الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عَمَرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قال: ليس هذا بالنكاح، إنما هو الجماع، لا يزني بها إلا زانٍ أو مشرك.
وهذا إسناد صحيح عنه. . وقال قتادة، ومقاتل بن حَيّان: حرم اللَّه على المؤمنين نكاح البغايا. (1)
وأما أبو السعود فقد رجح أن النكاح بمعنى العقد، وأنه حكمٌ مؤسَّسٌ على الغالبِ المُعتادِ جيءَ به لزجرِ المؤمنينَ عن نكاحِ الزَّواني بعدَ زجرِهم عن الزِّنا بهنَّ. . . وعدمِ التَّعرضِ في الجُملة الثَّانيةِ للمشركةِ للتنبيهِ على أنَّ مناطَ الزَّجرِ والتَّنفيرِ هو الزِّنا لا مجردُ الإشراكِ وإنَّما تعرَّضَ لها في الأُولى إشباعًا في التَّنفير عن الزَّانيةِ بنظمها في سلكِ المُشركةِ {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} أي نكاحُ الزَّواني {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لما أنَّ فيهِ من التَّشبهِ بالفسقةِ والتَّعرضِ للتُّهمةِ والتَّسببِ لسوءِ القالةِ والطَّعنِ في النَّسبِ، واختلالِ أمرِ المعاشِ، وغيرِ ذلكَ من المفاسدِ ما لا يكادُ يليقُ بأحدٍ من الأداني والأراذلِ فضلًا عنِ المُؤمنينَ، ولذلكَ عبَّر عن التنزيهِ بالتَّحريمِ مُبالغةً في الزَّجرِ. وقيل: النَّفيُ بمعنى النَّهي وقد قُرىءَ بهِ. والتَّحريمُ على حقيقته والحكمُ إمَّا مخصوصٌ بسبب النُّزولِ أو منسوخٌ بقولهِ تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} ، فإنَّه متناولٌ للمسافحاتِ. (2)
وحول القول بالنسخ من عدمه يذكر أبو جعفر النحاس
للعلماء في الآية أربعة أقوال:
الأول: منهم من قال: هي منسوخة.
الثاني: ومنهم من قال: النكاح هاهنا الوطء.
(1) تفسير ابن كثير (6/ 9).
(2)
تفسير أبي السعود (5/ 26) بتصرف.
الثالث: ومنهم من قال: الزاني هنا المجلود في الزنا لا ينكح إلا زانيةً مجلودةً في الزنا أو مشركةً وكذا الزانية.
الرابع: ومنهم من قال: هي الزانية التي تتكسب بزناها وتنفق على زوجها واحتج بأن الآية في ذلك أنزلت.
فممن قال: هي منسوخةٌ، سعيد بن المسيب. . . قال ابن عمر: إنها نسخت بالآية التي بعدها {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (النور: 32)، فدخلت الزانية في أيامى المسلمين وهذا القول الذي عليه أكثر العلماء وأهل الفتيا. . . (1)
ونقل عن الشافعي قوله: القول فيها كما قال سعيد بن المسيب إن شاء اللَّه أنها منسوخة ثم قال: وهذا الحديث يجوز أن يكون منسوخًا كما نسخت الآية في قول سعيد بن المسيب، وانتهى به القول إلى اختياره قول الإمام الشافعي من كون الآية منسوخة. . (2)
ولما تردد القول عند العلماء في هذه الآية بين النسخ وعدمه صحح ابن جزي قول من قال: إنه عني الوطء: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية: معناها ذم الزناة وتشنيع الزنا، وأنه لا يقع فيه إلا زان أو مشرك، ولا يوافقه عليه من النساء إلا زانية أو مشركة، وينكح على هذا بمعنى: يجامع. (3)
ورجح ابن نجيم الحنفي المصري: أن قَوْله تَعَالَى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} منْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} عَلَى مَا قِيلَ بِدَلِيلِ الحدِيثِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه: إنَّ امْرَأَتِي لَا تَدْفَعُ يَدَ لَامِسٍ، فَقَالَ عليه السلام:"طَلِّقْهَا"، فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّهَا وَهِيَ جَمِيلَة، فَقَالَ عليه السلام:"اسْتَمْتِعْ بِهَا"، وَفِي
(1) واختاره الآلوسي ورجحه في (روح المعاني 13/ 325).
(2)
الناسخ والمنسوخ (1/ 582)، وانظر الناسخ والمنسوخ للكرمي (1/ 149)، والمقري (1/ 117)، وابن سلامة (1/ 20) بتصرف.
(3)
التسهيل لعلوم التنزيل 1/ 1213 باختصار.
