الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث [*] الثاني: الرد على الشبهات
الشبهة الأولى: حد الزنا في الإسلام
.
نص الشبهة:
والسؤال: هل إيقاع هذه العقوبة علنًا يصلح المخطئ ويطهر قلبه، ونسأل أيضًا: أليس الأجدر أن يعالج أمثال هؤلاء المذنبين بروح الوداعة والشفقة، والمسيحية لا تأمر بجلد المخطئ، بل بمفرده من الجماعة تخجيلًا له، ثم قبوله والترحيب به إذا ندم وأعلن توبته.
والرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
.
الوجه الثاني: في العلة من نهي العباد من أن تأخذهم رأفة بالزناة.
الوجه الثالث: العلة من قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وفيه:
أولًا: في بيان كم هذه الطائفة التي تشهد الحد.
ثانيًا: في بيان العلة من حضور الطائفة.
الوجه الرابع: الحد ثابت في الكتاب المقدس.
وإليك التفصيل
الوجه الأول: في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
قال الطبري: أي: لا تأخذكم بالزاني والزانية أيها المؤمنون من أخذ الرأفة بهما، فقال بعضهم: هو ترك إقامة حدّ اللَّه عليهما، فأما إذا أقيم عليهما الحد فلم تأخذهم بهما رأفة في
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع، وقد سبقه:«المسألة» الأولي
دين اللَّه، وقال آخرون: بل معنى ذلك: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} فتخفِّفوا الضرب عنهما، ولكن أوجعوهما ضربًا (1).
ثم قال: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا تأخذكم بهما رأفة في إقامة حدّ اللَّه عليهما الذي افترض عليكم إقامته عليهما.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب، لدلالة قول اللَّه بعده:"في دين اللَّه"، يعني في طاعة اللَّه التي أمركم بها. ومعلوم أن دين اللَّه الذي أمر به في الزانيين: إقامة الحد عليهما، على ما أمر من جلد كل واحد منهما مئة جلدة، مع أن الشدّة في الضرب لا حدّ لها يوقف عليه، وكل ضرب أوجع فهو شديد، وليس للذي يوجع في الشدة حدّ لا زيادة فيه فيؤمر به. وغير جائز وصفه جلّ ثناؤه بأنه أمر بما لا سبيل للمأمور به إلى معرفته، وإذا كان ذلك كذلك، فالذي للمأمورين إلى معرفته السبيل، هو عدد الجلد على ما أمر به، وذلك هو إقامة الحد على ما قلنا. وللعرب في الرأفة لغتان: الرأفة بتسكين الهمزة، والرآفة بمدها، كالسأمة والسآمة، والكأبة والكآبة. وكأن الرأفة المرّة الواحدة، والرآفة المصدر، كما قيل: ضؤل ضآلة مثل فعل فعالة، وقبح قباحة (2).
(1) الطبري 10/ 68: 66، ومعنى (في دين اللَّه) أيضًا: أي في حكم اللَّه وطاعته كما قال تعالى (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) أي في حكمه، وقيل: أي في طاعة اللَّه وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود، راجع: تفسير القرطبي لسورة النور (2)، فتح القدير للشوكاني النور (2).
(2)
ورجح هذا القول الرازي وعلق بقوله: لأن الذي تقدم ذكره الأمر بنفس الجلد، ولم يذكر صفته، فما يعقبه يجب أن يكون راجعًا إليه وكفى برسول اللَّه أسوة في ذلك حيث قال:"لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" ونبه بقوله في دين اللَّه على أن الدين إذا أوجب أمرًا لم يصح استعمال الرأفة في خلافه. وقال القرطبي: هذا قول جماعة أهل التفسير.
وقال ابن كثير: وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية [ألا تكون حاصلة] على ترك الحد، [وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد] فلا يجوز ذلك.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} يقول: إن كنتم تصدّقون باللَّه ربكم وباليوم الآخر، وأنكم فيه مبعوثون لحشر القيامة، وللثواب والعقاب، فإن من كان بذلك مصدّقا، فإنه لا يخالف اللَّه في أمره ونهيه؛ خوف عقابه على معاصيه. وقوله:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يقول تعالى ذكره: وليحضر جلد الزانيين البكرين وحدّهما إذا أقيم عليهما طائفة من المؤمنين. والعرب تسمي الواحد فما زاد: طائفة. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يقول: من أهل الإيمان باللَّه ورسوله (1).
وقال ابن كثير: وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: فافعلوا ذلك: أقيموا الحدود على من زنى، وشددوا عليه الضرب، ولكن ليس مبرِّحًا؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك. وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال: يا رسول اللَّه، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال:"ولك في ذلك أجر".
وقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جُلِدا بحضرة الناس، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإن في ذلك تقريعًا وتوبيخًا وفضيحة إذا كان الناس حضورًا (2).
وقال السعدي: ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة (بهما) في دين اللَّه، تمنعنا من إقامة الحد عليهم، سواء رأفة طبيعية، أو لأجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك، وأن الإيمان موجب لانتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر اللَّه، فرحمته حقيقة، بإقامة حد اللَّه عليه، فنحن وإن رحمناه لجريان القدر عليه، فلا نرحمه من هذا الجانب، وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين طائفة، أي: جماعة من المؤمنين، ليثتهر ويحصل بذلك الخزي والارتداع، وليشاهدوا الحد
(1) تفسير الطبري 9/ 256.
(2)
تفسير ابن كثير 3/ 348.