الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صغار، وعقوبة وذلك بالجزية التي تؤخذ منه؛ ليكون ذلك دليلًا على ذل الكافر وعز المؤمن، ثم يأخذ المسلمون الجزية منه خلفًا عن النصرة التي فاتت بإصراره على الكفر؛ لأن من هو من أهل دار الإسلام فعليه القيام بنصرة الدار، وأبدانهم لا تصلح لهذه النصرة؛ لأنهم يميلون إلى أهل الدار المعادية فيشوشون علينا أهل الحرب فيؤخذ منهم المال ليصرف إلى الغزاة الذين يقومون بنصرة الدار. (1)
وقد أحسن محمد علي بن حسين المكي المالكي في تقرير هذا الفرق حيث قال:
الفرق بين قاعدة: إن أخذ الجزية على التمادي على الكفر يجوز، وبين قاعدة: إن أخذ الأعواض على التمادي على الزنا وغيره من المفاسد لا يجوز إجماعًا
.
وهو: أن قاعدة أخذ المال على مداومة الزنا أو غيره من المفاسد مفسدة صرفة؛ لأنه من باب ترجيح المصلحة الحقيرة التي هي أخذ الدراهم على المفسدة العظيمة التي هي معصية اللَّه تعالى، وهو لم يقع في الشريعة بل الشريعة تحرمه ولا تبيحه، وإنما الذي من الشرائع الواقعة وتبيحه القواعد الشرعية هو عكس ذلك، وهو ترجيح المصلحة العظيمة التي هي إزالة منكر من المنكرات العظيمة على المفسدة الحقيرة التي هي دفع الدراهم لمن يأكلها حرامًا كما في دفع المال في فداء الأسرى الكفار؛ وهم من حيث كونهم مخاطبين بفروع الشريعة يحرم عليهم أكل ذلك المال ليتوصل بذلك المحرم لتخليص الأسير من أيدي العدو.
ومن ذلك أخذ الجزية فهو مصلحة صرفة لأنه من باب التزام المفسدة الدنيا التي هي الإقرار على الكفر بأخذها لدفع المفسدة العليا التي هي انسداد باب الإيمان، وباب مقام سعادة الجنان على الكافر إذا قتل ليتحتم الكفر عليه والخلود في النيران، وغضب الديان حينئذ، ولتوقع المصلحة العليا التي هي:
(1) المبسوط للسرخسي (12/ 158) بتصرف.
إما رجاء الإسلام في مستقبل الأزمان من المقر على الكفر بأخذ الجزية منه سيما مع اطلاعه على محاسن الإسلام والإلجاء إليه بالذل والصغار في أخذ الجزية فيلزم من إسلامه إسلام ذريته فتتصل سلسلة الإسلام من قبله بدلًا عن ذلك الكفر المقر عليه.
وإما رجاء إسلام ذريته المخلفين من بعده أو من ذرية ذريته إلى يوم القيامة، وساعة من إيمان تعدل دهرًا من كفر، ألا ترى أن اللَّه تعالى خلق آدم على وفق الحكمة وعدَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خلقه في يوم الجمعة من جملة البركات الموجبة لتعظيمه، فقال في الحديث الصحيح:"خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أهبط من الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة"(1)؛ لأن خلقه سبب وجود الأنبياء عليهم السلام، والصالحين، وأهل الطاعة، والمؤمنين، وإن كان أكثر ذريته كفارًا؛ ففي الحديث الصحيح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه تعالى يقول لآدم عليه السلام: ابعث بعث النار، فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فيبقى من كل ألف واحد"(2)، والبقية كفار فُجّار من أهل النار والمعاصي والفجور، إذ لا عبرة بكثرة الكفار لأجل ذلك المسلم الواحد؛ لأن ذلك الواحد تربو مصلحة إسلامه على مفسدة أولئك الكفار، وأنهم كالعدم الصرف بالنسبة إلى نور الإيمان وعبادة الرحمن فتأمل ذلك.
وبالجملة فعقد الجزية لما كانت ثمرته توقع الإيمان من الأصل أو من أحد الذراري الذي لا يعادله شيء من ذلك الكفر الواقع من غيره لا مجرد تحصيل مصلحة تلك الدراهم المأخوذة منه - كان من آثار رحمة اللَّه تعالى، ومن الشرائع الواقعة على وفق الحكمة الألهية؛ فلذا أباحته القواعد الشرعية، ولم يُلتفت إلى قول بعض الطاعنين في الدين في إيراده سؤالًا في الجزية: إن شأن الشرائع دفع أعظم المفسدتين بإيقاع أدناها، وتفويت المصلحة الدنيا بدفع المفسدة العليا، ومفسدة الكفر تربو على مصلحة المأخوذ من الجزية من أموال الكفار
(1) أخرجه مالك في الموطأ (241)، والنسائي (1430)، وأبو داود (1046)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (924).
(2)
أخرجه البخاري (3170)، ومسلم (222).