المُجْتَبَى مِنْ آخِرِ الحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ: لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَطْلِيقُ الْفَاجِرَةِ وَلَا عَلَيْهَا تَسْرِيحُ الْفَاجِرِ إلَّا إذَا خَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَفَرَّقَا. (1)
وفي فتاوى ابن عليش: وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَيِّنَةٍ فِي نَفْسِهَا اسْتُحِبَّ لَهُ فِرَاقُهَا مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ إلَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهَا نَفْسُهُ لِحَدِيثِ: (إنَّ زَوْجَتِي لَا تَرُدَّ يَدَ لَامِسٍ)، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ تُلْحِقَ بِهِ وَلَدَ غَيْرِهِ. ونقل عن الأصمعي قوله في تأويل الحديث: إنَّمَا كَنَّى عَنْ بَذْلِهَا الطَّعَامَ، وَمَا يُدْخِلْهُ عَلَيْهَا لَا غَيْرُ. (2)
وقال الإمام الشَّافِعِيُّ: فَالِاخْتِيَارُ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يَنْكِحَ زَانِيَةً وَللْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَنْكِحَ زَانِيًا، فَإِنْ فَعَلَا فَلَيْسَ ذلك بِحَرَامٍ على وَاحِدٍ مِنْهُما لَيْسَتْ مَعْصِيَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في نَفْسِهِ تُحَرِّمُ عليه الحَلَالَ إذَا أَتَاهُ، قال: وَكَذَلِكَ لو نَكَحَ امْرَأَةً لم يَعْلَمْ أنها زَنَتْ فَعَلِمَ قبل دُخُولِهَا عليه أنها زَنَتْ قبل نِكَاحِهِ أو بَعْدَهُ لم تَحْرُمْ عليه، ولم يَكُنْ له أَخْذُ صَدَاقِهِ منها وَلَا فَسْخُ نِكَاحِهَا، وكان له إنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَ، وَكَذَلِكَ إنْ كان هو الذي وَجَدَتْهُ قد زَنَى قبل أَنْ يَنْكِحَهَا أو بعد ما نَكَحَهَا قبل الدُّخُولِ أو بَعْدَهُ فَلَا خِيَارَ لها في فِرَاقِهِ وَهِيَ زَوْجَتُهُ بِحَالِهَا وَلَا تَحْرُمُ عليه، وَسَوَاءٌ حُدَّ الزَّانِي مِنْهُمَا أو لم يُحَدَّ، أو قَامَتْ عليه بَيِّنَةٌ أو اعْتَرَفَ لَا يحرِّمُ زِنَا وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا زِنَاهُمَا، وَلَا مَعْصِيَةٌ من الْمَعَاصِي الحَلَالَ إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ دِينَاهُمَا بِشِرْكٍ وَإِيمَانٍ. . .
وقال أيضًا: أخبرنا سُفْيَانُ عن يحيى بن سَعِيدٍ عن سَعِيدِ بن المُسَيِّبِ أَنَّهُ قال: هِيَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} فَهِيَ من أَيَامَى المُسْلِمِينَ؛ فَهَذَا كما قال ابن المُسَيِّبِ إنْ شَاءَ اللَّه (يعني أنها منسوخة)، وَعَلَيْهِ دَلَائِلُ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. (3)
واستطرد القرطبي في معنى الآية، وأن مقصد الآية تشنيع الزنا، وتبشيع أمره، وأنه محرمٌ على المؤمنين.
(1) البحر الرائق (8/ 71).
(2)
فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (3/ 119 - 120).
(3)
الأم (5/ 12).
ويريد بقوله: {لَا يَنْكِحُ} أي لا يطأ؛ فيكون النكاح بمعنى الجماع. فالمعنى: الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين، أو من هي أخس منها من المشركات. وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء. وأنكر ذلك الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب اللَّه تعالى إلا بمعنى التزويج. وليس كما قال، وفي القرآن:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (البقرة: 230) وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء، . . . فهذا قول.
أو: أنها نزلت في شأن بغي يقال لها عناق، وكانت صديقة مرثد، قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
أو: أنها مخصوصةٌ في رجلٍ من المسلمين أيضًا استأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأةٍ يقال لها أم مهزول. . . ثم قال: في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح. وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته، وهذا على أن الآية منسوخة. وقيل إنها محكمة. . .
ثم ذكر قول ابن خويز منداد: من كان معروفًا بالزنا أو بغيره من الفسوق معلنًا به فتزوج إلى أهل بيت ستر وغرهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه، وذلك كعيب من العيوب؛ فأما من لم يشتهر بالفسق فلا.
ثم قال: قال قوم من المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة، وعند هؤلاء: من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها. وقال قوم من هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني، بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح. (1)
(1) انظر تفسير القرطبي بتصرف (12/ 167 - 171).