الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع زوجته، ولكن إذا رمت المرأة زوجها بالزنا فالراجح أنها لا تلاعنه؛ إذ من أسباب الملاعنة: نفي الولد، وهذا شيء لا يتعلق بالمرأة بل تأتي بالشهود أو يقام عليها الحد. (1)
الوجه الرابع: لماذا تقع الملاعنة بين الزوجين دون غيرهما
؟
قال الفخر الرازي: إنما اعتبر الشرع اللعان في الزوجات دون الأجنبيات لوجهين:
أ- أنه لا معرّة على الرجل في زنا الأجنبية والأولى له سترهُ، أما زنا الزوجة فيلحقه العار والنسب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه.
ب - إن الغالب المتعارف من أحوال الرجل مع امرأته أنه لا يقصدها بالقذف إلا عن حقيقة، فإذا رماها فنفس الرمي يشهد بكونه صادقًا إلا أن شهادة الحال ليست بكاملة فضم إليها ما يقويها من الإيمان. (2)
وقال السعدي: وإنما كانت شهادات الزوج على زوجته دارئة عنه الحد؛ لأن الغالب أن الزوج لا يقدم على رمي زوجته التي يدنسه ما يدنسها إلا إذا كان صادقًا، ولأن له في ذلك حقًا وخوفًا من إلحاق أولاد ليسوا منه به، ولغير ذلك من الحِكم المفقودة في غيره فقال: نهى شيء، ولا يبدل شيء بشيء، وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته، لا بالعكس، وأن الشبه في الولد مع اللعان لا عبرة به، كما لا يعتبر مع الفراش، وإنما يعتبر الشبه جث لا مرجح إلا هو (3).
الوجه الخامس: الحكمة من نزول آيات اللعان
.
وهذه الآياتِ فيها رحمة من اللَّه تبارك وتعالى بعباده؛ لأن النساء يختلفن في العفة والبُعد عن الوقوع في الفاحشة، فلو أن اللَّه تبارك وتعالى أوقف الزوج بين الخيارات الثلاثة: بين أن يَقْتُل فيُقْتَل، وبين أن يسكت على الغيظ، وبين أن يقذف فيُجْلَد الحد، والعياذ باللَّه! لكان في ذلك من البلاء ما لا يعلمه إلا اللَّه، فنزلت هذه الآياتِ رحمة من اللَّه بعباده، ولطفًا من اللَّه
(1) سلسلة التفسير للعدوي (33/ 7).
(2)
تفسير الرازي (11/ 259).
(3)
تفسير السعدي (562).
بخلقه، ولذلك قال العلماء: إن الغالب في الزوج أن لا يقدم على تهمة زوجته إلا إذا كان عنده ما يوجب ذلك، فلا يعقل أن الإنسان يفسد فراشه وينفي ولده إلا وهو معتمد على دليل، ولذلك كان هذا الحكم من الشرع قمةً في السوية والعدالة، ذلك أن اللَّه عز وجل لو قال لنبيه أو أوحى لنبيه: أن اقبل قذف الأزواج، وأقم على الزوجات الحد مطلقًا لكان في ذلك ضرر بالزوجات، ولفُتِح باب انتقام الأزواج من زوجاتهم، ولو قال بالعكس: لا تَقْبَل شهادة الزوج مطلقًا، وأقم عليه حد القذف لكان في ذلك من الضرر بالرجال ما لا يعلمه إلا اللَّه، ولكنَّ اللَّه عز وجل أقام الميزان العدل، فأمره أن يقيم هذه الشهادة، وهي شهادات اللعان، خمس من الزوج، وخمس من الزوجة بالغة في النكال والعقوبة والعياذ باللَّه، يُوقف عند الخامسة فيُذكَّر باللَّه عز وجل، وتُوقف المرأة عند الخامسة فتذكر باللَّه عز وجل، وكل يمين من هذه الخمس بمثابة الشاهد، فما أنسبه من حكم! وما أعدله من شرع! . (1)
وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج، يناسب دقة الحالة وحرج الموقف. ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته، وليس له من شاهد إلا نفسه، فعندئذ يحلف أربع مرات باللَّه إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا، ويحلف يمينًا خامسة أن لعنة اللَّه عليه إن كان من الكاذبين، وتسمى هذه شهادات؛ لأنه الشاهد الوحيد، فإذا فعل أعطاها قدر مهرها، وطلقت منه طلقة بائنة، وحق عليها حد الزنا وهو الرجم، ذلك إلا أن ترغب في درء الحد
(1) تفسير سورة النور للشنقيطي (3/ 26).
