الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية: أن عليًا قال بعد ما جلد أربعين: جَلَدَ النبي صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ. (1)
قال النووي: وَأَمَّا الْخَمْر فَقَدْ أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيم شُرْب الْخَمْر، وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوب الْحَدّ عَلَى شَارِبهَا، سَوَاء شَرِبَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. (2)
الوجه الخامس: أجمعت الأمة على تحريم الخمر
.
قال ابن المنذر: وأجمعوا على تحريم الخمر. (3)
قال ابن قدامة: الخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع. (4)
قال النووي: وأما الخمر فقد أجمع المسلمون على تحريم شرب الخمر. (5)
قال ابن العربي: لا خلاف بين الأمة أن الخمر حرام بتحريم اللَّه ورسوله وسؤال أخيار الصحابة في ذلك ورغبتهم فيه. (6)
الوجه السادس: الخمر حُرم تدريجيًا فلا تعارض بين الآيات
.
عن أبي ميسرة قال: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ عُمَرُ: اللهمَّ بَيِّنْ لَنَا في الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً فَنَزلَتِ الآيةُ التي في الْبقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} الآيَةَ، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: اللهمَّ بَيِّنْ لَنَا في الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً فنزلَتِ الآيةُ التي في النِّسَاءِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ، فَكَانَ مُنَادِى رَسُولِ اللَّه
(1) أخرجه مسلم (1707).
(2)
النووي على شرط مسلم (6/ 233).
(3)
الإجماع لابن المنذر (111).
(4)
المغني لابن قدامة (10/ 325).
(5)
شرح مسلم للنووي (6/ 233).
(6)
عارضة الأحوذي (8/ 50).
-صلى الله عليه وسلم إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةَ يُنَادِى أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللهمَّ بَيِّنْ لَنَا في الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ) قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا. (1)
قال الرازي: قال القفال رحمه الله: والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن اللَّه تعالى علم أن القوم قد كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيرًا، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج، وهذا الرفق (2).
قال الصابوني: في تحريم الخمر بهذا الترتيب حكمة بليغة وذلك أن القوم ألفوا شرب الخمر وأصبحت جزءًا من حياتهم، فلو حُرمت عليهم دفعة واحدة لشق ذلك على نفوسهم وربما لم يستجيبوا لذلك النهي، وذلك من الخطة الحكيمة التي انتهجها الإِسلام في معالجة الأمراض الاجتماعية، فقد سلك بالناس طريق (التدرج في تشريع الأحكام): فبدأ بالتنفير منه بطريق غير مباشر كما في الآية الأولى، ثم بالتنفير المباشر عن طريق المقارنة بين شيئين شيء فيه نفع ضئيل وشيء فيه ضرر وخطر جسيم كما في الآية الثانية، ثم بالتحريم الكلي في جميع الأوقات كما في الآية الرابعة، فلله ما أدق هذا التشريع وما أحكمه! (3)
قال صاحب الظلال في الحكمة من التدرج في تحريم الخمر وما وصل إليه الإِسلام وما وصل إليه الغرب الكافر: كانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصيلة الشاملة وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع، فالروايات الكثيرة تدلل تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي.
(1) صحيح. أخرجه الترمذي (3049)، أبو داود في السنن (3670)، والطبري في التفسير (2/ 369)، والحاكم في المستدرك (4/ 143) كلهم من طرق عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل، عن عمر بن الخطاب به.
(2)
تفسير الرازي (6/ 40).
(3)
روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للصابوني (2/ 273).
فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبدًا؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصيلة قديمة، تتعلق بها تقاليد اجتماعية، كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟
لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن، وعلى مراحل، وفي رفق وتؤدة، وكسب المعركة دونَ حربٍ، ودون تضحيات، ودون إراقة دماء، والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين -حين سمعوا آية التحريم- فمجوها من أفواهم.
