم اعتداء فعلًا -كما يقول المهزومون الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام الاتهام- فالاعتداء قائم ابتداءً؛ الاعتداء على ألوهية اللَّه، والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير اللَّه، والإسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية اللَّه سبحانه، والدفاع عن كرامة الإنسان في الأرض، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة، والحرب، والعداء، ولا مفر من مواجهة طبائع الأشياء.
إن هذه الآية تأمر المسلمين بقتال أهل الكتاب {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} والذي يقول ببنوة عزير للَّه، أو بنوة المسيح للَّه لا يمكن أن يقال عنه: إنه يؤمن باللَّه، وكذلك الذي يقول: إن اللَّه هو المسيح ابن مريم، أو أن اللَّه ثالث ثلاثة، أو أن اللَّه تجسد في المسيح. . . إلى آخر التصورات الكنسية التي صاغتها المجامع المقدسة على كل ما بينها من خلاف.
والذين يقولون: إنهم لن يدخلوا النار إلا أيامًا معدودات مهما ارتكبوا من آثام بسبب أنهم أبناء اللَّه وأحباؤه وشعب اللَّه المختار، والذين يقولون: إن كل معصية تغفر بالاتحاد بالمسيح، وتناول العشاء المقدس، وأنه لا مغفرة إلا عن هذا الطريق، هؤلاء وهؤلاء لا يقال: إنهم يؤمنون باليوم الآخر.
وهذه الآية تصف أهل الكتاب هؤلاء بأنهم {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، وسواء كان المقصود بكلمة {رَسُولُهُ} هو رسولهم الذي أرسل إليهم، أو هو النبي صلى الله عليه وسلم فالفحوى واحدة، ذلك أن الآيات التالية فسرت هذا بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، وأكل أموال الناس بالباطل محرم في كل رسالة، وعلى يد كل رسول، وأقرب النماذج لأكل أموال الناس بالباطل هو المعاملات الربوية، وهو ما يأخذه رجال الكنيسة مقابل (صك الغفران)؛ وهو الصد عن دين اللَّه، والوقوف في وجهه بالقوة، وفتنة المؤمنين عن دينهم، وهو تعبيد العباد لغير اللَّه، وإخضاعهم لأحكام وشرائع لم ينزلها اللَّه؛ فهذا كله ينطبق عليه:{وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، وهذا كله قائم في أهل الكتاب كما كان قائمًا يوم ذاك.
كذلك تصفهم الآية بأنهم {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} وهذا واضح مما سبق بيانه. فليس بدين الحق أي اعتقاد بربوبية أحد مع اللَّه، كما أنه ليس بدين الحق التعامل بشريعة غير شريعة اللَّه، وتلقي الأحكام من غير اللَّه، والدينونة لسلطان غير سلطان اللَّه، وهذا كله قائم في أهل الكتاب كما كان قائمًا فيهم يوم ذاك.
والشرط الذي يشترطه النص للكف عن قتالهم ليس أن يسلموا {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ولكن أن يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فما حكمة هذا الشرط؟ ولماذا كانت هذه هي الغاية التي ينتهي عندها القتال؟
إن أهل الكتاب بصفاتهم تلك حرب على دين اللَّه اعتقادًا وسلوكًا، كما أنهم حرب على المجتمع المسلم بحكم طبيعة التعارض والتصادم الذاتيين بين منهج اللَّه، ومنهج الجاهلية الممثلة في عقيدة أهل الكتاب وواقعهم -وفق ما تصوره هذه الآيات- كما أن الواقع التاريخي قد أثبت حقيقة التعارض وطبيعة التصادم وعدم إمكان التعايش بين المنهجين؛ وذلك بوقوف أهل الكتاب في وجه دين اللَّه فعلًا، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله بلا هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية (وخلال الفترة اللاحقة لها إلى اليوم أيضًا).