قلت: وخلاصة ما تقدم من حكمة مشروعية اللعان: أن اللَّه لم يجعل الحكم في ذلك الجلد أو الرجم، لأن اللعان خاص بالزوجين، وأن الزوج له حالات ثلاث:
أ- أن يقتل زوجته، فيقتل بها قصاصًا حكمًا بالظاهر وتوكل سريرته إلى اللَّه.
ب - إذا عجز عن الإتيان بأربعة شهود يحد حد القذف.
ج - أن يلاعن زوجته وتحق عليه اللعنة إن كان كاذبًا، ويحق غضب اللَّه عليها إن كانت كاذبة، ويفرق بينهما، ولا يلحقه نسب الولد، ثم نزيد فنقول للمعترض: كيف تستدل علينا بشيء أنت تنكره؟ قديما أنكرت الجلد فكيف تستدل به الآن؛ واستبشعت الرجم من قبل فالآن نقول لك: (أثبت العرش ثم انقش)، وانظر تفسير القشيري (5/ 305).
عنها؛ فإنها عندئذ تحلف باللَّه أربع مرات إنه كاذب عليها فيما رماها به، وتحلف يمينًا خامسة بأن غضب اللَّه عليها إن كان صادقًا وهي كاذبة؛ بذلك يدرأ عنها الحد، وتبين من زوجها بالملاعنة، ولا ينسب ولدها إن كانت حاملًا إليه بل إليها، ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد، وقد عقب على هذا التخفيف والتيسير، ومراعاة الأحوال والظروف بقوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)} . ولم يبين ما الذي كان يكون لولا فضل اللَّه ورحمته بمثل هذه التيسيرات وبالتوبة بعد مفارقة الذنوب لم يبينه ليتركه مجملًا مرهوبًا يتقيه المتقون، والنص يوحي بأنه شر عظيم. (1)
وَلَوْلَا تَفَضُّلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْلَا رَحْمَتُهُ بِكُمْ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ فِي قَبُولَ تَوْبَتِكُم فِي كُلِّ آنٍ، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ، وَفِعْلِهِ، وَحُكْمِهِ، وَمِنْهَا مَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ اللِّعَانِ، لَفَضَحَكُمْ، وَلَعَاجَلَكُمْ بالعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ سَتَرَ عَلَيْكُمْ، وَدَفَعَ عَنْكُم الْحَدَّ باللِّعَانِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ حَدُّ القَذْفِ، مَعَ أَنَّ قَرَائِنَ الأَحْوَالِ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ؛ لأَنَّهُ لَا يَفْتَرِي عَلَى زَوْجَتِهِ، لأَنَّهُمَا مُشْتَرِكانِ فِي الفَضِيحَةِ.
وَلَوْ جَعَلَ شَهَادَةَ الرَّجُلِ مُوجِبَةً لِحَدِّ الزنا وَحْدَهَا لَكَثُرَ افْتِراءُ الأَزْوَاجِ عَلى زَوْجَاتِهِمْ لِضَغِينَةٍ قَدْ تَكُونُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ جَعَلَ شَهَادَاتِ كُلِّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَعَ الجَزْمِ بِكَذِبِ الآخَرِ تَدْرَأَ عَنْهُ العُقُوبَةَ الدُّنْيَويَّةَ (2).
ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك (اللعان) لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر صدقه لأنه أعرف بحال زوجته، وأنه لا يفترى عليها لاشتراكهما في الفضاحة، وبعد ما شرع لهم لو جعل شهاداته موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر إليها، ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له، ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة، فجعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما حتمًا دارئة لما
(1) في ظلال القرآن (5/ 254).
(2)
أيسر التفاسير لأسعد حومد (1/ 2681).