في مكة -حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان. . إلا سلطان القرآن- وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإِسلام للخمر. تُدْرَكُ من ثنايا العبارة. وهي مجرد إشارة. جاء في سورة النحل: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} ـ (النحل: 67).
فوضع "السكر" وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب في مقابل الرزق الحسن؛ مُلَمِّحًا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء. والرزق "الحسن" شيء آخر، وكانت مجرد لمسة من بعيد للضمير المسلم الوليد!
ولكن عادة الشراب، أو تقليد الشراب -بمعنى أدق- فقد كان أعمق من عادة فردية، كان تقليدًا اجتماعيًا له جذور اقتصادية، كان أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان، لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان، إنما كان أولًا سلطان القرآن. وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية.
بدأ بآية البقرة ردًا على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة: 219).
وكانت هذه هي المطرقة الأولى، ذات الصوت المسموع. . في الحس الإِسلامي، وفي الضمير الإِسلامي وفي المنطق الفقهي الإِسلامي، فمدار الحل والحرمة. . أو الكراهية. . على رجحان الإثم أو رجحان الخير، في أمر من الأمور، وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما. . فهذا مفرق الطريق. .
ولكن الأمر كان أعمق من هذا. . وقال عمر رضي الله عنه: اللهم بين لنا بيانًا شافيًا في الخمر. . عمر! ! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي.
ثم حدثت أحداث -كالتي رويناها- ونزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء: 43)، وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل. . لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة، بين التنفير من الخمر؛ لأن إثمها أكبر من نفعها وبين التحريم البات؛ لأنها رجس من عمل الشيطان. وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة: هي "قطع عادة الشراب" أو "كسر الإدمان"، وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة. وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار، وبينها فترات لا تكفي للشراب -الذي يرضي المدمنين- ثم الإفاقة من السكر الغليظ حتى يعلموا ما يقولون فضلًا على أن للشراب كذلك أوقاتًا ومواعيد خاصة من الصبوح والغبودق. . صباحًا ومساء. . وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة، وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب. .، وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة.
ومع ذلك. . فقد قال عمر رضي الله عنه وهو عمر! - اللهم بين لنا بيانًا شافيًا في الخمر. . ثم مضى الزمن. ووقعت الأحداث. وجاء الوعد المناسب -وفق ترتيب المنهج- للضربة الحاسمة فنزلت الآيتان في المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} (المائدة: 90 - 91).
وانتهى المسلمون كافة. وأريقت زقاق الخمر، وكسرت دنانها في كل مكان. . بمجرد سماع الأمر.
لقد انتصر القرآن. وأفلح المنهج. وفرض سلطانه - دون أن يستخدم السلطان! ! !
ولكن كيف كان هذا؟ كيف تمت هذه المعجزة، التي لا نظير لها في تاريخ البشر؛ ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان.
لقد تمت المعجزة؛ لأن المنهج الرباني أخذ النفس الإنسانية بطريقته الخاصة، أخذها بسلطان اللَّه وخشيته ومراقبته.
لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغًا تملؤه بنشوة الخمر، وخيالات السكر، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء. . في الهواء. .
ملأ فراغها باهتمامات. منها: نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها، من تيه الجاهلية الأجرد، وهجيرها المتلظي، وظلامها الدامس، وعبوديتها المذلة، وضيقها الخانق، إلى رياض الإِسلام البديعة، وظلاله الندية، ونوره الوضيء، وحريته الكريمة، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة!
وملأ فراغها -وهذا هو الأهم- بالإيمان بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج، فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء. . وتعيش بقرب اللَّه ونوره وجلاله. . وتذوق طعم هذا القرب، فتمج طعم الخمر ونشوتها، وترفض خمارها وصداعها. إن هذه كلها ليست إلا تعبيرًا عن الخواء الروحي. . من الإيمان أولًا. . ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانيًا. .، وليست إلا إعلانًا عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية. .، ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا. وإلى المرض النفسي والعصبي. . وإلى الشذوذ وغير ذلك.