الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإسلام -بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الأرض- لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من وجهه، ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق؛ على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار بلا إكراه منه ولا من تلك العوائق المادية كذلك.
وإذن؛ فإن الوسيلة العملية لضمان إزالة العوائق المادية وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت نفسه -هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق حتى تستسلم وتعلن استسلامها بقبول إعطاء الجزية فعلًا.
وعندئذ تتم عملية التحرير فعلًا، بضمان الحرية لكل فرد أن يختار دين الحق عن اقتناع. فإن لم يقتنع بقي على عقيدته وأعطى الجزية لتحقيق عدة أهداف:
أولها: أن يعلن بإعطائها استسلامه وعدم مقاومته بالقوة المادية للدعوة إلى دين اللَّه الحق.
وثانيها: أن يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه، وماله، وعرضه، وحرماته التي يكفلها الإسلام لأهل الذمة الذين يؤدون الجزية فيصبحون في ذمة المسلمين وضمانتهم، ويدفع عنها من يريد الاعتداء عليها من الداخل أو من الخارج بالمجاهدين من المسلمين.
وثالثها: المساهمة في بيت مال المسلمين الذي يضمن الكفالة والإعاشة لكل عاجز عن العمل؛ بما في ذلك أهل الذمة بلا تفرقة بينهم وبين المسلمين دافعي الزكاة. (1)
الثانية: الدعوة إلى الإسلام عن طريق معايشة المسلمين، والإطلاع على سلوكياتهم التابعة لشريعة الإسلام
.
وذلك لأنهم إذا بقوا بين المسلمين ورأوا تعاملهم، ورأوا دين الإسلام وسماحته، وما عليه المسلمون من التواصل، والتراحم، والتعاطف - أحبوا دينهم، ولربما نشأت ذراريهم وقد رأوا عزة الإسلام فيتأثرون به، حتى حفظ في البلدان التي فتحت على هذا الوجه أنه لم تمضِ ثلاثة أجيال إلى أربعة أجيال على الأكثر إلا أسلم منهم الكثير، فهذا نوع من الاستدراج للدخول في الإسلام، ولو بعد حين.
(1) في ظلال القرآن لسيد قطب (4/ 11)، وانظر موسوعة الدفاع عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود أن يلتزم المسلمون بهذا، فإذا رأى الذمي أن له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم، وإذا وقف في المواقف المحرجة ورأى نصرة الإسلام له - أحب هذا الإسلام، فإن النفوس جُبِلت على حب من أحسن إليها، وهذا الإحسان من المسلم فيه نوع من الاستمالة لقلبه، والتأليف له للإسلام، وكل هذه أسرار عظيمة، وصدق اللَّه عز وجل إذ يقول:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) فهو نوع من الحكمة البالغة في إقناع الناس بهذا الإسلام، فهم إذا لم يسلموا عن طريق مواجهتهم بالحكمة والموعظة الحسنة - ربما أثر فيهم تعامل المسلمين، ووقوف المسلمين معهم، ونصرتهم لهم؛ فيكون سببًا في دخولهم في دين الإسلام، ورضاهم به، فكان عقد الذّمّة للدّعوة إلى الإسلام لا للرّغبة أو الطّمع فيما يؤخذ منهم من الجزية. (1)
وبهذا يعلم الفرق بين أخذ المال على هذا الوجه وإقراره على دينه، وبين أخذ المال مقابل الإقرار على الزنا؛ فإن الأول فيه من المصلحة رجاء الإسلام، والثاني مفسدة صرف لا مصلحة فيها.
ولقد أورد السرخسي (2) في المبسوط هذه المسألة بعينها، وأجاب عنها فقال:
وقد طعن بعض الملحدين قال: كيف يجوز تقرير الكافر على الشرك الذي هو أعظم الجرائم بمال يؤخذ منه، ولو جاز ذلك جاز تقرير الزاني على الزنا يؤخذ منه؟
والكلام في هذا يرجع إلى وجوه:
الأول: في إثبات وجود اللَّه تعالى، وأن هذا شرعه، وأنه حكيم لا يسأل عما يفعل.
والثاني: في إثبات النبوة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن اللَّه تعالى.
الثالث: المقصود ليس هو المال بل الدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه؛ لأنه بعقد الذمة يترك القتال أصلًا، ولا يقاتل من لا يقاتل ثم يسكن بين المسلمين فيرى محاسن الدين، ويعظه واعظ فربما يسلم، إلا أنه إذا سكن دار الإسلام فما دام مصرًا على كفره لا يُخَلّا عن
(1) شرح زاد المستنقع للشنقيطي كتاب الجهاد باب عقد الذمة.
(2)
نسبة إلى سرخس بفتح أوله وسكون ثانيه، وفتح الخاء وقيل بتحريك ثانيه؛ والأول أشهر، وهي مدينة قديمة من مدن خراسان (3/ 208).